مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، يحاول صناع السياسة والمحللون استشراف ما قد يعنيه فوز الرئيس السابق دونالد ترمب بولاية ثانية في البيت الأبيض، بالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وبالتالي، لحلفائها والمنظمات والأمن الدوليين.
ومن منطلق سياسة "أميركا أولاً"، دفع ترمب خلال ولايته الرئاسية الأولى الولايات المتحدة إلى الهامش على صعيد السياسة الخارجية وحد من تواجدها، وتسببت مقاربته "الانعزالية" إلى حد ما والصدامية في سخط حلفائه المقربين من أوروبا إلى شرق آسيا مروراً بالشرق الأوسط.
لكن الولاية الرئاسية المقبلة تأتي في ظروف عالمية غير مسبوقة تنذر بتشكل خارطة تحالفات جديدة، من الحرب المتواصلة في أوكرانيا والأوضاع المتوترة في الشرق الأوسط على خلفية حرب غزة، التي وضعت المنطقة على صفيح ساخن، إلى الصراع مع الصين الذي يتخذ في الوقت الحالي صبغة اقتصادية وتجارية لكنه يخفي تنافساً على القيادة.
أوكرانيا عرضة لـ"تسوية"
وحتى على بُعد أشهر من الاستحقاقات الانتخابية، كانت للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كلمة في مسار الحرب الروسية الأوكرانية، إذ عرقل طوال أشهر عبر مؤيديه المتشددين في الحزب الجمهوري حزمة مساعدات تعول عليها كييف بشكل كبير لضمان قدرتها على الصمود في ساحة القتال، وطوال هذه المدة تصدى لضغوطات من النواب المعتدلين في حزبه ومن الخارج.
ورغم أن مجلس النواب الأميركي بقيادة زعيمه الجمهوري مايك جونسون قد وافق على حزمة المساعدات التي بلغت قيمتها 61 مليار دولار تشمل مساعدات لأوكرانيا، إلا أن ترمب أظهر أنه حتى وإن كان بعيداً عن البيت الأبيض، فإنه يملك صوتاً لا يمكن تجاهله.
ونقلت شبكة CNN الأميركية عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قوله إنه سيستمع بـ"سرور" إلى أفكار ترمب لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وجاءت تصريحاته بعد تقارير تفيد بأن المرشح الرئاسي الجمهوري قال إنه إذا أعيد انتخابه، فسيضغط على كييف للتوصل إلى اتفاق سلام مع روسيا من شأنه أن يشهد تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها في هذه العملية.
وفي هذا الصدد، يقول الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الطوسة لـ"الشرق"، إن عودة ترمب المحتملة سيكون لها "انعكاساً كبيراً على الحرب الروسية الأوكرانية"، مشيراً إلى أنه معروف عن الرئيس السابق دونالد ترمب أنه "معجب" ويتعاطف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقالها مراراً لو كانت الأمور بيده سيحل إشكالية الحرب الروسية الأوكرانية في عدة ساعات أو عدة أيام.
وأوضح الطوسة أن ما يفهم من تصريحات ترمب هذه أنه "سيفرض بطريقة أو بأخرى على الأوكرانيين أن يقدموا تنازلات جغرافية وسياسية للروس، وسيتوصل من خلال ذلك إلى تفاهمات بين كييف وموسكو، هناك انعكاسات كبيرة على مجرى هذه الحرب".
وخلص الطوسة إلى التأكيد بأن "مجيء ترمب هو خبر حزين وسلبي بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية لأنه سيعمل على ترجيح كفة الروس في هذه الحرب وتمرير أجزاء كبيرة من أوكرانيا إلى السيادة الروسية".
وفي هذا الصدد، يرى خبير الشؤون السياسية والاقتصادية إينار تانجين في تصريحات لـ"الشرق"، أن إشارة ترمب إلى أنه سيعمل على تسوية مسألة أوكرانيا "بسرعة"، يفسره أغلب الناس بأنه سيعمل على سحب الدعم الأميركي، وهو ما من شأنه أن يفرض تسوية إقليمية.
وهذه التسوية الإقليمية، قد تعني التنازل عن أجزاء كبيرة من أوكرانيا لروسيا وفقاً للمسؤول السابق في حلف "الناتو" نيكولاس وليامز، الذي قال لـ"الشرق"، إن هذا التنازل لا يمكن أن تقبله أي حكومة أوروبية، كما أنه سيكون محل نزاع شرس داخل الولايات المتحدة نفسها".
وأضاف وليامز: "مشكلة ترمب هي أنه مغرور ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وهو يعتقد أنه قادر على حل المشاكل العميقة والمعقدة بقوة شخصيته وقوة الولايات المتحدة، وعلى الأرجح سيحاول حل المشكلة الأوكرانية بمفرده، دون استشارة الحلفاء الأوروبيين".
أوروبا خارج "المظلة" الأميركية؟
ومع اقتراب سيناريو "الولاية الثانية"، أصبحت مخاوف أوروبا الأمنية حقيقة واقعة، ورغم بعده عن كرسي السلطة التنفيذية، يعمل ترمب عبر تصريحاته على تقويض حلف الشمال الأطلسي وأمن أقرب حلفاء واشنطن.
وحطم دونالد ترمب الثقة التي بٌني عليها حلف شمال الأطلسي والتي تقوم على الوعد بالالتزام بالدفاع المشترك، بعد تصريحات قال فيها إنه سيشجع روسيا على القيام "بما تريد فعله" إذا فشل أعضاء الحلف في تحقيق مستهدف إنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
وفي ظل هذا "الخطر الداهم"، استنتج حلفاء الأطلسي والأوروبيين على الخصوص، خلاصة مفادها أنه يتعين عليهم البدء في الاستعداد لحماية أمن قارتهم دون التعويل على واشنطن.
واعتبر الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الطوسة أن "احتمال عودة ترمب إلى البيت الأبيض في نوفمبر المقبل، يشكل "كابوساً أمنياً" بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي".
وأشار الطوسة إلى أن "هذه الدول تعتقد بأن ترمب سيمارس ابتزازاً كبيراً على الأمن الأوروبي وسيحاول أن يجعلها تدفع 2% من مدخولها القومي كمشاركة في ميزانية الحلف الأطلسي"، وإذا لم تفعل ذلك، فإن ترمب سينسحب من الحلف وسيترك دول الاتحاد الأوروبي "عارية على المستويين الدفاعي والجيو-استراتيجي".
وفي السياق ذاته، يرى المسؤول السابق في حلف "الناتو" نيكولاس وليامز، أن احتمال وصول ترمب للرئاسة في نوفمبر المقبل، "يملأ الحلفاء الأوروبيين بالخوف، ويهدد بتقويض البنية الأمنية الأوروبية التي تم بناؤها بعناية على مدى 75 عاماً".
وفي مسعى لدرء انتقادات ترمب، استعرض الناتو زيادة في إنفاق الحلفاء الأوروبيين إذ يتوقع أن يصل 20 عضواً هذا العام إلى هدف إنفاق 2 % من الناتج الداخلي الإجمالي على الدفاع.
وأشار وليامز إلى أن "قدرة حلف شمال الأطلسي على الدفاع والردع ضد روسيا، تعتمد على اعتقاد الروس بصدقية الضمانات النووية التي تقدمها الولايات المتحدة لحلفائها".
وأوضح أن عنصر "الوحدة في المسائل الدفاعية ضروري، وإذا أدرك الروس أن الولايات المتحدة لا تشارك بشكل كامل في الأمن الأوروبي، فإن حلف شمال الأطلسي لن يتمكن من أداء وظيفته الأساسية المتمثلة في الردع والدفاع ضد التهديدات التي يفرضها أعضاؤه، وخاصة ضد العدوان الروسي المتزايد".
واعتبر المسؤول السابق في "الناتو" أن الحلف سوف يصبح "مختلاً" إذا أصبحت سياسة ترمب المتمثلة في "إدانته" للحلفاء الذين يخلون بإنفاقهم على الدفاع، حقيقة واقعة.
وأوضح الطوسة أن "هذا التخوف الكبير تعبر عنه حالياً عواصم القرار الدبلوماسي والأمني الأوروبي"، وذكَّر بالتصريحات التي صدرت مؤخراً عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تحدث مجدداً عن ضرورة أن تكون هنالك استقلالية استراتيجية لدول الاتحاد الأوروبي من أجل مواجهة أي احتمال لأن تنسحب واشنطن من المنظومة الأطلسية.
ويتفق خبير الشؤون السياسية والاقتصادية إينار تانجين مع هذا الطرح، إذ يرى أن ترمب وبحكم مقاربة "الواقعية السياسية" التي ينتهجها في تعامله مع الدول الأخرى، فإنه سيعمل على "تصفية حسابات شخصية مع أوروبا، التي احتفلت بهزيمته، واستخلاص الفائدة من البلدان التي تقدم واشنطن ضماناتها الأمنية إليها".
وأحيا "الناتو" مطلع أبريل الماضي ذكرى مرور 75 عاماً على تأسيسه، في الوقت الذي يشدد تركيزه على عدوته التاريخية موسكو شرقاً، وتهديد آخر آت من الغرب من القوة الأبرز التي تقود الحلف وهي الولايات المتحدة.
وأشار الطوسة في معرض حديثه لـ"الشرق"، إلى ما اعتبر أنها "معطيات تقول إن القيادة الروسية تشتغل حالياً بقوة وزخم كبير لكي تساعد عن طريق وسائلها الإعلامية والسياسية والسيبرانية في نجاح دونالد ترمب، لأنها تعتبر أنه الحصان الرابح في معركة مع دول الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا وأيضاً الدول التي لا تقبل سيطرة الروس في المنطقة.
الحرب التجارية مع الصين
وإذا كانت أوروبا تنظر بعين الترقب للعودة المحتملة لترمب للبيت الأبيض خوفاً على مآل تحالفها الذي تعول عليه بشدة لضمان أمنها القومي في مواجهة التهديدات الروسية على حدودها الشرقية، فإن للصين بدرجة أقل، مخاوف أخرى، تتعلق أساساً بتجارتها ومصير سلعها في ظل تراجع أداء اقتصادها.
واعتبر خبير الشؤون السياسية والاقتصادية وكبير الباحثين في معهد تاي هو إينار تانجين خلال حديثه لـ"الشرق"، أنه في إذا تدخل ترمب في المسألة الأوكرانية بطريقة تتمخض عنها تسوية إقليمية بشكل ما، فإن ذلك من شأنه أن يغير بشكل كبير من موقف الصين في مواجهة الاتحاد الأوروبي ودول الكتلة السوفيتية السابقة، وهو ما يزيد من احتمالات التقارب الاقتصادي بينهما.
ولا يخفي ترمب "عداوته" للصين، إذ يرى رجل الأعمال الذي بنى اسمه في مجال العقارات والصفقات أن بكين تهدد التفوق وسطوة الاقتصاد الأميركي الهائل، وتشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي.
ويفضل ترمب نهجاً حمائياً يتمثل في زيادة الرسوم الجمركية على الصين لإجبار بكين على تقديم تنازلات، بما في ذلك زيادة مشترياتها من المنتجات الأميركية لتقليص العجز التجاري الثنائي.
ويدعم الرئيس الأميركي السابق أيضاً الإجراءات التي تحفز الشركات المتعددة الجنسيات على الخروج من الصين والعودة إلى الولايات المتحدة، أو على الأقل، تحويل سلاسل التوريد خارج الصين.
لكن خبير الشؤون السياسية والاقتصادية إينار تانجين، يرى أن المقاربة التي سيعتمد عليها ترمب في حال فوزه بولاية ثانية، غير واضحة، معتبراً أن واشنطن لا تمتلك القوة السياسية أو الاقتصادية لفرض سيناريو مشابه لـ"اتفاق بلازا" على غرار ما فعلته في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.
وبلغ إجمالي العجز الأميركي مع الصين 311 مليار دولار في عام 2020، بانخفاض حاد عن ذروته البالغة 419 مليار دولار في عام 2018. ومع ذلك، فإن التعريفات الجمركية التي فرضها ترمب على الصين لم تخفض العجز التجاري الأميركي الإجمالي.
وبدلاً من ذلك، ارتفع العجز التجاري العالمي في الولايات المتحدة على مدى السنوات الأربع من ولاية ترمب الأولى، وارتفع إجمالي العجز التجاري في السلع والخدمات الأميركية إلى 679 مليار دولار في عام 2020، مقارنة بـ481 مليار دولار في عام 2016، قبل تنصيب ترمب مباشرة.
وخفضت تعريفات ترمب الجمركية على الصين الواردات مباشرة من بكين، ولكنها أدت إلى زيادة كبيرة في الواردات من الاقتصادات المجاورة للصين في سلاسل القيمة العالمية، مثل فيتنام والمكسيك وتايلندا وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها. وأدى فرض التعريفات الجمركية على الصين إلى تحويل التدفقات التجارية، لكنه لم يؤد إلى استبدال الواردات على نطاق واسع بالسلع المنتجة محلياً.
وفي هذا الصدد، يرى تيانجين أن ولاية ثانية لترمب، ستؤدي إلى المزيد من حالة عدم اليقين بالنسبة لعالم الأعمال، وستدفع العالم إلى كساد اقتصادي بسبب زيادة الإنفاق الحكومي، وانخفاض الضرائب، وتجاهل العجز الفيدرالي في الولايات المتحدة.
"أميركا أولاً"
منتصف عام 2020، وفي خضم الأزمة العالمية التي رافقت انتشار فيروس كوفيد-19، أعلن الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترمب قطع العلاقات مع منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة ووقف كل أشكال التمويل عنها بسبب ما اعتبره تحيزاً من المنظمة تجاه الصين.
ولطالما ازدرى ترمب التعددية مبرراً ذلك بالتركيز على "أميركا أولاً". ومنذ فترة ولايته، انسحب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والوكالة الثقافية التابعة للأمم المتحدة، والاتفاق العالمي لمعالجة تغير المناخ. كما قام بقطع التمويل عن صندوق الأمم المتحدة للسكان ووكالة الأمم المتحدة لغوت وتشغيل اللاجئين (الأونروا).
وفي هذا الصدد، يقول الباحث في الشؤون الإستراتيجية هشام معتضد لـ"الشرق"، إن "الجمهوريين بشكل عام، وترمب بشكل خاص، لهم توجهاً خاصاً عندما يتعلق الأمر بالمساعدات التي تقدمها واشنطن على الصعيد الدولي"، وتوقع أن يتجه الرئيس الأميركي السابق لخفض حجم هذه المساعدات بشكل كبير بعد عودته المحتملة إلى البيت الأبيض.
وأبرز معتضد أن المعتقد السياسي لترمب مرتبط بقاعدة "أميركا أولاً"، وجل تركيبه الفكري السياسي على مستوى تدبير السياسة المالية لواشنطن يصب في تخصيص وتسخير "أولاً" كل الإمكانيات الممكنة على مستوى الميزانية لتنفيذ البرامج والمشاريع داخلياً بشكل أساسي.
واعتبر الباحث في الشؤون الاستراتيجية أن "المساعدات الدولية في سياسة ترمب الخارجية لا تشكل أولوية استراتيجية"، إذ أنه رغم كون الجمهوريين أكثر براجماتية في تدبير السياسة الخارجية الأميركية مقارنة مع نظرائهم الديمقراطيين، إلا أنه حسب معتضد على مستوى ملف المساعدات الدولية، "يلتزم الجمهوريون، وخاصة ترمب، الاكتفاء بتدبيرها سياسياً دون سخاء مالي أو تحفيزات مالية ضخمة، والتحلي بالواقعية المالية في تأطير المال العام الأميركي دولياً".
وأشار إلى أن ترمب أيضاً معروف بعدم تقديره للالتزامات السياسية والمالية للولايات المتحدة الأميركية تجاه المنظمات الأممية والدولية"، مشدداً على أن ترمب "لا يفوت أي فرصة في سياق خطاباته السياسية والانتخابية إلا وأشار إلى التزامه بهذا الخط السياسي".
وأوضح معتضد أن ترمب يهدد بالانسحاب من العديد من المنظمات الدولية أو على الأقل قطع أو تخفيض المساهمات الحكومية لواشنطن في ميزانية هذه المنظمات، وذلك "لإيمانه بعدم تأديتها لدور استراتيجي يضخم مصالح أميركا والأميركيين، ولأنه يؤمن قطعاً بأن استثثمار أي دولار من الميزانية الأميركية يجب أن يعود بالفائدة أولاً وقبل كل شيء على الدولة الأميركية وشعب الولايات المتحدة الأميركية".
وخلص الخبير في الشؤون الاستراتيجية في حديثه لـ"الشرق"، إلى أن المعتقد السياسي لترمب بخصوص التزامات واشنطن المالية تجاه المنظمات الأممية والدولية سيبقى رهيناً بمدى استعداد هذه المنظمات لتقديم تنازلات سياسية واستراتيجية إضافية لواشنطن (..) "خاصة في ظل الحركية غير المسبوقة التي تشهدها الساحة الدولية على مستوى توازنات القوى وديناميكية القطبية الصاعدة"، يضيف المتحدث.