
يظنّ الكثيرون أن فن السيراميك مجرّد حرفة وظيفية تُنتج أواني وكؤوساً وأدوات معيشة، مطلية بطبقة تزجيج لامعة تضمن المتانة وطول الاستخدام. غير أن هذا التصوّر لا يرقى إلى طبيعة السيراميك، بوصفه فناً قادراً على إنتاج سرديات جمالية فخمة.
يظهر هذا الوعي الفني بوضوح في المتحف الوطني للسيراميك والفنون في فالنسيا (بلنسية في العصر الأندلسي)، من خلال المعرض الفردي للفنانة ساندرا فال، بعنوان "إيروتيكا الزمن".
يدعو المشروع إلى إعادة التفكير بتجربة الزمن من منظور رمزي وطقسي وجسدي، بعيداً عن فهم الزمن كمقياس خطي، تتصوّره الفنانة كمادة حيّة وممتدة، تتجلى في المنحوتات واللوحات والمنشآت الفنية.
وباستخدام مواد كالخزف والزجاج والمعادن والمنسوجات، تبني فال عالمًا يتشابك فيه النمطي والمعاصر، الملموس وغير المرئي، الروحي والتكنولوجي، وتفتح المجال أمام تصور طرق أخرى لعيش العالم، من منظور زمني أكثر حساسية وعمقاً.
تنتقل الأعمال من دائرة الوظيفة إلى مجال التجربة الرمزية والطقسية. تقدّم فال في هذا المعرض سبع محطات رئيسة، من بينها "بي بيرسي" المستوحاة من النظام النجمي الثلاثي في كوكبة فرساوس، و"تيخي" وهي آنية خزفيّة ضخمة مخصّصة للتأمّل في فكرة المصير.
هنا يتحوّل الزمن إلى مادّة حية تتشكّل عبر الخزف والزجاج والمعادن، فتغدو الأعمال كمحاولات لاستعادة الإيقاع الداخلي للمادّة ذاتها، حيث تتجاور العناصر الطقسية الكامنة فيها، بما تحمله من دلالات روحية غير مباشرة، مع الإيقاعات الكونية التي تمنح العمل امتداداً زمنياً أرحب، فينشأ عن هذا التفاعل سرد رمزي، يُعيد وضع الإنسان داخل مسار الزمن بوصفه جزءاً من حركة أوسع من ذاته.
يؤسّس معرض ساندرا فال لتجربة زمانية موسّعة، إلى جانب بعض الأعمال السيراميكية الأخرى في المتحف، إلى سرديات متنوّعة جمالية تقدّم اتجاهاً موازياً، تعمل على تحويل بناء خزفي مكثّف إلى حكاية بصرية.
مشهد يضم شخصيات وعلامات وزخارف تتجاور داخل مساحة واحدة، فينتقل السيراميك من حيّز الزخرفة إلى فضاء الحكاية. هكذا، يصبح السطح المزجّج صفحة تُقرأ، وتتحوّل الخطوط والوجوه والعناصر المتتابعة إلى وحدات سردية تتقاطع داخل زمن تشكيلي. فالسرد لا يستند على اللغة، بل على المادة نفسها؛ فتُعاد صياغة الحدث عبر إيقاعات اللون والملمس والبنية، ليغدو الخزف وسيطاً لاستحضار القصة، وليس كحامِل لها فحسب.
تتّضح على هذا النحو مساحة أوسع لفهم فنّ السيراميك، ليس بوصفه فناً للزينة فقط، بل مجال يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والزمن والمادّة والتاريخ.
هنا تُنتج الأعمال "سرديات للمصير" و"سرديات للزمن" وسرديات للحكاية اليومية أو الرمزية، ليبدو المتحف فضاءً يكشف أنّ السيراميك قادر على حمل الذاكرة والطقس والفكرة، وأنّه وسيط ينقل الحسّ، ويؤسّس معرفة جديدة بالصور والمواد، بعيداً عن حدود الوظيفة ومفهوم الزخرفة التقليدية.
أقسام المعرض
يضمّ المتحف "الوطني للسيراميك والفنون الفخمة" في فالنسيا عدداً كبيراً من الأقسام التي تمتدّ زمنياً من العصور الإسلامية والأندلسية، إلى سيراميك القرون الوسطى. ثم النهضة والقرنين السادس عشر والسابع عشر، وسيراميك القرن التاسع عشر في مانيسيس (بلدة قريبة من فالنسيا اشتهرت بورش الخزف منذ العصور الوسطى).
كذلك يضم قاعات مخصّصة للفن الحديث والمعاصر، ومعارض مؤقتة، وقاعات الزجاج والمعدن والنسيج، فضلاً عن جناح التاريخ المحلي وقاعة العربات الملكية. يظهر هذا التنوع بوصفه خريطة زمنية وثقافية يتقاطع فيها التطوّر التقني مع التحوّل الجمالي، ما يجعل المتحف فضاء شاملاً لقراءة تاريخ المادة والزخرفة والسرد البصري.
قسم السيراميك الإسلامي والأندلسي
يعرض هذا القسم زخارف الكوبالت والأزرق الفيروزي وأعمال اللستر (كلمة يونانية تعني البريق المعدني). ظهر أولاً في الخزف الإسلامي في العراق في القرن التاسع، ثم انتقل إلى مصر الفاطمية، وإلى الأندلس في ملقة وألمرية وفالنسيا/مانيسيس. كما أصبح جزءاً أساسياً من هوية السيراميك الفالنسي. تكشف القطع عن أثر العالم الإسلامي في تشكيل الذوق المحلي من خلال المزج بين الهندسية والنباتية والخط العربي.
(اللستر: تأثير معدني براق يُنتَج بإعادة الحرق في فرن منخفض الأوكسجين، فيتشكل لمعان ذهبي أو نحاسي على سطح القطعة).
تأثير تقنية اللستر الأندلسي على فالنسيا
قدّمَ للصناع المسيحيين تقنيات لم تكن معروفة في أوروبا، وأدخل الزخرفة المعدنية اللامعة إلى ورش فالنسيا ومانيسيس. امتزجت فيه العناصر الهندسية والزخارف، والأشكال النباتية والخط العربي. كما تشكّل منه ما يعرف بـ "اللستر الفالنسي" الذي أصبح أشهر صادرات شبه الجزيرة الإيبيرية في القرون الوسطى.
قسم سيراميك القرون الوسطى
يمثّل هذا القسم مرحلة الانتقال من الوظيفة اليومية إلى الزخرفة الرمزية. تتجاور الأطباق والبلاطات التي تجمع بين الرموز الدينية والعلامات الحِرفية وتقنيات الألوان أحادية الحرق. تُظهر القُطع كيف بدأ السيراميك يكتسب دوراً تصويرياً يسبق ولادة السرد البصري اللاحق.
قسم عصر النهضة والقرنين السادس عشر والسابع عشر
تظهر فيه الأطباق التصويرية التي تعتمد السرديات الأسطورية والمشاهد الإنسانية، مع استعمال واضح لمدارس الرسم الإيطالية. تنتقل المادّة هنا من الزخرفة إلى "اللوحة الخزفية" التي تسرد حكاية، أو تستعيد حدثاً. يمثّل القسم تحوّلاً جوهرياً نحو السيراميك كأسلوب روائي- حكاية.
قسم سيراميك القرن التاسع عشر في مانيسيس
تستعرض هذه القاعة عودة "اللستر" بوصفه علامة محلية مميزة، مع استعادة الأنماط القديمة وتطويرها لصالح سوق أوروبية واسعة. تُظهر القطع كيف أعادت مدينة مانيسيس صياغة تقاليد الأندلس داخل إطار صناعي– فني جديد. يتجلّى في هذا القسم الوعي بالتاريخ بوصفه مادة قابلة لإعادة التشكيل.
قاعات الفن الحديث والمعاصر
تقدّم هذه القاعات انتقال السيراميك إلى البُعد الفكري-التجريدي (الفن المفاهيمي)، حيث تتجاور التركيبات الفنية، والتجارب المادية، والقطع التي تستجوب الزمن والجسد والفضاء. تُعرض أعمال لفنانين يستخدمون الخزف بوصفه وسيطاً للتفكير، لا للزينة فقط، ما يربط المادة بأسئلة الفلسفة والتقنية.
قاعات الزجاج والمعادن والنسيج
تكمّل هذه الأقسام القراءة العامة للمتحف، إذ تُظهر العلاقة المتبادلة بين الحِرف والفنون التطبيقية. توضّح قطع الزجاج والمعدن تطوّر تقنيات الصهر والزخرفة عبر العصور، بينما يمنح النسيج إطاراً بصرياً لفهم تطوّر الذوق العام.
قسم التاريخ المحلي وقاعة العربات الملكية
يقدّم هذا القسم الذاكرة الاجتماعية للمنطقة عبر أدواتها اليومية ورموزها الاحتفالية. وتشكّل العربات الملكية مثالاً على المزج بين الوظيفة والتمثيل البصري، إذ تتحوّل العربة إلى مسرح للزينة المعمارية.
نبذة تاريخية عن فن السيراميك
يبدأ فن السيراميك من الطين، تلك المادّة الأولى التي لامسها الإنسان منذ فجر حياته، والمأخوذة من الأرض التي كان يمشي عليها ويتعامل معها بوصفها امتداداً لوجوده. ومع اكتشاف النار، دخلت المادّة مرحلة جديدة.
كانت لحظة التقاء الأرض بالنار إحدى أهمّ التحوّلات في تاريخ الفن والعمران؛ فالنار لم تُحوّل الطين إلى مادّة صلبة فقط، بل حوّلت الإنسان إلى شخص مدني من ناحية الأكل إذ تجنّب النيئ، وأنست طقوسه في إعداد الطعام، فأصبح طقساً تشاركياً مع المرأة، كما منحت الخيال الإنساني بعداً دينياً وفلسفياً، وجعلته كائناً فنياً يوظّف النار في التشكيل والعمران.
ومن هذا الاقتران بين الطين والنار نشأ الطابوق؛ إذ كانت اللبنات الطينيّة تُجفّف تحت شمس الشرق الساطعة، قبل ظهور الأفران. ثم تطوّرت إلى طابوق محروق صار أساس الحضارات الأولى.
ومع الزمن ظهرت تقنية التزجيج الأولى، حين لاحظ الإنسان أن الرماد والمعادن التي تلامس حرارة النار العالية تترك طبقة زجاجية رقيقة فوق السطح الطيني. فتحوّلت هذه الملاحظة العفوية إلى أوّل وعي بصناعة "الطلاء الزجاجي"، الذي سيصبح لاحقاً جوهر الجماليات الخزفية في حضارات الشرق الأدنى، وممهداً لولادة الألوان اللامعة والزخارف المعقّدة، التي ستشكّل تاريخ السيراميك حتى يومنا هذا.
التزجيج في الحضارة
أما أوّل تزجيج عرفه التاريخ، فظهر في الشرق الأدنى القديم، حيث ابتكر الحِرفيون طبقة زجاجية رقيقة تُذاب فوق السطح الطيني بدرجة حرارة عالية.
ظهرت أمثلة مبكرة في بلاد الرافدين منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وتطوّر هذا الفن بوضوح في بابل من خلال الطابوق الملوّن المزجّج لبوابة عشتار ذات الألوان الكوبالتية والفيروزية، مع ما يقابله في مصر القديمة من استعمال مبكر للتزجيج في بعض القطع الصغيرة (الحُلِيّ والتماثيل الصغيرة).
شكّلت هذه الابتكارات لحظة تأسيسية جمعت بين المادّة والصنعة والجمالية الرمزية، وفتحت الطريق لمسار طويل بلغ ذروته لاحقاً في الخزف الإسلامي والأندلسي.








