
في لحظة فارقة من التاريخ العربي، هي لحظة نكسة حزيران 1967، دخل مؤيّد نعمة عالم الكاريكاتير. أرسل وهو في السادسة عشرة من عمره، رسماً يصوّر الرئيس الأميركي جونسون، رافعاً قنبلة "نابالم" بدل شعلة الحرية.
وضعه ذلك الرسم في صدارة مجلة "المتفرّج" البغدادية الساخرة، وأعلن ميلاد فنان لا يرى في الكاريكاتير ضحكاً عابراً، بل صرخة في وجه الخذلان.
حوّل نعمة الكاريكاتير من هامش في الصحف إلى فنّ قائم بذاته، ومن النكتة إلى اللغة، ومن السخرية إلى شهادة على عصرٍ كامل. أسّس مع جيل من الفنانين العراقيين، مدرسة بغدادية حديثة للكاريكاتير، متفرّدة في خطوطها وتقنيتها وجرأتها، كانت انبثاقاً من الواقع العراقي ذاته، بكل ما فيه من مأساة وسخرية ومرارة.
أمضى الفنان الراحل مسيرة طويلة امتدت لأكثر من ربع قرن في صحف عراقية وعربية، مثل "الجمهورية" و"طريق الشعب" و"المدى"، قدّم خلالها أعمالاً شكّلت علامة فارقة في فن الكاريكاتير السياسي العربي.
تميّز نعمة بالقدرة على تحويل الفكرة إلى صورة ساخرة مشحونة بالتأمل والقلق، ما جعله أحد أبرز رسامي الكاريكاتير في العراق والعالم العربي.
في الذكرى العشرين لرحيله (1951 – 2005)، نظّمت الجمعية العراقية الكندية في مدينة ميسيساغا، معرضاً استعادياً بعنوان "ريشة مؤيّد"، ضمن فعاليات مهرجان "أيام الثقافة العراقية"، ضم أكثر من 65 عملًا فنياً بين رسومٍ ومنحوتات، شكّلت خلاصة تجربته الإبداعية.
لم يتوقف المعرض عند محطته الأولى، إذ تواصل عرضه متنقلاً بين المدن الكندية، في إطار مبادرة لتوسيع دائرة الجمهور وتعريفه بتجربة الفنان. إذ انتقل المعرض إلى لندن – أونتاريو، حيث عُرضت الأعمال إلى جانب فعاليات معرض الكتاب العربي "شارع المتنبي"، على أن تكون وجهته المقبلة مدينة مونتريال في مقاطعة كيبيك.
نحت كاريكاتيري بالخزف
لم يتوقف مؤيد نعمة عند حدود الرسم، بل خاض تجربة فنية فريدة هي النحت الكاريكاتيري بالخزف. تجربة تتطلّب جرأة فنية ومعرفة تقنية دقيقة، إذ إن فن الخزف من أكثر الفنون حساسية وتعقيداً، يبدأ من الطين ومعالجاته الكيميائية وصولاً إلى النار والألوان وحرارة الأفران.
استطاع نعمة أن يجمع بين عالمين متناقضين ظاهرياً: الطين والكاريكاتير، الجدية والهزل، السخرية والنحت، ليحوّل المادة الصلبة إلى لغة بصرية تنبض بالحياة. وكان شجّعه على ذلك أستاذه النحّات إسماعيل فتّاح الترك، الذي رأى فيه روحاً تجديدية تتجاوز السائد في الأكاديمية العراقية آنذاك.
من هذه التجربة، خرجت وجوه من الطين تبتسم بمرارة وتسخر بعمق؛ كوجوه فائق حسن، سعد شاكر، الجواهري، والسيّاب. وأصبحت أعماله جزءاً من ذاكرة الكاريكاتير النحتي في العالم. تجربة نادرة حتى على مستوى الفن العالمي، حظيت باهتمام واسع حين ضمّ متحف غابروفو في بلغاريا أحد أعماله ضمن مقتنياته.
تقول الصحفية مها البياتي، زوجة الفنان الراحل والمُشارِكة في افتتاحية المعرض: "إن مؤيد نعمة هو صاحب التجربة الأولى في الوطن العربي في إدخال الكاريكاتير إلى فن الخزف".
أضافت: "بدأ عام 1973 بنحت رؤوس كاريكاتيرية لعدد من أساتذته مثل كاظم حيدر، فائق حسن، سعد شاكر، إسماعيل الشيخلي، إسماعيل الترك، وأسعد عبد الرزاق. تمّت سرقة أحد تلك التماثيل في باريس نظرًا لقيمته الفنية العالية".
وتشير البياتي إلى أن الراحل "كان يحلم بالتفرّغ لإكمال هذه التجربة التي لم يستطع أي فنان حتى اليوم مواصلتها، وكان يخطّط لإنجاز تماثيل للشعراء وتحديداً الجواهري، مظفر النواب، صادق الصائغ، غير أنّ الموت لم يمهله".
ومن أبرز أعماله أيضاً 12 رأساً كاريكاتيرياً، بينها رأس الشاعر سعدي يوسف، اقتناها الفنان رافع الناصري بعد أن أوكل إليه اختيار الشخصيات، ولا تزال هذه الأعمال محفوظة في عمّان.
الكاريكاتير كأداة فكرية
تظهر أعمال نعمة المعروفة منذ أن كانت تُنشر في الصحف، محدّدة وهادفة. لا يرسم إلا ما يؤمن به، رافضاً الارتجال أو المجاملة الفنية. كان يرى في الكاريكاتير أداة فكرية وجمالية في آن، تسخر من العالم لتفهمه.
لم يقتصر عطاؤه على الكبار، فهو يُعدّ أحد أبرز روّاد رسوم الأطفال في العراق منذ انطلاق "مجلتي" عام 1969. هناك تعلّم على يد الفنان طالب مكي، وابتكر شخصيات أصبحت جزءاً من ذاكرة الطفولة العراقية مثل "جدّو من العصر الحجري"، و"عبقري ومساعده سليم"، و"جحا" و"أشعب".
كان يعرف كيف يوازن بين البراءة والذكاء في خطّه، وكيف يمنح الطفل متعة بصرية تحمل في طيّاتها روح النقد والخيال. وبهذا وضع بصمته المميّزة في رسوم الأطفال والكاريكاتير السياسي والاجتماعي.
أسس مع مجموعة من زملائه دار ثقافة الأطفال في العراق، ليكون من أوائل من أعطوا للطفولة حضوراً فنّياً راقياً في بلد يواجه صعوبات سياسة واجتماعية.
في سنوات ما بعد الاحتلال الأميريكي للعراق، حين تفكّكت البنى والمعاني، ظلّ مؤيّد نعمة حاضراً بوصفه أحد أبرز الأصوات البَصرية. واجه الخراب برسمة واحدة، قادرة على أن تختزل مأساة بلد بأكمله. لم يكن الكاريكاتير عنده زينة صحفية أو تعليقاً على حدث سياسي، بل كان خطاباً موازياً، نافذاً في عمق التجربة العراقية. التقط التناقضات، وأعاد تأويلها بلغة درامية صارخة وهادئة في آن.