
يقدّم الفنان العراقي حسين هاشم (1987) في معرضه الجديد "تليد"، تجربة فنية تقوم على حوار مفتوح بين التراث والمعاصرة. وعلى امتداد 24 لوحة، يوظّف الفنان طاقة لونية جريئة تتفتّح بالحياة، وتمنح أعماله كثافة بصرية تبقي العين مشدودة إلى التفاصيل.
في سياق الفن العراقي والعربي، يبقى الحصان رمزاً متجذراً للشجاعة والأصالة والحرية، وأحياناً لمآسي الحروب. وتأتي مجموعة "تليد" كحلقة جديدة ومعاصرة في هذا الإرث الرمزي، فهي لا توثق حدثاً بعينه، بل تستدعي ذاكرة الملاحم والبطولات والهزائم.
ورغم أن حضور الخيل في الفن العربي ليس جديداً، من افتتان المستشرقين به، وصولاً إلى الروّاد الواقعيين الذين انشغلوا بتفاصيله التشريحية، فإن خصوصية تجربة هاشم، تكمن في الطريقة التي يعالج فيها هذا الرمز. فهو لا ينظر إلى الخيل كموضوع تشكيلي جامد، بل كطاقة درامية وبؤرة لونية متفجرة.
في لوحاته، تتحوّل الخيول من مجرد عضلات وسروج وصهيل، إلى تجسيد لروح الفروسية والعنفوان، ورمز يجمع بين القوة والعاطفة، بين الاندفاع والحرية.
لا يعيد الفنان إنتاج لصورة الخيل في المخيّلة العربية، بل يدخل مغامرة تشكيلية، تسعى إلى إعادة صياغة هذا الإرث بلغة بصرية خاصة به. هنا تتقدّم الخيل كثيمة محورية، ليست مجرد زخرف أو حضور منفرد، بل مركزاً نابضاً تلتقي عنده ذاكرة الفنان، وما تختزنه من تراث وتجارب وأحداث شخصية.
ومن هذا المركز، تنفتح اللوحة كفضاء رحب تتجاور فيه ملامح التاريخ مع الطبيعة والحياة اليومية، لتخلق حواراً بصرياً ممتداً وعميق الدلالة. وعن هذه التجربة، يقول الفنان لـ"الشرق: "فكرة المعرض انطلقت من رغبتي في استعادة الذاكرة البصرية لإرثنا، فاخترت الخيل العربية، لأنها رمز أصيل للقوة والحرية والجمال، سعيت من خلالها إلى ربط الماضي بالحاضر عبر التداخل بين الرموز السومرية ومفردات الحياة المعاصرة، لأجعل التراث حيّاً وفاعلاً في وجداننا اليوم".
مجرّة لونية متدفقة
لا تَمثُل الخيول في أعمال هاشم كموضوع مكتمل بذاته أو صورة معزولة، بل تأتي متشابكة مع نباتات وأزهار متفتحة، ومع وجوه وشخصيات تتوزّع بين الفارس العربي التقليدي، والأفندي ببدلته العصرية (مثل اللوحة التي يوظف فيها السيّاب)، والمرأة بأناقتها وإيحاءاتها.
هذا التداخل يخلق تكويناً بصرياً يخرج من إطار الواقعية المباشرة، نحو بعد كوني أكثر رحابة، حيث تبدو اللوحة أشبه بمجرّة لونية متدفقة الحركة، وفي قلب هذا المشهد، تظهر الخيول مثل شٌهب عابرة، تولّد تموّجات متناغمة يستقبلها المتلقي كما لو كانت مقطوعة موسيقية، تُعزَف بالألوان ويتم تلقيها بالبصر والوجدان.
اللون لا يحضر كزخرف أو عنصر تجميلي عابر، بل يتجلى كبوابة أولى لفهم العمل والدخول إلى عوالمه الداخلية. فهو يتعامل مع الألوان بحساسية عالية، تمنح العين انسياباً سلساً لا يرهقها ولا يغرقها، الألوان الزاهية والحارّة التي يعتمدها الفنان، تحمل دلالات على الحياة والامتلاء النفسي، وتتماهى مع طبيعة الخيل ذاتها بوصفها كائنات حرّة، متمرّدة، وطليقة.
في الوقت نفسه، تتجاوب هذه الألوان مع التراث في بُعده الحيوي، باعتباره ذاكرة جمعية ينهض من جديد عبر اللوحة. يشرح هاشم هذه الرؤية قائلاً: "اللون عندي ليس مكمّلاً، اللون عنصر جوهري يضفي طاقة وجرأة، ويمنح المشهد بعداً شعورياً عميقاً"، مؤكّداً بذلك أن اللون في أعماله ليس مجرد خلفية، بل هو روح المشهد ومفتاحه الأول.
لا يجد المتلقي نفسه أمام لوحات معلّقة فحسب، بل داخل عاصفة من الحركة واللون والطاقة المتفجرة. توحّد هذه المجموعة ثيمة الحصان والفارس، لكنها تتجاوز الوصف التشريحي إلى الغوص في الرمز والأسطورة والصراع الوجودي. ومن خلال تحليل عناصرها البصرية والمفاهيمية، يتكشّف خطاب فني يحوّل الخيل من كائن ملموس إلى فكرة، ومن مشهد إلى شعور خالص.
التعبيرية التجريدية
الإحساس الطاغي بالحركة المستمرة، هو العنصر الأكثر هيمنة. يستخدم الفنان أسلوباً يقترب من التعبيرية التجريدية، حيث تتلاشى الخطوط، وتتفتت الأشكال في خضم اندفاعها.
في إحدى اللوحات نرى كتلة هائلة من الخيول والفرسان تندفع أفقياً، من دون تفاصيل دقيقة، لكنها تُشعرنا بثقل اندفاعها كسيل جارف. هنا تتحوّل ضربة الفرشاة من مجرد وسيلة لتطبيق اللون إلى فعل عنيف وسريع، يرسم الصهيل ووقع الحوافر وغبار المعركة.
هذا الأسلوب يتكرّر بتفاوت، فنرى الفرسان الداكنين يتفجرون من قلب الأحمر الصريح، بينما تخترقهم خطوط فيروزية لامعة، كأنها برق أو لمعان سيوف في التحام قاتل.
ورغم وحدة الأسلوب، يمنح حسين هاشم لكل لوحة عالماً لونياً خاصاً، يعكس حالة شعورية مغايرة. تتنقل ألوانه بين الترابي الدافئ والفيروزي الساطع والصخب الناري. في لوحة تبدو الخيول كملحمة منقوشة على صخر قديم يبعث الحياة، وفي أخرى تتحوّل إلى كائنات نورانية مجنّحة تسبح في فضاء أسطوري، فتمنح المشهد بعداً روحياً يتجاوز الواقع نحو الميتافيزيقي.