
لم يكن الفنان العراقي وسام الحداد (1968)، يدرك وهو يلاحق خطوات الآثاريين في بغداد، أن ذلك الطين الذي كانت أيدي الأطفال تنتشله من باطن الأرض، سيظل يسكنه إلى الأبد.
هناك، كانت الأرض تبدي أسرارها، وتحرّض خياله الصغير على أن يمدّ يديه إلى ترابها، ليشكّل منه ما كان يخرج من أعماقها: لقى أثرية، أوانٍ منزلية، فخاريات ملوّنة بأكسيد الحديد الأحمر، منقوشة بخطوط مسمارية بإتقان.
لم يكن المشهد مجرد لعبة بصرية لطفل شغوف، بل كان وعداً بلغة تشكيلية ستأتي لاحقاً، حين نضجت اليد، وصارت المادة طيّعة، تستجيب لرغبة الفنان في أن ينتج فنّه الخاص.
الهوية العراقية وسكينة الشمال الأوروبي
من العراق، يحمل الحداد الحرف العربي ككائن حيّ، والشعر كصوت داخلي، والرموز التراثية إلى معرضه "هندسة الروح" في "رام غاليري" بالعاصمة النرويجية أوسلو، ولا يتعامل مع هذه العناصر بوصفها موروثات مقدّسة ينبغي نسخها، بل كمادة خام يعيد قولبتها بلغة معاصرة.
يقدّم في معرضه 10 أعمال خزفية تنتمي إلى عالم تعبيري واحد يدور حول موضوع الحب بمعانيه المتعددة: من الحب الروحي، إلى العاطفي، إلى التأمل الداخلي، وهي تتنوعّ في أحجامها وأشكالها، وكل عمل منها يمثّل تجربة مستقلة من حيث الفكرة والتكوين.
في قلب أعماله الخزفية، يتجسّد التفاعل العميق بين العراق والنرويج، لا كزخرفة ثقافية، بل كحوار داخلي مستمر. يقول الفنان: "إن هذا المزج بين الثقافتين، نشأ من الرغبة في أن أكون صادقاً مع نفسي، وأن أسمح لهويتي المتعددة أن تظهر كما هي من دون رقابة".
في المقابل، تمنحه النرويج أدواته البصرية: الألوان الهادئة، الضوء الخافت، والصمت بوصفه قيمة تشكيلية. في أعماله، نجد أثر الفجر الشمالي، وشفافية الثلج، واتساع الأفق؛ هذه ليست مجرد خلفيات طبيعية، بل مكوّنات فلسفية تدخل في صلب التكوين الفني.
لكن ما يميّز تجربة وسام الحداد، هو هذا التكامل العضوي بين الثقافتين. فالحرف العربي لا يُفرض على اللون النرويجي، ولا تذوب الهوية العراقية في سكينة الشمال.
وعلى الرغم من أن الثقافة العربية تزخر بتراث خزفي عريق، يمتدّ من حضارات العراق القديمة إلى روائع الخزف الإسلامي، إلا أن هذا الفن غالباً ما يُختزل في العصر الحديث، إلى مجرد حرفة تقليدية، ويُقصى عن الساحة الفنية المعاصرة.
انطلاقاً من ذلك، يحمّل الحداد نفسه مسؤولية تتجاوز حدود العمل الفني الفردي، ساعياً إلى استعادة المكانة الحقيقية لهذا الفن من خلال ربطه بأسئلة معاصرة كالحب، والهوية، والهجرة.
يعيدنا معرض "هندسة الروح" إلى علاقة الفنان بالأرض، من حيث كونها المادة الأولى التي شكّل منها أعماله الخزفية، وتطوّر من خلالها إلى إنتاج أعمال مختلفة بالبصمة الخاصة ذاتها.
جميع الأعمال مصنوعة من طين الخزف الحجري عالي الحرق، بدرجة حرارة 1220 مئوية، وهي مُعالَجة بطبقات من التزجيج، وبعضها مزوّد بلمسات من اللمعان المعدني الذهبي أو الفضي.
طبيعة الحب
عن فكرة المعرض يقول لـ"الشرق": "ولدت من تأمّل طويل في طبيعة الحب، ليس فقط كعاطفة شخصية، بل كقوة كونية تحرّك الإنسان والمجتمع وتشكّل التاريخ والذاكرة. وفجأة عاد إلى ذهني كتاب "طوق الحمامة" لإبن حزم الأندلسي، ذاك النص التراثي الذي استطاع أن يقترب من الحب بأسلوب تحليلي وإنساني قلّ نظيره".
وهنا، فإن مرادفات كلمة "حب"، التي أوردها الأندلسي، مثل "الهوى"، "الوجد"، "الصبابة"، كانت ذات حمولات لغوية ودلالية كبيرة، وتنوّعها ومعالجتها للحالات العاطفية، هو دافع لأن تجعل من الفنان في حالة توظيف لها.
يشرح الفنان أن ابن حزم "لا يكتفي بكلمة "حب" وحدها، بل يغوص في تفاصيل الحالة العاطفية، ويمنح لكل مستوى من مستويات الحب، اسمه وصفته الخاصة. رأيت في ذلك خريطة لغوية يمكن أن تتحوّل إلى خريطة بصرية. وهنا جاءت الفكرة: أن أترجم هذه المصطلحات، وهذه الطبقات من العاطفة، إلى أعمال خزفية، كل واحدة تحمل في بنيتها وملمسها ولونها صدىً لتلك الكلمة، هو بالتالي محاولة لتجسيد اللامرئي".
يضيف: "أردت أن أجعل اللغة الطفيفة التي استخدمها ابن حزم ملموسة، محسوسة، تلمسها العين واليد، وتقرأها الروح. من خلال الخزف، الذي هو مادة تحمل في طيّاتها عنف النار ورهافة التشكيل".
البُعد الأثري للقطعة الفنية
يخوض الحداد في هذا المعرض تحدياً تقنياً وجمالياً مع مادة الخزف الحجري "Stoneware"، التي تتطلب حرقاً بدرجات حرارة عالية، بخلاف أعماله السابقة التي أنجزها بدرجات منخفضة.
هذا التحوّل لا يعكس فقط تطوراً في ممارسته التقنية، بل يكشف عن رغبة في منح القطعة الفنية متانة مادية توازي متانتها الشعورية.
تأخذ عوامل التعرية دورها في تعتيق العمل وإظهاره، كما لو أنه ينتمي إلى آلاف السنين، وهذه ميزة يشتغل عليها الفنان الذي لا يكتفي بالبعد البصري، بل يذهب أعمق، إلى ما يمكن تسميته بالبُعد الأثري للقطعة الفنية.
هو لا يرى في التشقّقات أو الخدوش أو التآكل عيوباً، بل رموزاً دالة، لغات ثانية تقول ما لا تقوله الأشكال الصافية. القطعة لديه أشبه بأثر مُكتشف حديثاً، يقول:" إنّ عوامل التعرية والقدم في عملي ليست مجرد تقنيات شكلية، بل هي أدوات لاستحضار البُعد الزمني والروحي للعمل الفني. أستخدم التشققات، والخدوش، والتآكل المتعمّد، كما أدمج طبعات أصابع، وبصمات أدوات قديمة، وملامح سطحية توحي بأنها خرجت من طبقات الأرض أو جدران معبد مهجور. حتى الألوان أتعمّد أن تكون غير لامعة، باهتة أحياناً، فيها إحساس بالزمن، وكأن الزمن ذاته قد مرّ فوقها وترك بصمته".
ولعل أكثر ما يمنح أعماله فرادتها، هو هذه النظرة الفلسفية التي ترى في الحب شعوراً لا ينتمي للحظة الحاضرة وحدها، بل يمتد كممارسة روحية في تاريخ الإنسانية.
يقول: "بهذا المعنى يصبح العمل الفني ليس فقط تجسيداً للحب، بل شاهداً عليه؛ قطعة تعيش في الحاضر لكنها تتكلم بلغة الماضي، لتذكّرنا أن مشاعرنا ليست جديدة، بل امتداد لتجارب إنسانية أعمق وأقدم".
من كلمة إلى إيقاع بصري
في امتداد رؤيته للخزف كجسد تعبيري، لا يظهر الخط العربي في أعمال وسام الحداد بوصفه زينة شكلية أو عنصراً مضافاً على السطح، بل ينبثق من المادة نفسها، كأنه خرج من باطن الطين نفسه.
يقول الفنان إن الخط بالنسبة له "هو لغة مزدوجة، تُقرأ وتُرى. لم أقترب منه كمجرد وسيلة لنقل نصوص أو معانٍ لغوية، بل ككائن بصري حيّ، ينبض بجمالياته الخاصة، ويملك طاقة تعبيرية هائلة حتى في غياب القراءة التقليدية. ما يشدّني فيه هو مرونته البنائية، وقدرته على التحوّل من حرف إلى منحنى، ومن كلمة إلى إيقاع بصري، ومن جملة إلى تشكيل روحي".
في القطع الخزفية التي يقدّمها، يتداخل الحرف مع الجسد الطيني في علاقة عضوية. يُنقش في العمق حيناً، ويبرز على السطح في حينٍ آخر، هذه المعاملة الدقيقة للحرف لا تنفصل عن جوهر المعرض، الذي يتمحور حول الحب بوصفه طيفاً متدرجاً من العواطف.
من هنا، تأتي المفردات المختارة بعناية من "طوق الحمامة"، لا كمفاتيح لغوية، بل كمفاتيح شعورية؛ لكل كلمة جسد خاص، ونَفَس خاص، وطريقة مختلفة في التجلي.
وإذا كان الخط العربي تقليدياً يتم ربطه بالزخرفة أو التجميل، فإن الحداد يفكك هذا القيد، ويعيد للخط روحه الأوّلية، باعتباره أثراً حياً، وامتداداً للذات.
لا يحاكي الفنان المدارس الكلاسيكية في الخط، بل يعيد تشكيل الحروف ضمن منطق المادة: يُخضعها لانحناءات السطح، لتقنيات الحرق، لتغيّرات الضوء، ولمزاج الطين حين يتصلب أو يلين. وهكذا يتحوّل الخط إلى كائن بصري ينبض داخل القطعة، لا ينفصل عنها ولا يعلو فوقها.