النووي في الأفق.. سيناريوهات النهاية روائياً

time reading iconدقائق القراءة - 11
قبة القنبلة الذرية المدمرة خلف شجرة مزهرة في هيروشيما اليابانية. 5 أغسطس 2006 - رويترز
قبة القنبلة الذرية المدمرة خلف شجرة مزهرة في هيروشيما اليابانية. 5 أغسطس 2006 - رويترز
بغداد-علي صلاح بلداوي

في الحديث عن النووي وتبعاته، لا تستحضر الذاكرة سوى هيروشيما وناغازاكي، فاليابان حتى يومنا هذا، تبقى الدولة الوحيدة في العالم، التي اختبرت الكارثة عبر محوٍ شامل، ضرب البشر والحجر في لحظة واحدة. 

كان ذلك في نهاية حرب عالمية مريرة، ومع أن اليابان كانت على شفير الاستسلام، لم تتردد الولايات المتحدة في استخدام القنبلة الذرية مرّتين، لتضع حداً دموياً للصراع، وتترك جرحاً إنسانياً غائراً غير قابل للشفاء.

هذا المثال، الذي ظنّ العالم أنه سيظل استثناءً في سجل الحروب، يهدّدنا اليوم بأن يتحوّل إلى سابقة قابلة للتكرار. فالتكنولوجيا العسكرية تطوّرت، والعقيدة النووية لم تتغيّر كثيراً: ما زال هناك من يؤمن بأن التلويح بالقوّة القصوى هو ما يصنع الردع، وأن اللعب عند حافة الهاوية يمكن أن يكون وسيلة للسيطرة.

نهاية البشرية في 72 دقيقة

في كتابها الأخير "الحرب النووية: سيناريو" (2024)، ترسم الصحفية الأميركية آني جاكوبسن، صورة قاتمة لما قد يحدث إذا ما انفلتت أوّل شرارة من جحيم السلاح النووي.

تقول: "في أقل من 72 دقيقة، ينتهي العالم كما نعرفه، منجزات 12 ألف عام من الحضارة تنهار في دقائق. هذه ليست رواية خيال علمي، بل سيناريو محتمل، ومبني على مقابلات مع خبراء في السياسة والدفاع والردع النووي".

تقدّم جاكوبسن محاكاة سردية حيّة ومفزعة، لأسوأ كابوس يمكن أن يعيشه كوكب الأرض. يبدأ كل شيء بإطلاق كوريا الشمالية لصاروخ نووي يستهدف واشنطن ومحطة طاقة في كاليفورنيا. ثم ترد الولايات المتحدة بـــ 82 رأساً نووياً. تمرّ هذه الصواريخ عبر الأجواء الروسية، فتظن موسكو أنها تحت هجوم أميركي وتطلق ألف رأس حربي دفعة واحدة.

في اللحظات الأخيرة، تفجّر كوريا الشمالية نبضة كهرومغناطيسية فوق أميركا، فتعمّ الفوضى. ثم تردّ الولايات المتحدة بكامل ترسانتها ضد روسيا. وتنتهي اللعبة.

ما يميّز الكتاب هو واقعيته المخيفة. ليس فيه تهويل مفتعل، بل تحليل بارد للمنطق النووي الحالي، وهو منطق لا يحتمل الخطأ، ولا يرحم التأخير. تفكيك جاكوبسن لهذا المنطق يفضح هشاشته: السلطة النووية الفردية التي تخوّل لشخص واحد فقط  الرئيس، حيث سيكون المسؤول عن الإبادة.

ومع اقتراب النهاية، تصف الكاتبة لما يمكن أن يحدث لواشنطن جرّاء قنبلة من ميغا طن واحد: الجلود تتمزّق من الرياح، الناس يحترقون أو يتجمّدون أو يُصعقون، البنى التحتية تتهاوى، الكابيتول يتلاشى، وحديقة الحيوانات تصبح مسرحاً للنفوق الجماعي.

 أما على المستوى العالمي، تختفي الشمس خلف سُحب الدخان، وينقرض الإنسان تماماً. تكتب جاكوبسن: "طالما أن الحرب النووية ممكنة، فهي تظل تهديداً أبديًا لبقاء البشر".

"العالم يتحرر": حين تنبّأ ويلز بالقنبلة الذرية

عام 1913، قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، جلس الروائي البريطاني هربرت جورج ويلز ليكتب رواية، ربما لم تكن مجرد عمل أدبي بقدر ما كانت استبصاراً حاداً لمستقبل العالم. حملت الرواية عنوان "العالم يتحرّر"، وكانت تتنبأ بسردية قاتمة لحرب مدمرة تبدأ بكارثة نووية.

يصف ويلز في الرواية، حرباً عالمية تُستخدم فيها أسلحة ذرية مدمّرة، فتتحول مدن بكاملها إلى أماكن غير صالحة للسكن لسنوات. يكتب عن كتل من المباني تشتعل بشراسة، وعن ألسنة لهب خافتة أمام وهج قرمزي مرعب. في خضم هذا الجحيم، يولد تساؤل عميق: هل تكون هذه الحرب نهاية كل الحروب؟

من خلال العنوان، كان الكاتب يطمح في نهاية الحرب لحكومة عالمية "عادلة"، يقودها الرجل الغربي الذي أشعل الحرب ذاتها، وهو ما يمثل الطبيعة الإنحيازية وأطماع الهيمنة التي لن تنتهي لا عبر الخيال العلمي ولا الواقع.

 يُذكر في كتاب "هيروشيما" سالف الذكر، أنّه بعد استخدام القنبلة فعلياً، أي بعد ثلاثين عاماً، طلب ويلز أن يُكتب على قبره: "لعنة الله عليكم جميعاً، لقد حذرتكم".

هيروشيما..الفجر الذي أشعل الجحيم

في لحظة واحدة، "الساعة 8:15 صباحًا بتوقيت اليابان"، خرج الأطفال إلى مدارسهم، وتوجّه الكبار إلى أعمالهم، بينما كانت طائرة أمريكية تحمل اسم - "إنولا غاي" - تستعد لإطلاق أول قنبلة ذرية في التاريخ، على مدينة مأهولة.

 أصبحت هيروشيما في تلك اللحظة، مسرحاً لأعظم مأساة نووية شهدها البشر، حين قرر الرئيس الأميركي هاري ترومان استخدام القنبلة الذرية ضد اليابان، لإجبارها على استسلام "مهين وغير مشروط".

كان قراراً بارداً تمّ بجرة قلم، أودى في لحظة واحدة بحياة عشرات الآلاف، تبعهم أضعافهم من الجرحى والمشوّهين، وعندما سُئل ترومان إن كان يشعر بالصعوبة الأخلاقية لاتخاذ مثل هذا القرار، أجاب: "لا طبعاً، كان قراراً سهلاً اتخذته هكذا". وأطلق صوت فرقعة بإصبعيه.

تجاوزت حرارة الانفجار 6 آلاف درجة مئوية، وهي حرارة تفوق سطح الشمس ذاته. أما على الأرض، فبلغت الحرارة 3 آلاف درجة، لتبدأ "عملية الشواء الجماعي في طرق وأزقة هيروشيما، كما وصفها أحد الشهود العيان. وقدّرت الحصيلة بنحو 140 ألف قتيل بحلول نهاية عام 1945، ارتفع العدد لاحقاً إلى 200 ألف بحلول عام 1950.

لكن الكارثة لم تتوقف عند هذا الحد. فمع مرور الأيام، ظهرت أعراض غريبة على الناجين: غثيان دائم، حرارة مرتفعة، تساقط شعر، تقرّحات أرجوانية، ونزيف من الفم والعينين. كان ذلك، كما سيُكتشف لاحقاً، التسمّم الإشعاعي. من لم يمت حرقاً، مات ببطء وتفتّت بفعل الإشعاع.

الآنسة ساساكي

"جلست الآنسة ساساكي في مكتبها بهدوء، رتّبت بعض الأغراض داخل درجها، تصفّحت عدداً من الأوراق، ثم خطرت في بالها فكرة الحديث مع الفتاة التي تجلس على يمينها قليلاً، قبل أن تشرع في عملها المعتاد المتعلّق بإعداد قوائم الموظفين الجدد، والمسرّحين، والمُلتحقين بالجيش.

 وما إن أدارت رأسها مبتعدة عن النافذة، حتى غمر الغرفة نور ساطع يعمي البصر. في تلك اللحظة شلّها الخوف تماماً، وتيبّست في مكانها، جالسة على كرسيها دون حراك. لوهلةٍ، انهار كل شيء من حولها؛ فقدت وعيها، سقط السقف فجأة، وانهارت الأرضية الخشبية للطابق العلوي متحوّلة إلى شظايا متناثرة، وتهشّم معها الناس الساقطون من الأعلى، فيما هوى السقف فوقهم.

أما هي، فقد سقطت فوقها خزائن الكتب، وانقلبت محتوياتها لترميها أرضاً، مما تسبب في التواء ساقها اليسرى بعنفٍ شديد حتى انكسرت. هناك، في مصنع القصدير الذي كان يبعد 1460 متراً من مركز سقوط القنبلة، وفي اللحظة الأولى للعصر النووي، تمّ سحق إنسان بواسطة الكتب".

أتبدو نهاية الآنسة ساساكي غريبة ومأساوية؟ هذه هي واحدة من النهايات التي دوّنها الصحفي والكاتب الأميركي جون هيرسي في كتابه "هيروشما.. حكاية ستة ناجين من القنبلة الذرية" (دار تكوين - 2019)، إذ بعد أقل من عام على إلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، توجّه هيرسي إلى اليابان، بهدف لقاء عدد من الذين نجوا من الجحيم النووي.

هناك، قرّر تركيز جهده على ستة فقط من هؤلاء الناجين، ممن اختلفت أوضاعهم بين شيوخ وشباب، رجال ونساء، أغنياء وفقراء، متزوجين وعزّاب، يابانيين وأجانب. ورغم هذا التنوّع، جمعهم جميعاً مصير واحد؛ فهم عايشوا أهوال الانفجار لحظة بلحظة، وبقوا على قيد الحياة ليسردوا لاحقاً تفاصيل ما جرى لهم.

استغرق هيرسي ثلاثة أسابيع في إنجاز مهمته، عايش خلالها مزيجاً من الرعب والانفعال، رغم كونه خبيراً في تغطية النزاعات والحروب، واطّلاعه على ما خلفته من دمار. لكنه يعترف بأن ما شهده في هيروشيما مختلف تماماً، يقول: "كل هذا الخراب وقع في لحظة، وباستعمال أداة واحدة، وهذه الحقيقة مفزعة إلى حد بعيد، وإذا كان هذا شعوري وأنا القادم بعد ثمانية أشهر من الحدث، فكيف كانت مشاعر أولئك الذين عاينوه في حينها؟".

 النووي خسارة للمعنى والوجود 

في كتابه "خطاب إلى العقل العربي" الصادر عام 1987، يتناول المفكر المصري فؤاد زكريا قضية الحرب النووية من زاوية قلّما التفتت إليها الدراسات الاستراتيجية أو العسكرية، إذ لا يكتفي بمناقشة الخسائر البشرية والمادية المتوقعة، بل يطرح سؤالاً فلسفياً حاداً، حول مصير العقل الإنساني والتوجهات الأيديولوجية والسياسية للبشر، بعد اندلاع مثل هكذا كارثة شاملة.

يرى زكريا أن معظم الدراسات الغربية، ولا سيما الأميركية، انشغلت بحسابات الدمار وتقديرات الضربات النووية المتبادلة، مهتمة بالتفوق التقني وكفاءة الردع، من دون أن تلتفت إلى التغيّرات الذهنية والنفسية الكبرى التي ستطرأ على الإنسان، بوصفه كائناً اجتماعياً وفكرياً، هذا إذا نجا من المجزرة.

ويذهب الكاتب إلى أن العقلية الاستراتيجية الأميركية، تنطلق من افتراض بقاء منتصر ومهزوم بعد الحرب النووية، بل تراهن على أن التفوّق في التكنولوجيا الدفاعية والهجومية، عبر ما عُرف وقتها بمبادرة "حرب الكواكب"، سيتيح للأميركيين البقاء، ويُقصي الاشتراكية من المشهد العالمي نهائياً. 

غير أن هذا التصوّر، بحسب زكريا، يتجاهل واقعاً عقلياً ونفسياً مختلفاً كلياً: إذ لا يمكن للناجين من حرب كهذه، بعد شهور في المخابئ، ووسط الخراب الشامل، أن يحتفظوا بنفس المنظومة الفكرية أو الأيديولوجية التي كانت سائدة قبلها. 

يشير زكريا إلى أن مفاهيم كالرأسمالية والربح والمنافسة والسوق ستغدو بلا معنى في عالم ما بعد النووي، حيث تختفي الحياة الاقتصادية كما نعرفها، وتصبح أولوية الإنسان هي البقاء، لا التملك.

وفي تحليله، يبيّن أن غياب الدراسات الأيديولوجية في شأن الحرب النووية ليس محض إهمال، بل محاولة واعية لتجاهل النتيجة الحتمية: وهي أن النظام الذي يشعل حرباً نووية من أجل فرض هيمنته سيختفي معها، سواء انتصر عسكرياً أم لا. فمثل هذه الحرب، حتى لو أحرز فيها طرف ما نصراً تكتيكياً، فإنها تعني خسارة شاملة على مستوى المعنى والوجود والهوية.

سؤال الرعب العائد

في خضمّ التصعيد العسكري المتواصل بين إسرائيل وإيران، يتردّد السؤال المرعب على ألسنة الجميع: هل نحن على أعتاب حرب نووية؟ ومع كل جولة توتر جديدة، تعود إلى الواجهة سيناريوهات الضربة الأميركية المحتملة للمفاعلات النووية الإيرانية، لإنهاء ما يُعتقد أنه اقتراب إيران من امتلاك السلاح النووي.

وقبل ذلك، لم يغب الحديث عن الحرب النووية؛ فالهند وباكستان، على خلفية صراعاتهما التاريخية، كانتا قد اقتربتا في وقتٍ قريب من حافة الحرب، في مشهد أعاد إلى الأذهان سيناريوهات الرعب النووي. وعلى نحو مماثل، أعادت الحرب بين روسيا وأوكرانيا التلويح بالخيار النووي إلى الواجهة، ما أثار مخاوف متصاعدة من انزلاق العالم نحو هاوية قد لا يكون منها رجوع.

تصنيفات

قصص قد تهمك