"الإيزار العراقي".. فن فطري تنعشه مخيّلة النسّاجات

time reading iconدقائق القراءة - 10
الإيزار العراقي فن تراثي عريق - الشرق
الإيزار العراقي فن تراثي عريق - الشرق
بغداد-علي عباس

 تشتهر مدينة الخضر العراقية بصناعة الإيزار التراثي العراقي، المزدان بالأشكال والرموز، وهي مهنة محصورة بالنساء العراقيات، ولا يزاولها الرجال أبداً. 

والخضر جغرافياً حاضنة مدينة الوركاء أو أوروك السومرية، وهي مدينة كلكامش وملحمته، وتُعدّ من أوائل المراكز الحضارية في العالم (4000 ق. م)، ومركزاً دينياً لعبادة عشتار. سُمّيت تيّمناً بـالخضر (ورد ذكره في سورة الكهف)، وظهرت فيها الكتابة المسمارية، وهي علامات وأشكال مقطعية منقوشة بشكل لافت على الطين.

 كما اشتهرت الخضر التابعة إدارياً لمحافظة السماوة، بصناعة الفخار عبر استعمال العجلة، كما يقول طه باقر، في كتابه "مقدّمة في تاريخ الحضارات القديمة". يُحاكي الإيزار الكتابة المسمارية من ناحية الرموز والأشكال، ومن هنا يُعتقد بأصله السومري.

 يقول الباحث الأكاديمي ورئيس تحرير مجلة" التراث الشعبي" العراقية صالح زامل لـ"الشرق": "إن الإيزار هو حرفة يدوية تتميّز بها مدينة السماوة، ولا يمكن البتّ بشكل نهائي في سبب وجوده بهذا المكان دون غيره، ولكن نحن نُعلّل ذلك، إذ نجد انفتاح هذا المكان على البادية هو السبب الرئيس لانحصاره فيها".

يضيف: "فهي مركز يتبضّع منه البدو، ومما يتبضّعون هو الإيزار الذي يشغل مكاناً كبيراً لدى البدوي، فضلاً عن المواد الصوفية. ونعرف أن الكثير من الحِرف والصناعات الشعبية لصيقة بحاجات الإنسان وبيئته".

مخيّلة النسّاجات

 تقول أم محمد (التفات خريجان) مسؤولة مشغل صناعة الإيزار لـ "الشرق":" يحضر الإيزار أو الشف، أو السجاد المصنوع يدوياً، ابتداءً من تجهيز صوف الغزل حتى إنتاج القطعة، وجوباً في التقاليد الشعبية العراقية؛ فقد كان من تجهيزات العروس، كما يُستعمل لفرش الأرض أو تغطية الأرائك. ويسمّى نوع منه البساط المنثور؛ وهو مزدان بزهور منثورة على متنه، بينما يحتوي النوع الديواني، على حيوانات مثل الجِمال، وعربات ملكية وفي حاشيته منائر وطيور أسطورية". 

وعن عراقة صناعة الإيزار ومستقبل العمل الجمعوي تضيف: "مارست المهنة منذ أن كان عمري 16 سنة، فقد ورثتها عن والدتي، وبعد العام 2003، فكّرت بإنشاء مركز يجمع النساء في منطقتي، ويحميهن من الفقر والتهميش". 

أضافت: "قمنا بورشات تعليمية لتدريب الجيل الجديد، يشتغل في المركز 70 عاملة، يستغرق العمل في الإيزار مدة طويلة، وتعتمد النساء النسّاجات على مخيلتهنّ، برسم الأشكال والألوان أسوة برسوم الأطفال العفوية وبالألوان الزاهية الشمسية الساطعة". 

 ترى مسؤولة المركز ضعفاً في التسويق التجاري، وعدم إقبال المواطن العراقي على شرائه، ما عدا الأجانب الذين يسحرهم هذا النوع من الفن التقليدي الفطري، علماً أن الإيزار شارك في معرض بغداد الدولي، ومعرض في وزارة الزراعة، كما تلقّى المركز دعماً من البنك المركزي العراقي تثميناً له.

تقول أم محمد: "يجب أن تتعهّد به الدولة تسويقياً وإلّا، ستتعرّض هذه الصناعة التقليدية الجميلة، التي لا تخلو من مقوّمات الفن التشكيلي إلى الانقراض. علماً أنه لا توجد دراسات أنثروبولوجية حول هذه الحرفة ومهن أخرى مهدّدة بالزوال في العراق".

الحِرف من منظور بدوي

تُستهجن في العراق مهنة الحائك بشكل خاص، وكذلك المهن الأخرى عامة، وذلك (ربما) بسبب طغيان الثقافة البدوية كما يقول عالِم الاجتماع علي الوردي، التي لا تحبّذ سوى مهنة الرعي والقتال والانتساب حصراً إلى القبيلة، مثلما قال الشاعر دريد بن الصّمّة "وما أنا إلا من غزيّة إن غوتْ غويت، وإن تَرشد غزيّة أرْشد"، فليس مقبولاً في عُرف البداوة، ألقاب المهن والحِرف كالحدّاد والسمّاك والجزراوي، وكذلك ألقاب المُدن كالبصري والموصلي والحلي وسواها. 

منعَ نظام البعث خلال الحرب العراقية الإيرانية استخدام المهن كألقاب للوزراء ورؤساء الدوائر الحكومية، في عودة عكسية إلى العشيرة اعتماداً عليها ورفعاً لشأنها وسيطرتها، بعدما أهمل دورها، بدعوى التقدّم ومركزية الدولة، وتزامن ذلك مع الارتداد الآخر للسلطة آنذاك، وفرضها على العراق قسراً ما سُمّي "الحملة الإيمانية"، إهداراً لمدنية المجتمع التي تقدّمت نسبياً.

 يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة ذي قار عدي بجاي شبيب لـ"الشرق"، "تُصنّف الحِرف والمهن الشعبية طبقياً واجتماعياً، ويشترك في ذلك المال والعشيرة معاً، بل وهناك تمييز داخل الحرفة الواحدة ذاتها".

يضيف: "تعُدّ صناعة العباءة الرجالية مثلاً، التي يشتريها الشيوخ والذوات، أكثر رُقيّاً ومقبولية من صناعة الإيزار والبُسط وحياكة الملابس، على الرغم من انحدارهما من حرفة النسيج نفسها. وهكذا، فالمكانة الاجتماعية والعادات والتقاليد كالزواج، محكومة بالتصنيف المذكور، وفقاً للثقافة البدوية، والطريف في الثقافة الشركسية، أن العريس يُجبر على خطف زوجته". 

هذا ما قاله غرامشي في مفهوم الهيمنة الثقافية لطبقة أو جماعة أو فئة معينة، حيث تفرض أنساقها الثقافية وأخلاقها على المجتمعات. 

  تغيّرت طبيعة المجتمع العراقي بعد عام 2003 نحو محاكاة الديني والعشائري، ولكن، بشكل أقوى وأكثر غرابة، فأصبح شائعاً ومقبولاً، بل وذا حظوة، لقب العشيرة والطائفة. وهكذا، نرى الحال ما بين تقدّم وتراجع؛ ما يشكّل مادة سوسيولوجية مهمّة، لا تتناول تحوّلات المجتمع العراقي فحسب، إنّما تشمل الفن والأدب والعادات ونظام الدولة.

الفن الفطري العفوي

 لا توجد دراسات تشكيلية حول الإيزار من الناحية الفنية، ولم يحصل هذا الفن على الاهتمام الذي يستحقّه، باعتباره نوعاً من أنواع الفن الفطري. اعتمد الإيزار سابقاً على أشكال طلسمية عفوية، ذات ألوان حارّة جداً، تُشبه مناخ المنطقة الجنوبية حاضنته.

 ألوان تكسر القاعدة التشكيلية المعروفة، فهناك الأحمر المُخطّط  بالأصفر إلى جانب الأخضر، ما يُعتبر نشازاً لونياً في عُرف الفن التشكيلي الكلاسيكي، لكن معاينة الإيزار بشكل عام، لا تجعل العين، ترتدّ نشازاً، بل تتقبّله بأريحية، كما تشي في الوقت ذاته بجرأة النساجات بل الفنانات، على اجتراح السطح اللوني المتنوّع، الذي يتهيّب الفنان المحترف من كسر قواعده. 

استُقبل الإيزار العراقي بحفاوة في معرض للفنون الشعبية في المكسيك، ووصفته مجلة "النساء" بـ "العودة إلى الحديقة". 

الإيزار نحو اللوحة التشكيلية

يشهد الإيزار تطوّراً تشكيلياً واضحاً لناحية تنوّع الأشكال والرموز المنتقاة من البيئة المحلية، طيور، نباتات، رموز وأشكال سومرية، تذكر أم محمد بعض أسماء الطيور عندما تشير إلى أشكالها، "هذه نوارس، عصافير، طيور الهور، وهنا سلاسل في الحاشية".

 تنوّع غني بأشكال ذات قوّة لونية حارّة تخرق المألوف التشكيلي، وهنا، تكمن القيمة الفنية المدهشة، وذلك باستلهام الشعبي والتراثي بأسلوب معاصر. أما الأهم فهو حضور العفوية والحسّ والمخيّلة.

 إنّ عمل الفن هو شغل المخيّلة، تجديداً وابتكاراً. حتى الرسام الانطباعي الذي يرسم الحقول مباشرة، ينقل الصورة عبر المخيلة، وليس من طريق النقل الآلي، وهنا تساعده المخيلة والذاكرة والتراكم الشكلي واللوني على تقديم الزهرة، باعتبارها فناً وليس بوصفها زهرة في الحديقة فحسب. 

 ما بين الإيزار العراقي والبيروفي

تبدو الأشكال في إيزار البيرو، مكتملة المعالم، مُخطّطة على نحو دقيق، أفاعٍ، وجوه، أشكال شعبية وسواها، كما تبدو الوحدة اللونية الهارمونية واضحة فيه ومعتنى بها، في خلاف إلى حدّ ما مع العراقي الذي  يكسر القواعد اللونية والشكلية وكأنه مشغوف بذلك، فضلاً عن عدم وجود التخطيط الدقيق للأشكال، استكمالاً لفكرة الكسر والتلقائية وتجاوزاً للروتين والنمطية.

 لا تبرز ألوان كثيرة في الإيزار البيروفي مقارنة بالعراقي المولع بكثرتها وتنويعاتها، ولكنهما يشتركان في الألوان الحارّة الشمسية. وفي المقابل، يبدو البيروفي مُعدّاً بشكل جيد للتسويق التجاري، وربما لهذا السبب يحافظ على الوحدة الشكلية واللونية، استجابة للسوق، بخلاف العراقي الذي بقي فطرياً شكلياً ولونياً، ما يجعله مقترباً من اللوحة، عند تجهيزه بمتطلباتها من حيث التأطير والاهتمام بالكادر، ما يسهم بانتقال الإيزار من الفولكلور إلى عالَم اللوحة.

 لا سيما قد اشتغلت ورشة أم محمد مع فنانة عربية، التي اجترحت أشكالاً ورموزاً، وقام المشغل بإدماجها في تقنية الإيزار- اللوحة، ما حقّق نجاحاً جيداً وتجربة متميزة، بمعنى، قابلية هذا الشغل الشعبي على تطوير تقنياته باتجاه اللوحة التشكيلية. كما حاول المَشغل تطعيم الملابس والأزياء بقطع من الإيزار لغايات بالتسويق التجاري. إنّ بقاء الفن واستمراره يخضع إلى مرونته وقابليته على الاندماج بفنون أخرى.

تقنيات الإيزار

يشكّل الفن الفطري-العفوي (مخيّلة الطفولة التلقائية)، نوعاً مدهشاً من أنواع الفن الحديث والمعاصر، تيمّناً بالمقولة الشائعة "العبقرية هي الطفولة المستعادة قصداً"، وعند العناية بهذا الفن الفطري، وتقديمه عربياً ودولياً، سيجذب الانتباه إلى الفن التشكيلي العراقي من زاوية أخرى لم يعهدها. 

وهناك تجربة الفنانة الفطرية المغربية "الشعيبية" طلال، التي اكتشف موهبتها الناقد الفرنسي المعروف بيير كودير، والرسام الألماني فيرنر كيرت عام1966 فحقّقت شهرة عالمية، وعُرضت لوحاتها في باريس ونيويورك وفرانكفورت وجنيف، وأضافت إلى الفن المغربي المعاصر قيمة معنوية.

تصنيفات

قصص قد تهمك