نوبل وموسم التكهنات.. هل يخترق العرب منصة التتويج؟

time reading iconدقائق القراءة - 10
لوغو خاص بجائزة نوبل - nobelprize.org
لوغو خاص بجائزة نوبل - nobelprize.org
مدريد-هلا نسلي

تتحوّل الأيام التي تسبق إعلان جائزة نوبل للأدب كل عام، إلى ما يشبه الموسم العالمي للتكهنات، حيث تتقاطع التوقعات النقدية مع الرهانات الأدبية والسياسية على حدّ سواء.

 فالأكاديمية السويدية التي تمنح أرفع الجوائز الأدبية في العالم، توزّع أيضاً إشارات ثقافية وحضارية تثير جدلاً واسعاً حول اتجاهات الأدب العالمي، ومن يستحق أن يحمل لقب "ضمير الإنسانية" لذلك العام.

وبينما تتصدّر أسماء مألوفة قوائم الترشيحات، تمتدّ التكهنات إلى النقاش حول المعايير التي تحدد اختيارات اللجنة: هل تكافئ الجمال الفني الخالص، أم تصغي أكثر إلى الرسائل السياسية والثقافية التي تنطوي عليها النصوص أو الشخصيات؟

هذا العام، بدت المراهنات مستندة إلى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي وضعت هاروكي موراكامي وميرتشا كرتاريسكو وآن كارسون في الصدارة. مع احتمالات مفاجئة لأسماء مثل كريستينا ريفيرا غارزا وإنريكي فيلا-ماتاس. لكن يبقى السؤال: هل ستأخذ لجنة نوبل هذه التوقعات الرقمية بعين الاعتبار، أم ستختار مسارها الخاص بعيداً عن أي تكهنات؟

شوقي عبد الأمير

مدير عام معهد العالم العربي في باريس، الشاعر والدبلوماسي العراقي شوقي عبد الأمير، يقول في حديثه لـ"الشرق": "عندما كرّمت نوبل الأدب العربي باختيارها روائي، عبّرتُ عن احتجاجي. طبعاً بغض النظر عن نجيب محفوظ، فهو روائي كبير ويستحق نوبل بكل تأكيد. ولكن الأدب العربي هو في ذروته الإبداعية منذ التاريخ كان شعراً. الرواية والسرد متأخّرين. فقلت إذا أرادت نوبل أن تُنصف العرب حقاً فكان الأحرى أن تختار شاعراً. وكان يومها الشاعر الكبير والصديق العزيز أدونيس، الذي ما زال اسمه يتكرر حتى يومنا هذا".

يتابع: "منذ ذلك الحين، أحسست أن جائزة نوبل لا تنبع من الواقع النقدي التحليلي العميق للأدب العربي. استمرّت هذه النظرة موجودة في غياب الاختيار العربي. وكلنا يعرف كيف تواترت على الجائزة أسماء عالمية متواضعة، ولدينا في عالمنا العربي من هم أبرز منهم بكثير. هذا بدوره يطرح تساؤلات: لماذا يُنظر إلى العرب من زاوية فيها نوع من الإرادة السياسية التي تريد أن يتم فرضها حتى على الإبداع العربي هوية لا تمثّله. وبذلك نوبل لا تنظر إلى أدبنا العربي بتجرد، وهذا شيء مؤسف".

أدونيس.. خارج التوقعات

وعلى غير العادة، يغيب هذا العام اسم أدونيس عن قوائم توقّعات جائزة نوبل، رغم أنه ظل لعقود يتكرر في الترشيحات غير الرسمية للجائزة العالمية، بوصفه المرشح العربي الأبرز، ورمزاً لغياب العرب عن منصّة التتويج. 

كان حضوره في "بورصة التكهنات" بمثابة طقس سنوي يتردّد صداه في وسائل الإعلام العالمية، من دون أن يتحوّل يوماً إلى قرار من الأكاديمية السويدية التي تفتح أبواب قاعتها في التاسع من أكتوبر، لتعلن اسم الفائز. 

هكذا ظلّ أدونيس صاحب مسيرة العقود السبعة في الأدب والشعر، في موقع الحاضر الغائب، علامة على الإقصاء المستمر للعرب- وعلى حضوره الشخصي عالمياً- أكثر مما هو مؤشر على الاقتراب العربي من الجائزة. إذ وصل إلى منصّة تتويجها المصري نجيب محفوظ عام 1988، في واقعة بقيت يتيمة في تاريخ الجائزة.

يوم الخميس، سيتجدد المشهد نفسه، حيث يتوقع النقّاد أن يذهب التكريم إلى أحد الأسماء الكبيرة التي ترددت مراراً في السنوات الأخيرة، مثل الياباني هاروكي موراكامي، أو الروماني ميرتشا كرتاريسكو، أو الأرجنتيني سيزار آيرا، أو الكندية آن كارسون.

كذلك هناك أسماء أخرى تثير الجدل مثل الفرنسي ميشيل أويليبك أو البريطاني-الهندي سلمان رشدي، فضلاً عن الأميركي توماس بينشون والصينية كان شو.

مع ذلك، دائماً يبقى دائماً عنصر المفاجأة حاضراً بقوة، وأثبتت الأعوام الماضية، أن نوبل ليست رهينة التوقعات. وما فوز الكورية الجنوبية هان كانغ عام 2024، أو النرويجي يون فوسه عام 2023، أو الفرنسية آني إرنو عام 2022، إلا أمثلة على أن الأكاديمية قد تذهب في اتجاهات غير متوقعة تماماً.

اللافت أن الجائزة، التي يفترض أن تستند إلى القيمة الأدبية الخالصة، كثيراً ما تحمل في طياتها رسائل سياسية أو ثقافية، وهو ما يجعل فوز رشدي يُقرأ، تمثيلاً لا حصراً، كبيان دفاع عن حرية التعبير. أو أن تتويج أويليبك كإشارة إلى تبني صوت نقدي داخل أوروبا، أو تكريم كاتب آسيوي أو إفريقي، كخطوة لإعادة التوازن الجغرافي للأدب العالمي.

في هذه الحسابات يظل الأدب العربي خارج الصورة تقريباً، باستثناء اسم أدونيس، وكأن الجائزة قد وضعت المنطقة كلها في خانة الانتظار الطويل.

جعفر العلوني.. هذا كلّه قبل نوبل

في هذا السياق، ينظر الشاعر والمترجم السوري المقيم في إسبانيا جعفر العلوني، المعروف بترجماته للشعر العربي إلى الإسبانية، وخصوصاً لأدونيس في كتب مثل "أدونيادا" و"الثابت والمتحوّل" و"أول الجسد وآخر البحر"، إلى الأمر من وجهة نظر مختلفة ومرتبطة أكثر بالحضور الإبداعي العربي، وبالوعي الثقافي العربي نفسه.

 يقول: "الغرب- المؤسسة- لا ينظر إلى العرب،بشكل عام، إلا كفضاء استراتيجي وسياسي له ولاقتصاده. والتجارب كثيرة. وأقصد فضاء الموارد والثروات والنفط والعسكرة وما إلى ذلك. الغرب لا ينظر إلى العرب كبُعد حضاري أو إبداعي. الإنسان المسلم- العربي غير موجود على الخريطة الإبداعية العالمية بالنسبة للغرب – المؤسسة. أعتقد أن هذا هو السبب الجوهري في الاستبعاد العربي عن نوبل وعن حركة التاريخ والفكر والثقافة العالمية بشكل عام".

يضيف: "أما فيما يخصّ أدونيس والجدل العربي – وأشدد على العربي هنا – حول منحه نوبل، فأعتقد أن الأمر لا يتعلّق بأدونيس نفسه كشاعر، بقدر ما يعكس طبيعة الصراع العربي – العربي الممتد منذ الإسلام إلى يومنا هذا. هناك من يحارب من العرب كي يحصل أدونيس على الجائزة، وثمّة آخرون يحاربون كي لا يحصل عليها. وهنا يجوز لنا أن نسأل: هل ثمّة مؤسسة عربية رشّحت أدونيس؟ على العكس، أعرف أن هناك من حارب ضدّه، وراسلوا الأكاديمية السويدية كي لا يعطوه الجائزة". 

واعتبر العلوني "أن المسألة إذاً ليست أدبية على الإطلاق. إنها فكرية وثقافية في جوهرها. من يؤيّد ومن يرفض أدونيس، بشكل عام، لا ينطلقان غالباً من تقييم إبداعه وشعره، بل من موقعهما الفكري أو الأيديولوجي، وكأن الإبداع عندنا لا يُقرأ لذاته، بل يُحاكم بناءً على انتماء صاحبه ومواقفه. هذا في رأيي يعكس مشكلة أعمق في الثقافة العربية بشكل عام، وهي عجزنا عن قراءة أي كاتب أو مفكّر أو شاعر إلا من خلال انتمائنا نحن، لا من خلال ما يقدّمه هو، أي إبداعه وشعره".

يقول: "نحن لا نقرأ النص لنفهمه، بل لنبحث فيه عمّا يؤكد ما نؤمن به. لذلك يريد البعض من أدونيس أن يقول ما يريدونه هم، لا ما يقوله هو. وإذا قال ما أرادوه فهو يستحق نوبل، وإذا لم يفعل، فلا يستحقها. هذه مشكلة متجذّرة في ثقافتنا، لأنها تجعل العلاقة بين القارئ والكاتب علاقة صراع أو ولاء، لا علاقة فهم وحوار وبحث عن المختلف".

ويؤكد العلوني أن هذا الأمر "مرتبط بشكل عام بالمماهاة بين الكاتب ومواقفه أو انتماءاته، بغض النظر عن إبداعه. هذه المماهاة منتشرة بشدّة في العالم العربي، وهي انعكاس للمماهاة الأكبر بين النظام والدولة. فكما لا يستطيع المواطن العربي التمييز بين الدولة بوصفها كياناً جامعاً، والنظام بوصفه سلطة حاكمة، لا يستطيع أيضاً أن يفرّق بين الكاتب وإبداعه من جهة، ومواقفه الشخصية أو الفكرية من جهة أخرى. وهذا فعلياً ما يحدث مع أدونيس، وهو انعكاس لمشكلة أكبر".

ويرى أن هذه الظاهرة العربية- العربية المرتبطة كل عام باسم أدونيس ونوبل، تكشف أولاً الانشقاق العربي- العربي، مرّة أخرى، كما تكشف بوضوح الخلط المزمن في ثقافتنا. فهي تضعنا أمام مرآة نرى فيها عجزنا عن الفصل بين الجمال والفكر، وبين الإبداع والموقف، بين النص وصاحبه. لهذا السبب، سواء حصل أدونيس على نوبل أم لم يحصل، فإن الجدل حوله سيظلّ دليلاً على أننا ما زلنا نُقوّم المبدع بمعيار الولاء لا بمعيار الإبداع. وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة لأنها تعبّر عن مأزقنا الثقافي العميق: مأزق الوعي العربي في التعامل مع الفكر المختلف، ومع حرية الإبداع بوصفها قيمة إنسانية، لا أداة أيديولوجية. هذا كله قبل نوبل. ثم فلتأتِ نوبل بعده".

مكانة الأدب في عصر الوسائط المتعددة

لا يمكن تجاهل الجدل الذي أثاره فوز بوب ديلان عام 2016، إذ أثار حينها جدلاً واسعاً حول معايير الجائزة، واعتبره كثيرون هبوطاً في مستوى نوبل حين منحت لأحد أعظم موسيقيي القرن وليس لكاتب كلاسيكي بالمعنى التقليدي. 

هذا القرار فتح باب النقاش حول معنى الأدب ومكانته في عصر متعدد الوسائط، وعزّز الانطباع أن الجائزة قد تتجه أحياناً إلى رمزية ثقافية وسياسية تتجاوز حدود النص الأدبي الصرف.

لكن الغياب المستمر لا يمكن أن يُفسَّر بضعف الإبداع العربي، إنما بعوامل بنيوية وثقافية متشابكة. حركة الترجمة محدودة ولا تنجح غالباً في تقديم الأدب العربي بلغات العالم الكبرى بصورة متواصلة ومنهجية، وشبكات النشر والتوزيع تفتقر إلى المؤسسات العالمية القادرة على الترويج.

يضاف إلى ذلك، أن آليات الترشيح المعتمِدة على الجامعات والأكاديميات الدولية، نادراً ما تضع أسماء عربية في الصدارة، فضلاً عن أن النظرة السياسية والثقافية إلى المنطقة قد تؤثر في قرارات تمنح أو تحجب الاعتراف.

ومع اقتراب موعد الإعلان عن الجائزة هذا العام، سيظل السؤال معلقاً: هل يتغيّر المشهد ذات يوم ويخرج اسم عربي من الظل إلى دائرة الاعتراف العالمي، أم أن نوبل ستبقى محطة يتجدد معها الإحباط العربي عاماً بعد عام؟

 في الانتظار، يتكرر المشهد نفسه: قاعة الأكاديمية السويدية تفتح أبوابها، أسماء كبرى تعلن، العالم يحتفل، والعرب يتابعون من بعيد، وسط فضول جديد حول مدى تأثير توقعات الذكاء الاصطناعي على قرار اللجنة النهائية.

تصنيفات

قصص قد تهمك