أصبحت العودة المحتملة للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، عنواناً بارزاً في وسائل الإعلام الأوروبية، ويرتبط، في الغالب، بتداعيات محتملة يجب الاستعداد لها في حال عودته إلى المنصب، فما هو مستقبل العلاقات بين أوروبا وواشنطن في حال عودة ترمب؟
شهدت العلاقات بين ضفتي الأطلسي، خلال فترة رئاسة ترمب بين 2017 و2021، حالة من المد والجزر، ولم تخل من توتر سياسي واقتصادي؛ إذ لم يُظهر الرئيس السابق حماساً تجاه حلف الناتو، كما اتخذ موقفاً مغايراً تجاه العلاقات مع روسيا، ولم يبد استعداداً لخصومة تصل إلى حدود الحرب مع موسكو.
ملفات خلافية كثيرة كانت عالقة بين الاتحاد الأوروبي وإدارة ترمب في ولايته الرئاسية الأولى، ولا يزال معظمها دون حل حتى الآن، بل إن بعضها ازداد تعقيداً مع مرور الوقت. كما أن أوروبا نفسها، قبل 4 سنوات، لم تكن كما هي عليه اليوم. بالإضافة إلى أن العالم شهد منذ 2020 أزمات عدة أثرت في دول العالم كافة، وهو ما يطرح تساؤلات في الأوساط السياسية الأوروبية عن مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة في حال عودة ترمب إلى البيت الأبيض.
وتوقع مراقبون ومحللون، ألا يتغير موقف ترمب في بعض سياساته الخارجية التي اعتمدها مع الأوروبيين خلال فترة رئاسته، لكنه سيكون "أكثر دبلوماسية وأقل فجاجة" في خطواته نحو تلك السياسات. كما أن الدول الأوروبية باتت تعرف كيف يفكر، وما هي حدود الحوار المشترك بشأن القضايا ذات الاهتمام المتبادل بينهما.
معضلة حرب أوكرانيا
من أبرز الملفات المقلقة بالنسبة للأوروبيين في احتمال عودة ترمب، هي الغزو الروسي لأوكرانيا، فلطالما تعهد الرئيس الأميركي السابق بإنهاء الحرب خلال 24 ساعة عبر التفاوض مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وقال الباحث في شؤون الأمن والدفاع، بينجامين تالز، إن الرئيس الأميركي السابق يعارض حرب أوكرانيا، وأياً كان عنوان مفاوضاته مع بوتين، فهي تحمل تنازلاً لصالح الروس، إما من خلال العودة إلى أوضاع ما قبل فبراير 2022، أو عبر تثبيت واقع جديد لا يضمن استمرار السلام في القارة العجوز على المدى الطويل.
وأضاف تالز، لـ "الشرق"، أن الأوروبيين يدركون أن رفض مقترحات ترمب للسلام، يعني التخلي تماماً عن الدعم العسكري والاستخباراتي الأميركي، وبالتالي الاعتماد على إمكانات دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا التي لا ترغب في تهديد، أو إضعاف، شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
وأشارت الخبيرة الإيطالية في الشؤون الدولية، ناتالي ثوتشي، إلى خشية الأوروبيين من إجبار ترمب كييف على السلام مع موسكو.
ولا يحتاج هذا، في تقديرها، إلى أكثر من وقف الدعم الأميركي لأوكرانيا على جبهات القتال، وتعطيل أي محاولة من دول جوار أوكرانيا لتعويض غياب الولايات المتحدة إن أمكنها ذلك أصلاً.
وشددت ثوتشي، في حديث مع صحيفة "الجارديان" البريطانية، على أن الانسحاب الأميركي من جبهة المواجهة الأوكرانية، يشجع الرئيس الروسي على مزيد من التمدد داخل أوروبا. وهنا تظهر مخاوف من دور سلبي آخر يلعبه ترمب على مستوى حلف الناتو، يزيد من أعباء أوروبا، ويُضعف موقفها أمام الخطر الروسي.
التخلي عن الناتو
ولم يبد ترمب، خلال رئاسته، تمسكاً بحلف شمال الأطلسي، وهدد بالانسحاب منه إن بقيت بلاده الممول والراعي الرئيسي للحلف.
واليوم، تغيّر الحال من ناحية استعداد غالبية الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها العسكري، وتخصيص قدر أكبر من ناتجها القومي لصالح الناتو. ولكن هل يرضي هذا الرئيس الأميركي السابق؟
في ديسمبر الماضي، اتخذ الكونجرس الأميركي إجراءً يُصعِّب على الولايات المتحدة الانسحاب من الناتو، ولكن بحسب تقرير حديث لمجلة "فورين أفيرز"، يمكن لترمب عدم الوفاء بالتزامات بلاده تجاه الحلف، أو المماطلة في تطبيق بنود ميثاقه، خاصة المادة الخامسة التي تدعو للدفاع عن أي عضو يتعرض لاعتداء.
وبعد غزو روسيا لأوكرانيا، تبنى حلف الناتو مفهوماً استراتيجياً جديداً للدفاع يحدد حجم وبنية القوات المسلحة المطلوبة في مواجهة أزمة ما، إذ يمكن نشر 100 ألف جندي في غضون 10 أيام من بدء الأزمة، ثم مضاعفة هذا العدد بين اليوم العاشر إلى الثلاثين، ثم يزيد الرقم حتى يصل إلى نصف مليون جندي مجهزين تماماً، بحسب المجلة.
وقال تالز: "يصل عدد العسكريين الأميركيين الفاعلين إلى نحو 1.4 مليون مقاتل، في حين يبلغ تعداد أفراد الجيوش الأوروبية مجتمعة 1.3 مليون. صحيح أن الأرقام متقاربة إلى حد بعيد، ولكن الجاهزية الميدانية، والتقنية تختلف كثيراً بين الفريقين، والكفة غالبة لصالح القوات الأميركية".
استراتيجية أوروبية دفاعية
وأشارت "فورين أفيرز" إلى أن "ولاية ترمب الأولى" كانت محفزاً لاعتماد الاتحاد الأوروبي على نفسه، ولكن العمل العسكري الداخلي لم يتبلور بشكل كاف. أما اليوم فإن عودة الرئيس السابق إلى البيت الأبيض، ستضع الأوروبيين أمام استحقاق عاجل لتعزيز قدرات الدفاع والهجوم لدول الاتحاد منفردة ومجتمعة.
وقال المفوض الأوروبي الفرنسي، تييري بريتون، الشهر الماضي، إن ترمب أخبر رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، عام 2020، أنه لن يهب لنجدة الاتحاد الأوروبي إذا تعرض لخطر.
ودعا بريتون، بوصفه مفوض لجنة الدفاع والأمن في التكتل، إلى تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية استعداداً لمرحلة يعود فيها ترمب إلى البيت الأبيض، وقد تظهر خلافات بين الشركاء في حلف شمال الأطلسي.
والاستعداد لأميركا "منعزلة" في العهد الجديد لترمب، يُلزم القارة العجوز باستراتيجية دفاعية عبر تحالف الاتحاد الأوروبي مع المملكة المتحدة. ووفقاً للصحافي المختص في الشؤون الدولية، بول ماسون، يمكن للاستراتيجية الأوروبية أن تواجه روسيا بمفردها إلى حد ما، ولكن ماذا إن وجدت موسكو الدعم من الخارج؟
يلفت ماسون، في مقالة نُشرت على منصة Social Europe، إلى أن الروس يمكن أن يتسلحوا من الصين في مرحلة لاحقة، خاصة إذا وجدوا تراخياً في التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف الناتو. وهنا، سيجد الأوروبيون أنفسهم في مواجهة روسيا والصين على حد السواء، ولن يتمكنوا من تحمل جبهة كهذه بمفردهم.
البيت الداخلي الأوروبي
والخشية من عودة ترمب إلى البيت الأبيض، تتطلب من الاتحاد الأوروبي أيضاً ترتيب بيته الداخلي، وتبني آليات فعالة لاتخاذ قرارات مصيرية خلال السنوات القليلة المقبلة.
وبحسب الزميل في معهد "تشاتام هاوس"، بروس ستوكس، يتوجب على بروكسل إدارة الجبهة الأوكرانية الروسية إن عاد الجمهوريون إلى السلطة في أميركا. ومثل هذه المسؤولية تحتاج إلى تغييرات هيكلية في آلية عمل وقرارات مؤسسات التكتل.
ولفت ستوكس، في مقال نشرته مجلة "بوليتيكو"، إلى أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى تبني مبدأ التصويت وترجيح القرارات بـ"الأكثرية"، بدلاً من "الإجماع"، لإدارة العلاقة مع "أميركا ترمب" و"روسيا بوتين" في الوقت ذاته؛ موضحاً أن دول التكتل ليست على قلب رجل واحد في الخصومة مع موسكو، ولن تعرف الإجماع إزاء قرارات لا بد من اتخاذها لتنظيم العلاقة مع واشنطن على الضفة المقابلة للأطلسي بعد رحيل جو بايدن عن البيت الأبيض.
واستبعد الباحث في الشأن الأوروبي، فادي أديب، حدوث تغيرات جذرية في مؤسسات الاتحاد الأوروبي كنتيجة لعودة ترمب إلى البيت الأبيض. ولكنه يعتقد أن دولا مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، سوف تتحمل عبئاً كبيراً من أجل الوصول لإجماع دول التكتل بشأن قرارات كبيرة منتظرة، العام المقبل، وعلى رأسها كيفية التعامل مع الأصول الروسية المصادرة في الاتحاد الأوروبي، وتسخيرها لعملية إعادة الإعمار في أوكرانيا.
وقال أديب المقيم في بولندا، لـ"الشرق"، إن الاستعصاء الذي واجهه التكتل مؤخراً بسبب معارضة المجر حزمة الدعم الأخيرة لأوكرانيا، ربما يتكرر في حالات عديدة خلال السنوات القليلة المقبلة، وإذا عاد الرئيس الأميركي السابق إلى البيت الأبيض، فتصبح بروكسل بين نارين، أصدقاء روسيا في التكتل من جهة، واليمين الشعبوي المتمدد في أوروبا، والمتحمس لعودة ترمب إلى السلطة، من جهة أخرى.
تحديات ترمب الاقتصادية
ولا تنحصر تداعيات عودة ترمب إلى السلطة على الملفات السياسية والعسكرية التي يعيشها الأوروبيون اليوم. فهناك حصة للاقتصاد الذي يترقب تحديات كبيرة في اتجاهين: الأول هو العبء الإضافي الذي سوف تتحمله دول التكتل للنهوض بالصناعة العسكرية وتمويل الجبهة الأوكرانية، بعد انحسار الدعم الأميركي على يد الجمهوريين، والثاني هو الإجراءات الحمائية التي ينوي ترمب فرضها دعماً للاقتصاد الأميركي.
وبحسب مسؤول البرامج في مؤسسة "فريدريش ناومان" للحوار الأوروبي، لينارت نينتيت، لن يستثني ترمب حلفائه الأوروبيين في التعريفات الجمركية الإضافية التي ينوي فرضها على صادرات العالم إلى الولايات المتحدة، وهنا لا بد للاتحاد الأوروبي من الرد على تلك التكلفة الكبيرة التي تنتظر شركاته ومصانعه بسبب التعريفات.
ولفت نينتيت، في تقرير نشرته المؤسسة تحت عنوان: "المرونة الأوروبية وفرص الاقتصاد العالمي"، إلى أن الاتحاد الأوروبي سيفرض على الواردات الأميركية رسوماً مماثلة لرسوم ترمب، التي لن تقل عن 10%، ولكن ذلك لن يكون كافياً، ولن يحمي سلعاً أوروبية تعتمد بشكل كبير على السوق الأميركية كوجهة للتصدير.