سحرت كلود مونيه.. "زاندايك" إمبراطورية الطواحين والرياح

time reading iconدقائق القراءة - 9
طواحين مدينة زاندايك الهولندية - رويترز
طواحين مدينة زاندايك الهولندية - رويترز
أمستردام-علي عباس

على نهر الزان شمالي هولندا، تقع مدينة الطواحين "زاندايك"، التي اشتهرت منذ القرن السادس عشر بطواحينها، لما تتميّز به من براعة في التصميم الهندسي، وخصوصاً أنها تعتمد في تشغيلها على استقبال الرياح مباشرة، إذ إن المدينة مفتوحة على الجهات كلها، ومطلة على النهر.

حالما تُذكر الطواحين التي أصبحت رمزاً من رموز الهوية الوطنية، تُذكر هولندا، فهي ليست مجرد وسائل هندسية، بل أسهمت في تشكيل بنية الاقتصاد الزراعي والصناعي في البلاد. 

استُخدمت تلك الطواحين في طحن الحبوب والأرز، وسحق الحجارة لصناعة الأصباغ المستخدمة في تلوين الملابس ولوحات الفنانين، وعصر الزيوت، وتقطيع الأخشاب. هكذا، شكّلت زاندايك المدينة، جزءاً أساسياً من البنية التحتية، مهّدت لاحقاً لنهضة هولندا، وخصوصاً أنها كانت ميناءً حيوياً للتصدير.

متحف المدينة

يشتهر الهولنديون باهتمامهم بالتفاصيل اليومية الدقيقة، فلا يهملون شيئاً، وبالتالي يؤرشفون حياتهم اليومية وتاريخ بلدهم بعناية، فيصبح ذلك لاحقاً مورداً اقتصاديا وسمعة سياحية جيدة.

هذا ما نراه في متحف المدينة، فهو قرية تاريخية صناعية وزراعية وفنية بامتياز، عبر مراحل من الصراع مع الطبيعة والفيضانات والتغييرات الجيولوجية، إذ  تعلّمت هولندا قاعدة جيولوجية من خلال الكوارث الطبيعية والفيضانات: لا تسِر عكس الطبيعة، بل تضامن وتكافل معها كي تعطيك الأفضل؛ بمعنى الاحتواء.

يُعيد المتحف سرد تاريخ هولندا منذ القرن السابع عشر، إذ إن طواحين الهواء التاريخية المعروضة، ليست مجرد قطع أثرية، بل هناك شروحات وعروض تفاعلية توضح كيف كان الهولنديون قديماً يستخدمون الطواحين في حياتهم العملية والتجارية.

هذه الطواحين مزوّدة بشفرات أو مناشير كبيرة، تتحرك بالطاقة الهوائية، وكانت تُستخدم لنشر الأخشاب بدقة لبناء السفن الشراعية، ما  أسهم في تأسيس نواة لأضخم أسطول بحري وتجاري في ذلك الحين؛ إمبراطورية الرياح الموسمية.

 من أبرز هذه الطواحين "دي كات"، لصناعة الطلاء والألوان، وطاحونة "دي بونت" لتجهيز الزيت. فضلاً عن ذلك، يحتوي المتحف على ورش للنجارة، وصناعة الجبن، والأحذية الخشبية، إلى جانب منازل أصلية أُعيد بناؤها بعناية فائقة.

إن قصة مدينة زاندايك وطواحينها لا تنفصل مطلقاً عن تاريخ هولندا، وعن كفاح المواطن في ترويض الطبيعة. وكما يقول المثل الهولندي: "الله خلق الأرض ونحن خلقنا هولندا". تحدٍ هائل وطموح إنساني عُرف بهما الهولنديون، علاوة على تفّهم وتدبير سياسات احتواء الطبيعة، أصبح حافزاً لبناء مجتمعات صناعية، وتأسيس مدن زراعية قبيل انطلاق النهضة الأوروبية الكبرى.

 الرسام الفرنسي كلود مونيه 

وصل الرسام الفرنسي كلود مونيه إلى هولندا عام 1871، هارباً من أجواء الحرب البروسية الفرنسية. استقرّ لفترة وجيزة في مدينة "زاندام"، المجاورة لزاندايك، وهناك انبهر بالمشهد الطبيعي الساحر: أشكال طواحين الهواء العملاقة، وانعكاساتها على صفحة المياه، والغروب الذي يغمر الأفق دفعة واحدة، إلى جانب الانعكاسات اللونية لبيئة زراعية تحمل ملامح بنية صناعية، مثل السفن والرافعات والعمال والموانئ والبيوت الخشبية الضرورية، كأشكال فنية حيوية على مسند اللوحة، فضلاً عن ألوانها المتميّزة التي شكّلت مسنداً فنياً وصناعياً في الآن ذاته. 

أنتج مونيه خلال إقامته التي استمرت أربعة أشهر، 25 لوحة زيتية وتسع رسومات تخطيطية، موجودة في متاحف عالمية عدّة، توثّق السحر الهولندي الذي أسر فرشاته وروحه. وهو استخدم تقنية التلوين بالفرشاة الحرّة، فأصبحت لاحقاً إحدى السمات المميّزة للمدرسة الانطباعية.

 زاندام: نواة الانطباعية

لم يكن مشغل كلود مونيه في "زاندام" القريبة من مدينته الملهمة "زاندايك" مساحة للرسم فقط، بل منطلقاً للثورة الانطباعية. أدرك مونيه هناك أن الطبيعة الحيّة، بتغيراتها الدائمة، تمثّل أعظم مُعلّم للفنان الحقيقي. هكذا رسّخ قناعته الفنية بأن مهمة الفنان ليست محاكاة الأشياء، بل التقاط روحها المتغيّرة دائماً، ما مهد لظهور واحدة من أهم المدارس الفنية العالمية: المدرسة الانطباعية.

"الشرق" زارت مشغل مونيه، وهو عبارة عن بيت صغير يطل مباشرة على نهر الزان، حيث فضاء الطواحين والمياه والسفن. وكان المشغل، بحسب الوثائق المحفوظة في متحف مدينة "زاندام"، عبارة عن غرفة صغيرة ذات إضاءة طبيعية محدودة، تزيّن جدرانها لوحات قيد الإنجاز. 

كانت أدوات مونيه مبعثرة بطريقة حيوية في أرجاء المشغل؛ تتوزع بين ألوان زيتية، وفرش متنوّعة الأحجام، وأقمشة مثبتة على حوامل خشبية بسيطة.

 يصف مونيه مشغله في رسالة إلى صديقه الرسام كامي بيسارو، في 18 يونيو 1871 قائلاً: "مشغلي هنا بسيط للغاية، لكنه مفتوح على الضوء من كل الجهات. أعمل تحت سماء تتبدل ألوانها كل ساعة (يشتهر الجو الهولندي بتقلباته السريعة). لا أحتاج إلا إلى الريح، والضباب، وضوء الغروب، وهذه الطواحين المباركة".

 نهر الزان في الصباح

من أبرز لوحات مونيه خلال تلك الفترة، "طواحين الهواء بالقرب من أمستردام"، و"ضفاف نهر الزان في الصباح"، ولوحة "زاندام" التي تجسد انعكاسات المباني على سطح الماء، وتُظهر بوضوح أسلوبه الانطباعي في تصوير الضوء والماء.

 كذلك تعدّ لوحة "البيت الأزرق" من أشهر أعماله، ولا يزال هذا المنزل قائماً حتى اليوم، وتمّت طباعة صورته على بطاقات بريدية سياحية حول العالم.

لم تكن إقامة كلود مونيه في زاندام وزاندايك، مجرد تجربة عابرة أو فترة رسم تقليدية، بل محطة محورية أعادت تشكيل رؤيته الفنية للطبيعة والعناصر الصناعية معاً، مثل الطواحين ذات البعد الرمزي والصناعي، والبيوت الخشبية، والموانئ.

استطاع مونيه، من خلال هذا المزج المبتكر، التعبير عن جوهر الطبيعة المتغيّر بحسب الفصول وأشعة الشمس بطريقة جديدة، ما رسخ مكانته كأحد أبرز روّاد المدرسة الانطباعية.

يرى النقّاد أن هذه المرحلة، شكلت نقطة تطوّر جوهرية في مسار مونيه الفني، نحو تحقيق رؤيته الانطباعية. إذ أشارت الناقدة لورا كامينغ، في  مقالتها "مونيه والعمارة" في لندن، إلى أن مونيه "استخدم البنى المعمارية، مثل الطواحين الهوائية، كوسيلة لاستكشاف التغيرّات في الضوء والجو".

واعتبرت أن "العمارة بالنسبة له كانت طبيعة متغيّرة بوسائل أخرى"، أي أن الطواحين كانت أداة لدراسة الضوء، والعمارة طبيعة متغيّرة؛ فهي ليست شيئاً جامداً، بل حيوية، تتأثر بالزمن والجو والضوء.

يقول موقع "منصّة الفنون"، إن الفنان الفرنسي استغلّ المشهد الصناعي، في بلورة  طريقة فنية لتصوير الظواهر الطبيعية والضوئية المتغيّرة، وأن العناصر الصناعية، لم تكن مجرد تفاصيل شكلية، بل جزءاً وظيفياً من بنية اللوحة، وأداة لفهم تحوّلات اللون الفيزيائية.

كذلك أوضح موقع "التاريخ في خمس دقائق"، إلى أن مونيه وجد في الطواحين الهوائية موضوعاً مثالياً لدراسة العلاقة بين الضوء والظل، إذ إن أشكالها المميّزة، وشفراتها المتحركة، أنتجت أنماطاً معقّدة من الظلال، ما وفّر له بيئة مثالية لرصد تغيّرات الضوء خلال اليوم.

هكذا كان تأثير هولندا في مونيه؛ إذ منحته الطبيعة الهولندية طريقاً روحياً وأسلوباً فنياً جديداً، مهّد له ترسيخ واحدة من أعظم مدارس الرسم في العالم، وهي المدرسة الانطباعية.

ومن اللافت أيضاً هذه المفارقة، إذ بينما أثّرت زيارة الرسام الهولندي فنسنت فان جوخ إلى باريس تأثيراً بالغاً في فنه، فأصبحت لوحاته أكثر إشراقاً وتفاؤلاً لونياً، كانت هولندا بالنسبة لكلود مونيه مصدراً لإلهام داخلي عميق، دفعه إلى تأصيل مفاهيم الضوء واللون والطبيعة المتحوّلة ضمن نهج فني متجدد.

رسم في الهواء الطلق 

تشير الوثائق المصوّرة في متحف "زاندام"، إلى أن مونيه كان يحرص على الخروج من مشغله برفقة أدواته، ليرسم مباشرة أمام الطبيعة، ما منحه مرونة عالية في التقاط التحوّلات الآنية للضوء. 

وشكّل المشهد اليومي الممتد أمام ورشته، لوحة حيّة تتجدد باستمرار، ما مكّنه من تطوير أسلوب فني يقوم على الرسم المباشر، استناداً إلى التغيّرات المناخية، ما عزّز فهمه للطبيعة باعتبارها كائناً حياً متحوّلاً، وليس مجرد مشهد ثابت.

تصنيفات

قصص قد تهمك