لا يحضر لبنان في الوجدان الجزائري العام، بصفته امتداداً قومياً فقط؛ بل أيضاً بصفته مورداً ثقافياً، إذ تربّت أجيال العقود الثلاثة في الجزائر، بعد الاستقلال الوطني عام 1962، على ما كان يصلها من كتابات أدبائه، مثل جبران خليل جبران، ومي زيادة، وغادة السمّان، ومارون عبود، وميخائيل نعيمة؛ وعلى أغاني المطربين اللبنانيين، مثل فيروز ووديع الصافي وصباح.
ثم اشترك المشهدان اللبناني والجزائري، بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، في احتضان فصائل التحرير وخطاب التحرّر؛ حتى أن حساسية شعراء الجنوب اللبناني، خلال ثمانينات القرن العشرين، امتدّت إلى المشهد الشعري الجزائري، بانخراط أقلام جزائرية كثيرة فيه.
تجلّى هذا التماهي الثقافي والوجداني بين البلدين، خلال عشرية العنف التي شهدها الجزائريون، فكانوا يعانون حصاراً شاملاً، كسره الفنّانون اللبنانيون، بقدومهم للغناء في المهرجانات الجزائرية، حيث كانت حفلات ماجدة الرومي، مثلاً، تترك أثراً إيجابياً في نفوس الجزائريين الذين كانوا يُحصون قتلاهم بالمئات يومياً.
هذا الواقع، أسّس لعلاقات ثنائية لا تخضع للمزاج وتغيّر الأنظمة، فظلت اليد الجزائرية تمتدّ للبنان كلما ظهرت فيه أزمة اقتصادية وسياسية تهدّد أمنه العام، كان آخرها إرسال باخرة محمّلة بالغاز لتشغيل محطات الوقود في لبنان.
إسرائيل تفقد إنسانيتها
وفي متابعة للواقع والمواقع، تجعلنا نلمس أن الجزائريين يأتون في طلائع الشعوب انشغالاً بما يحدث في لبنان.
يقول الكاتب والناشر والمترجم إبراهيم تازاغارت، "إنها جريمة ضد الإنسانية". ويرى أن "الارتباك الذي أصاب تل أبيب، وعلى رأسها حكومة نتنياهو، جعلهم يفقدون إنسانيتهم ووعيهم".
يضيف: "لا ندري ماذا يقال في غرفهم المظلمة، لكنهم يرون في لا وعيهم، أن اللحظة مفصلية، وتقتضي القضاء على الآخر الذي يمثّل الخطر الدائم. لهذا السبب يتجاوزون كل الخطوط الحمراء غير آبهين لا بالقانون الدولي والأخلاق الإنسانية ومواقف المجتمعات المدنية في الغرب".
يقرأ الروائي والشاعر وصاحب "دار خيال" للنشر رفيق طيبي هذا السلوك "في إطار وصول إسرائيل إلى مرحلة اليأس، بفعل الضغط الذي تتعرّض له من قِبل مواطنيها الذين شرعوا يفكرون في حزم حقائبهم للعودة إلى أوطانهم الأصلية، فأرادت أن تطمئنهم، ولكن على حساب الأخلاق والأصول والقوانين الدولية".
ويؤكد المسرحي رياض سقني، "أن حروب إسرائيل في الشرق الأوسط وصلت إلى مأزق أخلاقي وقانوني، بات محل إدانة الضمائر الحيّة في العالم، خاصة في الأوساط الجامعية، بل بات مزعجاً للأنظمة المساندة نفسها، وعلى القوى العربية الحيّة أن تستغل هذا الواقع، وتباشر بوضع حدّ لإسرائيل".
المغرب: لبنان نافذة فرح في صحرائنا
لبنان في ذاكرة المغرب والمغاربة، ليس فقط بلداً عربياً وجغرافية محدّدة، بل هو حاضر بقوة في تاريخهم القديم، حينما كان الفينقيون يؤسسون منشآت عمرانية ومحطات تجارة على شواطئ البحرين، المتوسطي والأطلسي. كما يحضر في محطات هامة من تاريخهم المعاصر، عبر الفن والإعلام والثقافة والأدب.
ولطالما ردّد المغاربة كلمات فيروز التي غنّت للمغرب عام 1971 قائلةً: "من وطني تحية الرجولة إلى شواطئ المغرب الأبيّة/ إنهم الأبطال والبطولة تكاد أن تكون مغربية..
أثر شكيب أرسلان وأمين الريحاني
هكذا عندما يستحضر المغاربة حالياً هذا الصوت الفيروزي الخالد، تضامناً حقاً مع لبنان في محنته، ويدعون بكل جوارحهم، من أجل أن لا يصاب لبنان بعمقه الحضاري، ويبقى مُشعاً كما كان على الدوام، لبنان الأدب والفن والرجال الأفذاذ الذين أنجبهم، وفي مقدّمهم الأمير شكيب إرسلان، المنتمي للطائفة الدرزية، الذي زار شمال المغرب في ثلاثينات القرن الماضي، وجال في مدينة تطوان، في المنطقة الخليفية التي كانت تحت نير الحماية الإسبانية.
في هذا الصدد، لنتأمل ملياً، ما كتبه الزعيم الوطني المغربي الكبير علال الفاسي، بخصوص هذا الزيارة قائلاً: "سأكون منكراً لجميل الأمير إذا أخليت حديثي [..] من موقفه إزاء القضية المغربية عموماً والمراكشية بالخصوص، حتى كان واحداً من رجالنا، وعمدة من أهم العمد التي نستند إليها في الحصول على تأييد العرب والمسلمين لقضيتنا".
تابع: "وبمجرد أن قامت حركة الاحتجاج المراكشية، انتقل الأمير -رحمه الله- إلى تطوان واتصل ببعض إخواننا [..]، ثم رجع إلى سويسرا حيث أعلنها حرباً شعواء على الفرنسيين، مسخّراً كتاباته واتصالاته بنا وبأقطاب العالم العربي والإسلامي، حتى أصبحنا في عداد الحركات التي يستند إليها المكافحون في المشرق والمغرب [..] وكان الأمير اللبناني، كثير الإعجاب بسير حركتنا الوطنية وتنظيمها، ويعلّق آمالاً كبيرة عليها لإذكاء الروح العربية في المغرب". (مجلة دعوة الحق، عدد 483).
فردوس أفريقيا
هي كلمات من رجل كبير مغربي عن رجل كبير لبناني لم يتوان في الدفاع عن المغرب في عزّ الحماية الفرنسية والإسبانية في ذلك الزمن. وجاء رجل فذ لبناني ثان، زار المغرب ونشر سنة 1939، كتاباً مهماً بعنوان "المغرب الأقصى". هو الكاتب أمين الريحاني، المنتمي للطائفة المارونية، وواحد من كُتّاب المهجر المعروفين في تاريخ الأدب العربي.
وثّق الريحاني في كتابه رحلته إلى المغرب التي قال عنها بأنها سفر إلى "فردوس أفريقية، إلى المغرب الذي هو اليوم في حماية إسبانيا، إلى المغرب الذي جنّد لفرنكو 160 ألفاً من أبنائه الأشداء البسَل، إلى المغرب المقيم فيه اليوم مقيم إسباني عام، وُلِد في قرطاجنة من مقاطعة مُرْسيَة، مسقط رأس شاعرنا الصوفي ابن عربي".
تأثير لبنان الثقافي
هي مواقف قوية وفاصلة في تاريخ المغرب للبنان، وكل ما هو لبناني. وقد تلاها التأثير الثقافي الكبير على النخبة المغربية في مجالات عدّة.
كتب الكاتب والصحفي المغربي المخضرم عبد الرحيم التوراني بهذا الخصوص، وهو المرتبط عاطفياً بلبنان وبيروت قائلاً: "وظل ما يصدر في لبنان من مواقف سياسية وفكرية تقدّمية، وما ينتجه من أفكار وإبداع، يجد صداه القوي وإشعاعه البيّن في الأوساط اليسارية والثقافية في المغرب".
مجلة "الثقافة الجديدة" لمحمد بنيس، لم تكن سوى محاولة لإعادة تجربة أدونيس في "مواقف" شكلاً ومضموناً. وحضر لبنان باستمرار بمدنه وقراه وضحاياه، وبمخيمات الفلسطينيين، في الكتابات الأدبية وقصائد الشعراء المغاربة، من بيروت إلى تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، ومن كمال جنبلاط وحسين مروة إلى مهدي عامل. تمّ رثاؤهم وتمجيد موتهم في أشعار أحمد المجاطي وأحمد الجوماري وأحمد بنميمون ومحمد بنيس وعبد اللطيف اللعبي ومحمد الطوبي وعبد الله راجع ومحمد بنطلحة وآخرين".
نعم، كانت بيروت سبّاقة في الكثير من التجارب الأدبية والفنية، وسار على دربها كُتّاب وفنانون مغاربة اختطّوا لهم طريقاً، مرّوا من هذه المدينة المتألقة، وإن لم تطأها أقدامهم. إنها قدر جميل، يحزّ في النفس ألا يقدِّر المتعصبون والغزاة مآلاته الجميلة والفريدة.
يذكر الكاتب الصحفي اللبناني المعروف سمير عطا الله في صحيفة "النهار" ما كتبه المفكّر المغربي علي أومليل، الذي بقي سفيراً للمغرب في لبنان لفترة من الزمن: "حوّل علي أومليل السفارة المغربية إلى منتدى أدبي، هو امتداد للشغف الثقافي المعروف عن المغاربة. وإذ كتب مودّعاً لبنان، قال إن الذي يعيش هنا فترة من الوقت، يقول إلى اللقاء، وليس وداعاً" (05/10/2016).
بناءً على هذه المعطيات التاريخية، أعلن رئيس الحكومة المغربية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تضامن المغرب الكامل مع لبنان حكومةً وشعباً في وجه يتعرض له من هجوم، مؤكداً على ضرورة احترام الوحدة الترابية وسيادته الوطنية. كما عرفت شوارع مدن مغربية وقفات مساندة من العديد من الحساسيات السياسية المختلفة، كتلك التي تنظم أمام مقر البرلمان المغربي في وسط العاصمة الرباط، رافعين شعار: "لا يمكن أن نفرط في من يفتح نوافذ الفرح والفن في صحرائنا".
تونس: دعوات لتشكيل جبهة ثقافية عربية
ليس لبنان مجرّد بلد عربي في ذاكرة التونسيين، إنه انتماء روحي وعاطفي وثقافي، وربما هو أكثر من ذلك بالنسبة للمثقفين، الذين ارتبطت ذاكرتهم بالشاعر خليل حاوي، وإلياس خوري، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، حيث تمّ تدريس كتبهم في الجامعات التونسية، ولم يكن باستطاعتهم أن يتجاهلوا تأثير لبنان في حركة النشر على صعيد عربي، أو نسيان معظم الحركات الأدبية الطليعية التي خرجت إلى الضوء من هناك، مثل مجلة "شعر"، و"أبولو" وغيرها.
ولم يكن باستطاعة أي تونسي، أن يحذف من قاموسه الموسيقي صوت فيروز، أو غيرها من الفنانين اللبنانيين، ولم يكن باستطاعة أي مسرحي أن يتجاهل سيرة مارون النقّاش وروجيه عساف وآخرين.
من كلّ هذه المناخات والعوالم، وُجد المشترك بين تونس ولبنان، ولهذا كله انفجر الشارع التونسي غضباً على دماء أبناء الأرز، وخرج المثقفون عن حيادهم، وصمتهم رافعين شعار انتماءهم إلى المصير نفسه.
الأكاديمي عبيد خليفي قال: "لبنان المثقل بالدماء يبقى شاهداً على حيوية القضية الفلسطينية، وهو لم يختر أن تكون القضية الفلسطينية جزءاً من كيانه، لكنه تحوّل إلى ملحق مساند لغزة والضفة، وشروطه في الحياة الآن هي شروط فلسطينية بامتياز، وحده لبنان يُسنِد ويساند، ويقاتل أبشع قوّة على الأرض".
وسأل الشاعر أنور اليزيدي، "كيف لي أن أتقبّل فكرة الحرب أساساً، فما بالك وهذه الفكرة تتحوّل إلى موت فعلي يسقط على أرض مليئة بالفن، ومن أفق ضاربة جذوره في الأمل".
أضاف: "الحرب على لبنان هي حرب على الإنسان. ولطالما انتصر في هذا البلد الثقافي على الوحشي، وليس من باب الوهم ولا حتى الأمل، بل كجواب على اليأس.. هم يحتاجون إلى أكثر من حرب، بينما نحن تكفينا بيروت لننتصر".
ورأى المترجم والناشر وليد أحمد الفرشيشي، أن ما يحدث اليوم "يستدعي دخول المثقفين العرب إلى المعركة، من خلال تشكيل جبهة ثقافية عربية تسند لبنان وفلسطين، إسناداً معنوياً وتعبويا ًأيضاً. لقد انتقلنا من صراع على الأرض إلى صراع هوياتي واضح، مداره إمّا نحن أو هم، فلنكن نحن الباقون ما بقي الزعتر والزيتون".