لا شك أن حرب روسيا ضد أوكرانيا تساهم في إعادة تشكيل الوضع الجيواستراتيجي في أوروبا وآسيا، كما تثير الجدل داخل دوائر صنع السياسة الدفاعية الأميركية، بشأن كيفية هيكلة القوات الأميركية وتموضعها وقدرتها على حشد الموارد لأطول فترة ممكنة، وفق "المركز الأطلسي".
وبالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ثمة دروس كبيرة من الحرب الجارية في أوكرانيا، لكن هذه الدروس تواجه رياحاً معاكسة خطيرة ناجمة عن التفكير المتأصل في السياسة الدفاعية الأميركية على مدى العقود الثلاثة الماضية.
وفي السنوات الأخيرة خاضت الولايات المتحدة "حروباً مجدولة" وفقاً للجدول الزمني الأميركي، مع سيطرتها على جميع المجالات والخدمات اللوجستية دون منازع، ما أدى إلى تغيير التوقعات بشأن ما يمكن أن يحتاجه الجيش الأميركي عندما يتعلق الأمر بمستويات الاستعداد والتسليح، لخوض الحروب الحالية والمستقبلية.
الكم مقابل النوع
ويظل الدرس العام المستفاد من الحرب في أوكرانيا، هو مدى توفر الكم المطلوب من الأسلحة والذخيرة لخوض حرب تقليدية على مستوى الدول، إذ إن جميع الجيوش الغربية تقريباً ليست مستعدة للانخراط في صراعات يُستهلك خلالها هذا الكم الضخم من الأسلحة والذخائر كما يحدث في أوكرانيا حالياً، أو بالأحرى، لا توجد دولة في حلف شمال الأطلسي "الناتو" اليوم، باستثناء الولايات المتحدة، تمتلك مخزوناً كافياً من الدروع والذخائر يمكن أن يستمر لفترة أطول من بضعة أسابيع أو بضعة أشهر في أحسن الأحوال في معارك شبيهة بتلك الجارية بأوكرانيا.
وألقى النزاع في أوكرانيا الضوء على أهمية توفر القدرة على إنتاج الأسلحة والذخيرة بأعداد كبيرة عند خوض حرب تقليدية مع خصم يتمتع بقدر كبير من الندية، بل إن النزاع الأوكراني ينبغي أن يضع حداً للاهتمام الزائد بسياسة التركيز على نوعيات محددة من الأسلحة القادرة على توجيه ضربات دقيقة، على حساب كم وأعداد الأسلحة ككل، وهي سياسة هيمنت على ثقافة الاستحواذ الدفاعي الأميركي في السنوات الأخيرة.
وأكدت حرب أوكرانيا على حقيقة ثابتة في الحروب التقليدية بين الدول وهي أن الكمية تفوق النوعية أهمية عندما يتعلق الأمر بالأسلحة، كما أن ضخ عدد كبير من الأسلحة في أرض المعركة يحقق نتائج فورية، أما الضربات الدقيقة التي تستهدف قوات العدو المتمركزة في الخطوط الخلفية، أو مستودعات الذخيرة، أو السلاسل اللوجستية، فربما تحتاج بعض الوقت.
مبادئ قديمة
ويحتاج الجيش الأميركي إلى تبني المبادئ القديمة المتمثلة في الاهتمام بأعداد وكميات الأسلحة التي يتم إنتاجها، وهي السياسة نفسها التي مهدت الطريق لتحقيق النصر في الحرب العالمية الثانية، وسمحت لها بردع الاتحاد السوفييتي وهزيمته في نهاية المطاف خلال الحرب الباردة.
كما لا تنفك حرب أوكرانيا في أن تبرهن على حقيقة أن كل مؤسسة عسكرية في أي دولة بحاجة إلى أعداد وكميات ضخمة من الأسلحة والذخائر لمقارعة ما يملكه العدو من أسلحة وذخائر، وهي حقيقة كانت غائبة تقريباً عن تفكير الولايات المتحدة بشأن طبيعة الحروب منذ نهاية الحرب الباردة.
ومنذ أوائل التسعينيات طرأ تغيير جوهري على تفكير المؤسسة العسكرية الأميركية بشأن هيكل قوات الجيش الأميركي، وخاصة القوات البرية، التي اكتسبت "عقلية القوات الجوية"، ووجهت اهتمامها نحو التطور التكنولوجي المتزايد على حساب كميات المعدات والأسلحة التي أخذت في الانخفاض.
لكن عندما يتعلق الأمر بالأرقام، فكل دولة بحاجة إلى عدد ضخم من الأسلحة والذخائر لمواجهة ما يملكه العدو من أسلحة وذخائر، أو بعبارة أخرى، يجب النظر إلى ما يمكن أن يفعله العدو والتفوق عليه.
على سبيل المثال، كان لدى ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية دبابات تتفوق في نواحٍ عديدة على الدبابات الأميركية، ولكن في النهاية تغلبت دبابات "Sherman" الأميركية الأكثر عدداً على دبابات "Tiger" و"Panther" الألمانية.
وفي حين أن تدريب الجيش الأمريكي المكثف والتقدم التكنولوجي يمنح جيوش الدول الغربية ميزة، إلا أنها لن تكون فعّالة عندما تواجه بأعداد هائلة من الأسلحة والمعدات لدى جيش العدو، فإذا انتهى الأمر بنشوب حرب بين الناتو وروسيا، أو انتهى الأمر بالولايات المتحدة وحلفائها بآسيا في حرب مع الصين، ستكون القوة البشرية، والمرونة في إنتاج الأسلحة والذخائر هي العوامل الحاسمة في هذه المعارك.
أما في ظل صراع طويل الأمد، فقد يكون العامل الحاسم في المعركة هو القدرة على إعادة حشد القوات، سواء من الأفراد أو المعدات، لتحل محل القوات التي استُنزفت في ساحة المعركة، وهنا يمكن أن يلعب التعلق المفرط بالأنظمة التكنولوجية المتقدمة دوراً ضد الولايات المتحدة، كونها ستحتاج إلى تعويض خسائرها بشكل أسرع من العدو، الذي من المرجح أن ينتج أنظمة وأسلحة أبسط وأقل تكلفة وبشكل أسرع.
القوة البشرية موضع شك
كما أن مبدأ الكمية ينطبق كذلك على القوة البشرية، فالولايات المتحدة وحلفاؤها يتعين عليهم أن ينظروا فيما إذا كان الوضع الحالي داخل المؤسسات العسكرية الغربية مناسباً لتشكيل جيوش كبيرة بالحجم المطلوب في حال اندلاع حرب تقليدية كبرى مع روسيا أو الصين أو كلتيهما، كما أن هناك بعداً جيوستراتيجياً أكبر يجب أن يؤخذ في الحسبان، يتمثل في كيفية تنظيم ونشر القوات الأميركية وقوات الناتو في أوروبا، خاصة على طول الجبهة الشرقية.
ويعد انضمام فنلندا إلى الناتو، إضافة إلى السويد التي ما زالت تستوفي إجراءات الانضمام، سبباً في إعادة تحديد البيئة الجيوستراتيجية في أوروبا، وتحويل مركز ثقل الحلف الأطلسي إلى وسط وشمال شرق أوروبا، ومع ذلك فعندما يتعلق الأمر بنشر قوات كبيرة، فهناك دولتان فقط على طول الممر بين الشمال وبحر البلطيق والبحر الأسود، تمتلكان العدد اللازم من السكان للقيام بهذه المهمة، وإحدى هاتين الدولتين هي بولندا، في حين تطمح الدولة الأخرى، وهي أوكرانيا إلى أن تصبح عضواً في الناتو مستقبلاً.
أما فنلندا فهي قادرة على نشر قوة قوامها نحو 280 ألف جندي في حالات الطوارئ، لكن عدد سكانها الصغير البالغ 5.5 مليون نسمة يضع قدرتها على نشر هذه القوات بشكل مستدام موضع شك، وبالتالي فهذا سبب آخر يجعل ضم أوكرانيا إلى الناتو، لا يقتصر فقط على إعادة التأكيد على القيم الأساسية التي أٌسس عليها الحلف، بل يمتد إلى أساسيات القوة البشرية التي ستكون ضرورية لاتخاذ موقف رادع وفعال ضد أي عدوان روسي محتمل في المستقبل.