"غزة أهناك حياة قبل الموت".. قصائد أخيرة على الهواتف والأوراق

time reading iconدقائق القراءة - 9
الأنطولوجيا الشعرية الصادرة حديثاً "غزة أهناك حياة قبل الموت" - الشرق
الأنطولوجيا الشعرية الصادرة حديثاً "غزة أهناك حياة قبل الموت" - الشرق
مراكش-علي عباس

هي غزة، التي لم يتوان شعراؤها عن مشاركة الفلسطينيين قتالهم، عبر مقاومة الإبادة والجوع والموت المستدام. وكما يقول بريخت: "الشاعر ضمير مَن لا ضمير له"، هذا هو التصوّر الأنطولوجي والجمالي للشعر ومقاومة المحتل.

هذا ما نراه في "الأنطولوجيا الشعرية" الصادرة عام 2025، أعدّها الشاعران المغربيان عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان بعنوان: "غزة، أهناك حياة قبل الموت"، وهو عنوان مقتبس من قصيدة للشاعر الراحل مريد البرغوثي، يقول فيها:

أتلمّس أحوالي منذ ولدتُ إلى اليوم

وفي يأسي أتذكّر

أن هناكَ حياة بعدَ الموت

ولا مشكلة لدي

لكني أسأل:

يا الله!

أهناكَ حياة قبل الموت؟

سؤال يُلخّص ما يسعى إليه الشعر، وأن يجعل من اللغة "ساحة معركة أكثر اتساعاً من الأرض"، بحسب الكاتب الأميركي نورمان فورستر.

تضمّ الأنطولوجيا الصادرة عن منشورات "دار الرافدين" 2025، وترجمت إلى الفرنسية أيضاً، 26 صوتاً شعرياً من غزة تحديداً، قُتل عدد منهم أثناء الحرب المستمرة منذ أكثر من سنة، ووثّق آخرون مقاطع على هواتفهم قبل لحظاتهم الأخيرة.

يكشف عدد الشعراء المشاركين بحد ذاته، عن المكانة الخاصة التي يحتلها الشعر في الوعي العربي، وعن شغف الشعراء الفلسطينيين، بأن يتحدّوا الموت بالشعر، كما يعبّر عن قدرة الشعر على أن يكون بديلاً عن وسائل الحرب، فهو هنا بلا طائرات ولا بنادق، وكما قال محمود درويش: "المقاومة ليست فقط بالسلاح، إنها تبدأ بالكلمة التي ترفض الصمت". 

أدرك المشرفان على الأنطولوجيا، الوظيفة القتالية للشعر، في ترسيخ مشروع شعري يحفظ نبض الذين يعيشون ويكتبون تحت القصف، ويؤكد أنه لا يقبل أن يُختزل بمجرد ترف جمالي.

يقول الشاعر ياسين عدنان: "ما نحتاجه ليس نصوصاً عظيمة، بقدر ما نحتاج نصوصاً حقيقية". 

أما الشاعر والمترجم عبد اللطيف اللعبي، فيقول: "إنها جزيرة شعر خارقة في إمبراطورية الموت"، في استعارة تختزل موقع القصيدة كفعل مقاومة رمزية لا تطلق الرصاص، بل تخلّف ما هو أخطر: ذاكرة تُدرّس، لا تُنسى. 

يضيف: "بهذا المعنى، يخشى الاستعمار الشعر، لأن القصيدة تقوّض منطق المحو، وتُبقي الذات المهدّدة حيّة".

ولعلّ أشدّ ما تقوله هذه القصائد، كما يعبّر اللعبي نفسه، "هو أنها لا تحتاج إلى تحاليل "متعالِمة"، بل تصرخ في وجوهنا: "اصمتوا، دعونا نتكلم".

الكلمة في وجه الإبادة

تمنحنا شهادات الشعراء والشاعرات من داخل غزّة بُعداً وجودياً لما تعنيه الكلمة في زمن الحرب والإبادة.

تكتب الشاعرة الفلسطينية نعمة حسن:

"الأم في غزة ليست ككل الأمهات

تصنع الخبز بملح طازج من عينيها

وتُطعم أبناءها للوطن".

 يشير المقطع إلى الحرب من دون تفاصيل مباشرة، ويصوّر الأرض كأم ميتافيزيقية، تشكّل طبيعة المرأة الفلسطينية، فتنعكس على تربيتها وأخلاقها. هي أمّ أرضية، متجذّرة في التراب والنضال، وفاعلة في بنية النفس والوجود.

تكتب في السياق ذاته، رنا شمّوط:

"أردت أن أشتري حذاءً لطفلي

لكن الطريق إلى السوق

غصّت بالجثث"..

وتقول الشاعرة شروق دغمش:

"اتركي لي فرصة

أيتها الحرب

كي أعيش ليلة حبّ واحدة في عمري".

يتحوّل هذا المشهد الواقعي التراجيدي، إلى شحنة رمزية تتجاوز المأساة الفردية، وتطرح سؤالاً وجودياً عن استحالة الحياة العادية في ظل القصف والدمار.

أثبتت غزة، كما أثبتت مدن مقاومة قبلها، أن الكلمة لا تموت حتى لو مات صاحبها. كما كتب نور الدين حجاج قبل أن يتم اغتياله:

"لا تكترثوا للمشهد الأخير

في غزة نحن نموت عدّة مرّات قبل هذا".

نصادف مقاطع تُجسد جوهر هذا المعنى ، كما عند يوسف القدرة:

"الشعراء

شهداءٌ أحياء"

أو كما تقول هند جودة، في صرختها الوجودية:

"يا إلهي

لا أريد أن أكون شاعرة

في زمن الحرب".

تقول الشاعرة هند جودة في حديثها لـ "الشرق"، "على الرغم من أن الشعر يبدو أضعف ما يمكن أن يواجه به عنف الآلة، إلا أنه بلغ لغات وبلداناً بعيدة، وها نحن نتحدث عنه بوصفه معجزة رمزية. أنجز الشعر ما كُتب من أجله بجدارة، حتى لكأن غزة باتت تصدّر الشهداء والشعراء". 

تُكتب قصيدة حسام معروف، لا كمقطع منفصل، بل بوصفها ختاماً شعرياً لصرخة الشاعر في مواجهة المذبحة، حيث يتحوّل الغبار إلى لغة:

"غبار

لا تضع رأسكَ في التراب

فالعدوّ يبحث في التراب

ونحن أيضاً نبحث عن جماجم الأحبّة في التراب

ليس في الرأس غير هذي الحياة

لترى هذا الغبار

يعود ثانية

كأنه لا ينتمي

إلا إليك".

أنطولوجيات الحرب

هذا الحضور الشعري المناهض للمحتل ليس فريداً في سياقه، بل يتقاطع مع تجارب عالمية سبقت، مثل ما حدث في الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، حيث صدرت مختارات شعرية تعبوية بعنوان "قصائد الجبهة" (1942) ، ثم تلتها مختارات لاحقاً مثل "ذاكرة الحصار" (2005)، التي أعادت الاعتبار لأصوات كُتبت تحت النار، ومن أبرزها قصائد آنا أخماتوفا إبّان حصار لينينغراد.

في هولندا، ظهرت مختارات شعرية مقاومة وقت الاحتلال النازي، مثل كتاب "الأغاني الجديدة للمقاومة" (1941)، الذي ضمّ قصائد لشعراء أبرزهم يان كامبرت، ويان دي خروت، وسعى إلى رفع المعنويات في زمن الحرب.

في هذا السياق، تتردّد كثيراً مقولة أخلاقية، تجاوزت خصوصيتها الأوروبية، لتغدو قانوناً أدبياً في كل مكان تكتب فيه الكلمة في مواجهة الظلم: "من لا يكتب ضدّ الاحتلال، يكتب معه".

 تتقاطع هذه الأنطولوجيات الشعرية في ما بينها، فلا تُختزل في حدث ثقافي عابر، بل مواجهة هي جمالية. لا بدّ من الإشارة إلى إصدارات موازية ساهمت في بناء أرشيف أدبي لغزة، مثل كتاب "بخط الصفر: يوميات الحرب على غزة"، الصادر عن (دار طباق 2024)، وهو عمل جماعي يوثّق الشهادات المدنية في زمن الانهيار.

كذلك أنطولوجيا "أنا غزة ابنة فلسطين"، صدرت خلال الحرب على غزة، وتضم قصائد لـ57 شاعراً وشاعرة من مختلف أنحاء العالم، تعبيراً عن التضامن مع غزة في مواجهة العدوان. قام الشاعر والباحث والمترجم الفلسطيني محمد حلمي الريشة، بإعداد الكتاب وترجمة القصائد المكتوبة بالإنجليزية إلى العربية.

يقول الشاعر حسام معروف لـ"الشرق": "يجد الشعر نفسه في مأزق حقيقي في زمن الحروب والكوارث، حيث تبلغ التجربة الإنسانية من التشظي والتعقيد، ما يجعلها تتجاوز اللغة، فلا تُحتوى ولا تُستعاد". 

يضيف: "في مثل هذه اللحظات، يتعذّر على الشاعر أن يكون جزءاً من أي حلّ مباشر، إذ تدفعه الحرب إلى التفكير في عبثية الكتابة ولا جدوى الانشغال الجمالي بالوجود. ومع ذلك، فإن قدره أن يكتب، لا كفعل هامشي، بل كوسيلة للبقاء، وذلك ما يبقيه هو مجتمعه أحياء".

رحيل الشعراء

قُتل عدد من الشعراء المشاركين في هذه الأنطولوجيا أثناء الحرب، ومن بينهم:

نور الدين حجاج، قتلته إسرائيل قبل صدور الكتاب بأيام.

 رفعت العرعير، قام بتحرير مجموعتين قصصتين هما "غزة لا تصمت" و"غزة تكتب مرة أخرى"، وكان أحد مؤسسي مشروع "نحن لسنا أرقاماً" الذي جمع مؤلفين من غزة كتبوا قصصاً عن واقعهم باللغة الإنجليزية.

قصيدته الوصية: "إذا كان لا بد لي أموت"، لفتت الرأي العام إلى ما تتوقعه غزّة من الإبادة. قتلته إسرائيل في 6 ديسمبر 2023 في قصف عشوائي أودى بحياته وحياة شقيقته وأطفالها. كما قتل الاحتلال ابنته شيماء مع زوجها وطفلها، بقصف استهدف منزلهم في حيّ الرمال بعد  4 أشهر على مقتله.

كامل الأسطل، شاعر وناشط ثقافي، قُتل بقصف على منزله.

محمد شتية، كتب مقاطع على هاتفه قبل أن يُقصف منزله بالكامل.

تُحيلنا هذه الشهادات إلى إدراك القصيدة بوصفها أحياناً الوثيقة الأخيرة التي يتركها الشاعر خلفه، سلاحه، وصرخته.

تضمّ الأنطولوجيا 26 شاعراً وشاعرة من غزة هم:

رفعت العرعير، نور الدين حجاج، هشام أبو عساكر، كوثر أبو هاني، مصعب أبو توهة، حامد عاشور، يحيى عاشور، أدهم العقاد، وليد العقاد، نور بعلوشة، شروق محمد دغمش، أشرف فياض، أنيس غنيمة، حيدر الغزالي، الغرة، وليد الهليس، نعمة حسن، عثمان حسين، هند الجودة، ضحى الكحلوت، حسام معروف، منى المصدّر، آلاء القطراوي، يوسف القدرة، ناصر رباح، إيناس سلطان.

تصنيفات

قصص قد تهمك