الفنان التونسي سليمان الكامل: كيف يمكن أن نرسم الحب؟

time reading iconدقائق القراءة - 11
الفنان التشكيلي التونسي سليمان الكامل. 12 سبتمبر 2024 - الشرق
الفنان التشكيلي التونسي سليمان الكامل. 12 سبتمبر 2024 - الشرق
تونس -حاتم التليلي محمودي

سليمان الكامل، اسم لا يعرفه الفنانون التشكيليون في تونس وحسب، بل يعرفه معظم السينمائيين والشعراء والروائيين والصحفيين والمسرحيين والناشطين في المجتمع المدني.

ليس لأن الفنان صديق الجميع، بل لأن معارضه ولوحاته ورسوماته جلبت الانتباه بشدّة، كما أنه من المثقفين القلائل المواكبين لأنواع الفنون الأخرى، متجاوزاً برحابة فنية عقدة الاختصاص.

نرى سليمان الكامل (1983)، في المسارح وقاعات السينما وأمام معهد الفنون في تونس، وفي معظم الأمكنة العامّة، لكنه عادة ما يغيب بسرعة عن الأنظار، ليعود إلى مرسمه حيث تتشكّل لوحاته بشكل خفي مثل الجنين في بطن أمّه.

 وفي اللحظة التي سيكون فيها بيننا، سوف نستمع فجأة إلى نجاح إحدى لوحاته في أوروبا، أو في إحدى الدول العربية المجاورة.

الشرق التقت سليمان الكامل في مرسمه، وأجرت معه الحوار التالي:

تبدو معظم لوحاتك كما لو أنها تروي قصّة لكنها لا تكتمل، تأتي مبتورة عن حكايتها، لماذا تتخذ هذا الأسلوب "الشهرزادي" في الرسم؟

"احكي حكاية وإلا قتلتك".. هكذا لخّص عبد الكبير الخطيبي ماهية ألف ليلة وليلة. كانت شهرزاد تهرب من الموت بواسطة الحكي، ولذلك صنعت لشهريار المتربّص بها متاهات من الخيال تاه في شراكها، هكذا نزعت عنه السلطة من خلال إغراقه في دوّامة السرد التي لا تنتهي.

ومن عاداتنا أن الأمّهات كما الآباء، يروون حكايات بسيطة لأبنائهم كجرعات ضرورية من أجل النوم، على أن يستكملوها في اليوم التالي، وهو إجراء طريف يجعل من الحكاية المبتورة ذات تشويق دائم. 

هذه هي إحدى النوايا التي تطمح إليها تجربتي التشكيلية، فالسرد أفق تتطلع إليه إنسانية الإنسان، وتهرب إليه حين يشتدّ الواقع المؤلم. لا شك أن أديباً حلمت أن أكونه غمرته مياه التشكيل، وضلّ طريقه ممسكاً بحبال السرد الهشّة المتقطّعة، فلا يغرق ولا ينجو.

نلاحظ تنوّع المرجعيات البصرية واختلافها في اللوحة الواحدة لديك، هل يمكن قراءة هذا الانصهار كرسالة لحوار الثقافات خارج نزعات الحروب والعنصرية؟

الرسم فضاء للجدل والنقاش والاختلافات من دون عنف، إنّه بمثابة "الوليمة الأفلاطونية" التي تجعل من حقيقة المدعوين فيها على اختلافهم، ينصهرون فيما بينهم بالضرورة. 

أنا أرسم مثلما أنا عليه الآن وهنا، وأنتمي لتلك اللحظة التي تلتقي فيها الاختلافات بتنوّعها التاريخي والنفسي والأكاديمي والثقافي والحسّي. أرى أن الفنان هو اختزال لتاريخ الفن كله، وهو عبارة عن موعد غرامي تجتمع فيه المفارقات، لتتزاوج وتتكاثر بهدوء وسلام.

يشهد الكون البصري في بعض اللوحات احتفالاً بالطقوس اليومية للبسطاء من الناس في تونس، هل هي ذاكرة الطفل في قلبك؟

تحيل كلمة اللوحة إلى انتظار شيء ما. سوف نبدو كأننا تحت رحمة ليل مظلم إلى أن يبزغ النور، وتدبّ الحياة ليبدأ اليومي متّخذاً مكانه تدريجياً في الوجود، إلى أن يسيطر ويهيمن. 

نحن نطرح هذه الأسئلة: من نرسم ومن هم الجديرون بالرسم؟ بمن تحتفي الممارسة التشكيلية؟ من هم المؤهلون لاعتلاء الفضاء التشكيلي؟ سوف تبحث هذه الأسئلة التآمرية عن موقف ملتزم، أي أنني عندما أرسم، أخفي أناساً آخرين أو أمنعهم من الظهور.

لكل إنسان في هذا العالم قصّته التي يستلهم منها فرادته الفنية. وأعطي مثالاً على ذلك: مشهد شخص يمشي، هو محاولة لامساك تعريف ممكن للمشي، وشخص يأكل يجب أن تتكثف فيه كل صور الأكل، وتتعاظم إلى أن يتحوّل إلى آلهة الأكل، وآخر يشرب وجب عليه أن يطفئ ظمأ العالم كله.

صار مشهد القبلة التي رسمها غوستاف كليمت، أمراً مغرياً للوجدان الإنساني، وفي الرسم تعود إلى بدايتك، وإلى أوّل يوم سمعت فيه صوتاً، وإلى أوّل حرف نطقت، وأوّل طعم تذوّقت. إنك تطلّ على عرائك الطفولي وتنعم به.

الثورة التونسية هي الأخرى حاضرة في بعض أعمالك، لكن هل يتعيّن على الفن التشكيلي محاكاة هذه الثورة، أم أن يثور على نفسه بتغيير أساليبه ومرجعياته ومدارسه الفنية؟

ما زالت الثورة التونسية إحدى مقدّساتي رغم خيبتي فيها، أحاول تجنّبها وأنشغل عن رسمها. كثيراً ما تراود مخيّلتي بشكل مفاجئ لكني أصدّها عمداً.

في الواقع أنا لا أجرؤ عليها رغم إيماني العميق بأننا نحن الفنانين والفلاسفة وعلماء الاجتماع، أضعنا فرصة تحويلها إلى مصدر حقيقي للتعلّم والتقدّم. كنا جميعنا عاطفيين، فلم نتفاعل معها باستفاضة تتجاوز هذا العقم الشديد.

كانت لحظة طالب فيها الشعب باستعادة حضوره في الفضاء العام، كما عبّر من خلالها عن استحقاقه الفني، لكن يبدو أنه لا فائدة من أن يكون المرء "فنان الثورة أو شاعرها أو أديبها"، فيستحوذ على نصيب منها. كانت تعبيراً عن المشترك في أقصى تجلياته، أما فنانها الحقيقي فهو الشعب وليس نحن.

معروف عنك أنك رسّام حرّ تشتغل خارج أطر الدوائر الرسمية كالنقابات ووزارة الشؤون الثقافية، كيف تمكّنت من التسويق للوحاتك التي تجوب العالم اليوم؟

في السنوات الأخيرة تحوّلت وزارة الثقافة والجمعيات المحيطة بها إلى عدوّ حقيقي للفنانين في تونس، خاصة بعد أن تجاوزتهم الأحداث، وأصبح الفنان يتخطّى الحدود، ويمكن أن ينخرط في نموذج كوني حرّ ومستقل، حيث يجب أن يشارك اليوم كغيره من فناني أفريقيا وبقيّة دول العالم في كتابة تاريخ الفن العالمي بكل استحقاق. 

نحن جزء أساسي من العالم، وعلينا أن نثبت جدارتنا ومكانتنا. ما زال قانون الدولة التونسية حتى اليوم يعتبر الأعمال الفنية تراثاً وطنياً ممنوع بيعه خارج الوطن، ولا يُسمح بعرضه إلا بإذن من وزارة الثقافة.

هذا يعني أنهم حكموا علينا جميعاً أن نكون محليين ومنغلقين، ولا يمكننا أن نتواجد في متاحف العالم أو فضاءاته الأخرى. لقد جرى "تأميم" الفن التونسي، وسجنه بمقتضى قانون مجلة حماية التراث.

لديك مشاركات في معارض عدّة مثل أبو ظبي وألمانيا وباريس، كيف تقرأ المشهد التشكيلي في تونس اليوم مقارنة مع التجارب العالمية؟

أن تكون تونسياً فهذا رصيد استثنائي، ولكن أن تكون تونسياً "دفعة واحدة" مثلما يقول الشاعر الصغير أولاد أحمد، فهذا يعني قوّة إضافية وطاقة لا تنضب. كلما سافرت أيقنت أن في تونس رياح من كل الاتجاهات تسهّل علينا الطيران، واقتنعت أن تونسيتي هي التي تشحنني وتدفعني إلى الأمام.

أنا أؤمن بأنّه يجب علينا الانطلاق إلى العالم كتونسيين متجذّرين، من دون تعلق أصولي بالفولكلور. يولد التونسي عموماً منفتحاً على العالم، منخرطاً فيه، فما بالك بفنان تشكيلي. أما اليوم فنحن أمام جيل يملك تجارب شجاعة، ولديه كلّ القوّة التي تخوّله خوض معارك صحّية ومفيدة.

تشهد الحركة النقدية المتعلقة بالفن التشكيلي فتوراً كبيراً، هل يعود ذلك إلى غياب فضاءات النشر، أو إلى القصور الفكري للنقاد في هذا المجال؟ 

لا توجد في تونس حركة نقدية متكاملة العناصر، توجد حالات فردية فقط. 

ما هي أهمّ النصوص النقدية التي تناولت تجربتك؟

عام 2020، وبمناسبة معرضي الشخصي في باريس، كتب الصديق محمد علي بالرحومة، الذي أعتبره ركناً من أركان التأسيس، نصّاً مذهلاً عن تجربتي، لكنه قبل ذلك أصرّ على زيارة ورشتي مرّات عدّة.

 كما تعمّد زيارة منطقة "المزونة" مسقط رأسي في محافظة سيدي بوزيد التي تقع في الوسط التونسي، وظلّ هناك بين جبالها وأريافها فترة طويلة اكتشف فيها عوالمي الطفولية وعوالم الناس، لذلك جاء نصّه عميقاً، ومستلهماً من تلابيب الممارسة وجذورها ومنابتها.

اكتشفت نفسي في نصّه إلى حدّ تساءلت فيه من جديد: من أكون؟ دفعني محمد علي بالرحومة إلى السفر في نصّه، كما لو أنّه أعادني إلى الحياة بواسطة اللهب.

"قلب مفتوح" هو عنوان أحد معارضك. هل تعتقد بإمكانية تحوّله إلى بيان تشكيلي من أجل الحب وضدّ التهميش والفقر والحروب؟

في بداية تحضيري لهذا المعرض، كنت شغوفاً بمقولة لمؤسّس السريالية أندريه بروتون، مفادها أنه يتوجّب على الفن أن يعود إلى مهمّته الأصلية وهي الحب. وجاء السؤال عنيفاً ومستفزاً: كيف يمكن أن نرسم الحب؟

هذا السؤال أرّقني بالفعل، لكنه دفعني إلى الاستعانة ببعض النصوص عن الحب، فاضطررت إلى قراءة ابن حزم ورولان بارت وباتريك سوسكيند، فضلاً عن مأدبة أفلاطون، وبعض التجارب العشقية التي وردت في الأساطير والذاكرة الشعبية والروايات، وصولاً إلى كتابات فاطمة المرنيسي، التي كثّفت من عذوبة العذاب، وهنا تساءلت: كيف للعربي والمسلم أن يحب؟

كانت تجربة مغرية استضفت فيها من خلال الفن التشكيلي، نصوصاً أدبية وفلسفية واجتماعية تغذّت منها الممارسة الإبداعية بنهم كبير.

في تونس قلّما يواكب الجمهور معارض التشكيليين، هل يعود ذلك إلى نخبوية هذا الفن، أم لأن المؤسسات الرسمية للدولة همّشته، أم لأن الذائقة البصرية والفنية للتونسي غير مؤهّلة؟

في رواية "هيا نشتري شاعراً" للبرتغالي أفونسو كروش، كان على الأب أن يشتري شاعراً لابنه. رفض شراء رسّام؛ لأن هذا الأخير سيلوّث أركان المنزل بألوانه وأدواته. إنها المقاربة الأكثر جاذبية وطرافة إلى قلبي، فهي تلخّص بعمق التوجّس المسبق من الرسامين باعتبارهم خطراً على الشأن العام والفضاء العمومي.

 نحن الرسّامين، يبدو أننا نسبّب الأرق الأزلي والدائم للعوام، كما نقلق راحة النُخب.

تصنيفات

قصص قد تهمك