
يرفض فكرة المجايلة، وظهوره في جيل التسعينيات قبل ثلاثين عاماً، لا يعني أن هناك جيل أدبي جديد كل عشر سنوات. يصعب تصنيف أحمد يماني، فهو كاتب ومترجم ومعدّ برنامج إذاعي في القسم العربي، ومهاجر يقيم منذ سنوات في إسبانيا، لكن يغلب عليه تعريف "الشاعر"، ونال مؤخراً جائزة سركون بولص الشعرية المرموقة.
هنا حوار معه حول الجوائز والشعر ومحطات العمر.
للمرة الثانية يفوز شاعر مصري بجائزة سركون بولص، ماذا يعني لك ذلك وهل تعتقد أن الجائزة أنصفت شعراء جيل التسعينيات في مصر؟
أميل إلى الاعتقاد بوحدة اللغة الشعرية، نجد هذا في اللغات الكبيرة كالعربية والإسبانية، باختلافات طفيفة بين البلدان التي تنتجها، لكنها في النهاية لغة واحدة ذات أطياف متعددة، ومن ثم يكون الحديث عن الشعر المكتوب بالعربية أو بالإسبانية، حتى لو تحدثنا عن الشعر التشيلي أو الكولومبي أو المصري، على سبيل المثال، لكن في النهاية نحن إزاء لغة واحدة.
أعتقد أنه يجب علينا أيضاً التخلص من التقسيم العقدي المحلي للأدب، وأن يتم ربطه بظواهر أو بحركات بدلاً من تقسيم عقدي غير مجدي، فمن قال إن جيلاً جديداً يظهر كل عشر سنوات في الأدب والفن؟ هذا ليس قانوناً.
كذلك من قال إن الشعراء المجايلين لبعضهم البعض يقاربون القصيدة نفسها؟ هذا غير صحيح أيضاً. هناك شعراء كبار لم يفوزوا بأي جوائز على الإطلاق، وسركون بولص نفسه خير مثال على ذلك، فهو لم يفز بأي جائزة في حياته. وهذا لم ينقص شيئاً من شعره.
أماكن خاطئة
يحضر في شعرك وعناوين دواوينك ذلك الوعي بالمكان كما في "أماكن خاطئة"، فهل الشعر لديك هو تفكير بالصورة أم بشعور ما؟
في حواري مع جريدة "الكورييو الإسبانية" نشره شاعر وصحفي إسباني هو إنييجو ليناخي، أخبرني أنه لاحظ في قصائدي المترجمة إلى الإسبانية، توارد مفردة "البيت" ومفردة "المقبرة"، وأخبرته أني شخصياً لم أنتبه إلى ذلك حتى ترجمتُ منذ سنوات قليلة قصيدة لثيسار باييخو، يقارن فيها بين البيت والمقبرة، واكتشفت أنه منذ قصائدي المبكرة، كان لدي هذا الهوس، لنقل بفكرة البيت وفكرة المقبرة، وهو أمر يظهر في قصائدي بأشكال متعددة.
أعتقد أنني لست مهووساً بفكرة المكان بشكلها العام، بل ببعض المكان وليس مطلق المكان. جاء عنوان ديواني "أماكن خاطئة" من سطر في إحدى قصائده بعنوان "الكتاب":
كيف لا يمكن لها/ أن تقرأ ما أكتبه/ كيف تنتظر وراء الباب/ ليمرّ أحد/ يعطيها بعض الكلمات/ الكلمات الغريبة الغامضة/ إلا أنها تنصت و تبتسم/ كأنها كانت هناك معي/ في الخامسة صباحاً/ كأنّ يدها/ حرّكت بعض الكلمات/ نقلتها من أماكن خاطئة.
لا يبدو أنك مستسلم لتعريف محدد لماهية الشعر وتميل أكثر للعب مع اللغة والقوالب الشعرية؟
ليس للشعر ماهية واحدة وإلا كان الجميع نسج على منوالها، وهو قابل كل صورة. في الحقيقة القصيدة نفسها هي من تأخذ صورتها، وأنا أحب الشعر في كل أشكاله ومذاهبه، ولست متعصّباً للشعر الحر الموزون وغير الموزرن، ولا لقصيدة النثر ولا للقصيدة العمودية ولا لقصيدة اللغة المصرية الدارجة.
شخصياً أكتب طرفاً من كل ما سبق إرضاءً لروحي، كما يقول رينيه شار، لكني لا أنشر كل ما أكتب. أفكر دائماً أنه علينا جميعاً شعراء ونقّاد ومحبين للشعر، أن نناقش القصيدة العربية الحديثة، التي كان لإيقاعها التجديدي السريع تبعات، منها القفز على المراحل وبعض التشتت وفقدان التأصيل في بعض الأحيان.
والآن بعد أكثر من 75 عاماً من انطلاق القصيدة العربية الحديثة، أعتقد أنه حان وقت مراجعتها، وأعرف أن هذا عملاً ليس باليسير، لكنه في غاية الأهمية إذا أردنا أن نعرف أين يقف شعرنا المكتوب بالعربية الفصحى من شعر الآخرين، وإلى أين يمكن أن يسير.
في بدايتك حصلت على جائزة "رامبو" في ذكرى مئوية الشاعر الفرنسي، فهل تشترك معه في نزعة القلق والتمرّد؟
حصلتُ على المركز الأول لجائزة "رامبو" عام 1991 من مجلة "إبداع" القاهرية، بالتعاون مع المعهد الفرنسي في القاهرة، وهي جائزة من نسخة واحدة، حملت اسم الشاعر الفرنسي "رامبو" في الذكرى المائة لوفاته، وكانت لجنة التحكيم تضم الأساتذة: حسن طلب، وأحمد عبد المعطي حجازي، وإدوار الخراط وجابر عصفور.
كنا نقرأ رامبو في ذلك الوقت من ترجمة الفنان الكبير رمسيس يونان، وهو ترجم "فصل في الجحيم". نحن لا نعرف ما الذي كان يمكن أن يكتبه رامبو لو واصل كتابة الشعر، وجزء من قلق الشاعر وتمرّده، إذا شئنا استعارة تعبيرك، فإنما يعود إلى انقلابه على عمله نفسه.
كان المتنبي قلقاً ومتمرّداً قبل رامبو بألف سنة تقريباً، وليس فقط بيته الشعري الشهير "على قلق كأن الريح تحتي أوجّهها جنوباً أوشمالاً" ما يدل عليه، بل كل عمله.
أعتقد أن لكل الشاعرات والشعراء نصيب من القلق والتمرّد، وخصوصاً في مرحلة الشباب، وإلا فلماذا الذهاب إلى الشعر تحديداً؟ وهنا تستدعي الذاكرة على الفور كتاب فرناندو بيسوا الشهير "كتاب القلق" أو "كتاب اللاطمأنينة"، وتمرّده على نفسه الشعرية، قاده إلى اختلاق شعراء آخرين فيما وُصف بالأنداد أو النظائر.
تشغل الصحافة حيزاً أساسياً في تجربتك إضافة إلى التدريس، ومنذ ربع قرن حملت حقيبتك وهاجرت إلى إسبانيا وأصبحت مقيماً بين ثقافتين، ماذا يعني لك كل ذلك؟
في الحقيقة لم أعمل في الصحافة المكتوبة إلا لفترة قصيرة، إذ عملت فور تخرجي في الجامعة عام 1992 مع الراحل الكبير حلمي سالم في مجلة "أدب ونقد" لأشهر، بعد ذلك عملت أكثر في التصحيح والتحرير اللغوي.
في إسبانيا عملت في مهن عدّة ومنها التدريس والترجمة، حتى التحاقي بالعمل في القسم العربي من إذاعة إسبانيا الوطنية، وبعده وبالتزامن معه عملي في الجامعة لفترة محدودة، حيث لم يكن ممكناً قانونياً الجمع بين عملي الإذاعي وعملي الجامعي، كما أخبرتني حينها وزارة العمل في رسالة رسمية.
اكتفيت بعملي في الإذاعة، وهو عمل يتيح لي التواصل اليومي مع العالَمين الإسباني والعربي، وأشعر بمسؤولية كبيرة تجاههما، وأحاول قدر الإمكان تغيير الصور النمطية التي يفكر فيها كل واحد بالآخر، وهذا يعني لي الإقامة وسط ثقافات متعددة، فهناك عالمان كل منهما يعجّ بتنويعات ثقافية بالغة الاختلاف.
الحقيقة أن أي عمل قمت أو أقوم به لم يكن معيقاً أبداً في كتابة الشعر، بل على العكس أضاف لي خبرات جمّة، إذ عملت في مهن عدّة منذ صباي المبكر، ولهذا أعتبر نفسي "صنايعياً" حتى هذه اللحظة.
هناك جهود ممتدّة للترجمة بين العربية والإسبانية وكان لك نصيب فيها، على أي أساس تختار النص للترجمة وهل منحتك حساسية ما؟
لا أنظر إلى نفسي أبداً بوصفي مترجماً محترفاً، لي بعض الترجمات التي أحببت أن أنقلها إلى العربية، منها الشعرية ومنها النثرية، وفي معظمها اخترت أنا ما أترجمه، وأقول في معظمها لأني قمت مرّة بترجمة عشر قصائد كولومبية باقتراح من المستعربة الإسبانية ميلاجروس نوين، التي رشّحتني لهذه الترجمة.
ساهمت كذلك في مراجعة بعض الترجمات من الإسبانية إلى العربية، ومن العربية إلى الإسبانية. لا يمكنني القول إن لدي خطة في الترجمة بالمعنى التقليدي، لكن يمكنني القول إن ما ساهمت به في هذا الحقل، كان بدافع تعريف من يحب قراءة الشعر بأصوات شعرية جديدة، لم تترجم من قبل إلى العربية.
كما اخترت في بعض الأنطولوجيات التي ترجمتها، قصائد لم تُترجم من قبل إلى العربية، لأسماء باتت معروفة لدينا سواء من إسبانيا أو من أميركا اللاتينية. الآن لدي بعض الترجمات النثرية والشعرية التي لم تنشر، وقد أنشرها قريباً، ولا أدري بعدها حقيقة هل سأواصل الترجمة أم لا.
أودّ هنا الإشارة إلى جهود ترجمة الشعر العربي إلى الإسبانية، التي لم تلقي الصحافة العربية عليها الضوء الكافي، بل وأحياناً يتمّ التعتيم عليها، وأودّ أن أثمّن هنا عمل الصديق الشاعر والمترجم الشاب جعفر العلوني، في نقل الشعر العربي إلى الإسبانية، وكذلك الصديقة المستعربة ماريا لويسا برييتو، وقد ساهمت معها في ترجمة مختارات لسركون بولص إلى الإسبانية.
كذلك الصديق الشاعر والمترجم خالد الريسوني، وحضوره الترجمي في أميركا اللاتينية. وما دمنا في إسبانيا، فلدينا في برشلونة الصديق المترجم الإنجليزي روبِن موجير، الذي ترجم العديد من الشعراء العرب إلى الإنجليزية.
شعراء عرب كثيرون عاشوا في المهاجر بعضهم وإن طال الزمن اختار العودة إلى الوطن لإكمال الدائرة، فأين تتوقع خطوتك القادمة؟
ما دمنا في حضرة سركون بولص، فسيكون لدينا هنا اقتباس عن اقتباس ذكره في مقالته "الشعر والذاكرة"، وقد صدّرنا به الترجمة إلى الإسبانية، إذ كتب يقول:
"لقد أصابت جيرترود شتاين عندما قالت: يجب أن يكون لدى الكاتب بلدان اثنان، بلد ينتمي إليه، وبلد يعيش فيه فعلاً. ويكون البلد الثاني رومانسياً، منفصلًا عنه، ليس حقيقياً، لكنه موجود حقاً.. وبالطبع يكتشف الناس أحياناً بلدهم كأنه هو البلد الآخر".
الانفصال الكبير عن بلدي المهاجر لم يعد قائماً كما كان من قبل، الواقع أن الحياة تغيّرت كثيراً، فلم تعد هناك تلك العوائق أمام تواصل البشر أياً ما كان موضع إقامتهم، كما كان يحدث في الماضي القريب، وتزامن وجودي في إسبانيا مع ثورة الاتصالات ووسائل التواصل والقنوات الفضائية واليوتيوب وما إلى ذلك.
في أحيان كثيرة، أنسى أني أعيش في مدريد حيث يمكنني متابعة أحدث المسلسلات والأفلام والبرامج ومباريات كرة القدم، كما لو أني أعيش في القاهرة. هذا من جانب، ومن جانب آخر أفضّل العيش في اللحظة الحاضرة، ولحظتي الحاضرة في مدريد، وإذا ما أردت يوماً العودة نهائياً إلى مصر فسأفعل ذلك.
هناك صيغة جيدة في تقديري، لمن قضى سنوات طويلة في الخارج، وهي التي يقوم بها الصديق الدكتور طلعت شاهين، بعد أكثر من أربعين سنة عاشها في إسبانيا، وهي قضاء الوقت بين القاهرة ومدريد.