
الموت هو الحقيقة الوحيدة، بلغات العالم وعلومه. لكنه يبدو مختلفاً بلغة الفلسفة والمفكّرين. من هنا ارتأت إحدى مجلات الفلسفة الفرنسية العريقة، أن تخصّص عدداً مميّزاً عن الموت، أشركت فيه كبار المفكرين والمثقفين الفرنسيين.
أحاط الموضوع بثيمة الموت من جهاتٍ عدّة. وقدّم إجابات مضيئة، بل نزعم أنها إجابات سعيدة، للمصالحة الجميلة التي يمكن أن نقوم بها مع الموت. هذا الذي لا يفتأ يُدهش، يُذهل، يرعب، يُحزن ويُبكي، ما دام يضع نقطة النهاية للرغبة الفطرية بالحياة.
والواقع أن سؤال الموت هو سؤال حيوي بحدّ ذاته. ونحن نتفادى مواجهته ما أمكن، لكنه حين يطرق أبوابنا عن قرب، عند وفاة قريب مثلاً، أو رؤية جسد ميّت، أو عندما نتجنّب كل الأسباب التي قد تؤدي إليه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لا نملك إلا أن نفكّر به، كل من موقعه. وللفلاسفة قصب السبق في ذلك بما يملكون من قدرات تحليل واجتهاد.
الاستقرار في الحياة الإضافية
اتجهت "la phylosophie" بالسؤال إلى المفكّر الكبير إدغار موران؛ لأنه أولاً يبلغ من العمر 104 أعوام، لكن عقله ما يزال متّقداً. ولأنه ثانياً، سبق أن ألّف كتاباً بعنوان "الإنسان والموت" سنة 1951، عندما كان في الثلاثين من عمره، وهذه مفارقة بحد ذاتها.
يقول موران في إجابته على سؤال الموت: "كنت قد توقّعت الموت ابتداءً من سن التسعين؛ وبما أنه لم يأت بعد، وأنا اليوم في الرابعة بعد المئة، فقد استقرّيت في هذه الحياة الإضافية، وأنا أعلم أنه سيأتي فجأة لا محالة".
حب الحياة
هذا الاستقرار يمنحه فيلسوف آخر ما يزال شاباً، هو جوليان دو سانكتيس، المتخصّص في الفلسفة والأخلاقيات التطبيقية في مجال الروبوتات، صفة "حبّ الحياة" كحيلة عملية ناجعة. وذلك بعد أن جرّب حالة اكتئاب وقلق عصيبين، قرّبته من الموت المحتوم حكاها في كتاب اعترافه قائلاً: "مسؤوليتي اليوم هي أن أجد الوسائل التي تجعلني أحب حياتي. ويكون ذلك عبر الإصغاء الدقيق لرغبتي الخاصة، وبناء هيكلي الأخلاقي بناءً متأنياً ودقيقاً".
التخصّص في مخلفات الموت
وفي تجربة ثالثة مختلفة، واجهت جنيفر كيرنر، عالِمة الآثار الجنائزية، والباحثة في متحف الإنسان، سؤال الموت، بالتخصّص في دراسته على مستوى عالٍ. فتقول: "خبرتُ الموت في الصميم، وأنا بالكاد خرجت من المراهقة، حين توفّي الرجل الذي كنت أحبّه في ظروف مأساوية".
أضافت: "ولمواجهة صاعقة الحزن، أبعدت الحصّادة العظمى، أي الموت بحسب التعبير الفرنسي، عنّي بجعلها موضوع دراستي. درستها من زاوية العلوم الإثنو-أثرية. وبانتشال بقايا الطقوس الجنائزية القديمة من باطن الأرض، استطعت الاقتراب من معتقدات أسلافنا واستلهام حكمتهم".
الضحك عبر الفلسفة
لكن تظلّ حكاية إيف كوسيه، ذات تميّز خاص. فهو فنّان فكاهي يقدم عروضه المضحكة كردّ على جدية الموت كل مساء على المسرح، باعتماده على الفلسفة. وبما أنه فيلسوف، وسبق أن كتب في هذا الصدد كتاباً دالاً في هذا السياق بعنوان "الذين يفنون والذين يحتضرون: فلسفة صغيرة لنهاية الحياة". فقال رأيه بصراحة: "اكتسبت قناعة واحدة لا غير: الفكر لا يهيّئنا أبداً للموت. لكن الخيال، المقترن بسلطة الكلمات، يمنحنا ألف طريقة كي نقول النهاية، ووصفها من الزوايا كلها، في محاولة لترويض لحظة الرحيل".
تاريخ الموت فلسفياً
إن التجارب المُنتقاة أعلاه، هي صدى شخصي وذاتي لما فكّر فيه وتأمّله الفلاسفة الكبار منذ القدم. وأوجز مقال هذه المسألة، على أساس أن فكرة الموت مرّت بأعمار عدّة. العُمر هنا بمعنى امتداد واسع من السنوات تتجاوز مفهوم العصر أو الفترة الزمنية. فقد تبدّلت علاقة الإنسان بالموت مرات عدّة، من منظور فلسفي محض. "اندرج بداية في نظام الطبيعة، واعتبر بعد ذلك امتداداً للحياة في عالم آخر، ثم صار علامة على القلق، وعبث الوجود المحض في هذه الدنيا، وأخيراً أصبح موضوع فضيحة".
الإنسان في عمق الموت
تناول المفكّرون الموت بوصفه هاجساً فردياً، يمسّ الذات والآخر في آنٍ واحد؛ كدافع مخيف بقدر ما هو باعث على الحماسة، ويعمّق الإحساس بالوجود. بدءاً بهيغل الذي رأى "الحياة تحمل الموت في داخلها، وتحافظ على ذاتها في قلب الموت نفسه". ثم شوبنهاور الذي رأى أن "الحياة ليست سوى صراع دائم من أجل الوجود نفسه، مع يقين بأننا سنُهزم في النهاية". وأخيرا نيتشه الذي صرح بأن "هلاك الإنسان ليس على يد غيره، وإنما على يده هو نفسه".
موت المحرقة وموت هيروشيما
ويظهر لنا هذا جلياً في ملف المجلة لمّا أفردت جزءاً لما اعتبرته مرحلة الفضيحة في تاريخ التفكير الفلسفي حول الموت. وذلك لمّا أُجبر هذا التفكير على إعادة نظره تجاه الموت بشكل جذري، بعد الحربين الكونيتين اللتين تسبّبتا في الموت للملايين الكثيرة من الناس، دون مبرّر معقول يقبله المنطق الإنساني. "فالموت، بعد أن كان ظاهرةً طبيعية وطقساً اجتماعياً، أصبح عبثاً وفضيحةً خالصة."
وهذا ما حذا بفيلسوف العبث بامتياز، ألبير كامي، الذي جعل من الانتحار المشكلة الفلسفية الوحيدة، كي يسأل: "كيف نقاوم عندما نُصاب بهوس فناء الإنسان؟ فيجيب بوجود طريق واحد، هو أن نحاول تكثير اتصالاتنا بالعالم، ونجعله أقلّ ميتافيزيقية وأكثر إنسانية، ما يجعل من الحسّية (العيش بالجسد والحواس) مخرجاً".
الإيمان ورهانات الأخلاق
وأحد المخارج الممكنة يذكّرنا بها الفيلسوف بليز باسكال في تأملاته الشهيرة، حين كتب ما يلي: "كلّ ما أعلمه هو أن عليّ أن أموت قريباً؛ أما ما أجهله أكثر من أي شيء، فهو هذا الموت نفسه الذي لا أستطيع أن أتجنّبه".
وارتكازاً على هذا التأكيد، قدّم نظريته عن المُراهنة على الإيمان، أي الاعتقاد بوجود حياة أخرى بعد الموت". ومَن ذا الذي لا يرغب في أن يراهن على وجود الجنّة، ما دامت هناك إمكانية لوجودها؟"
حقّق هذا الملف الغني سبقاً معرفياً يفتح الباب على مشروع تأملي خصب. ولم يقتصر على ذلك، بل تمّ ربطه بما يحدث حالياً مع كل المشكلات الكونية التي تهدّد بقاء الإنسان نفسه.
وتناول الملف اجتهاد فيلسوف معاصر هو هانس يوناس (1903–1993)، الذي نسج مفهوم "مبدأ المسؤولية". وهو مبدأ يعمل بالاستباق الذي "يضمن أن تبقى الحياة على الأرض، من أجل الأجيال القادمة، جديرة بأن تُعاش.
وهكذا، فإن السؤال المركزي في الفلسفة، في نظره، لم يعد هو الموت الشخصي الفردي، بل الموت الجماعي، أي إمكانية الفناء الذاتي للبشرية. مع يوناس، ينتقل القلق من المستوى الدقيق (الميكرو) إلى المستوى الكوني (الماكرو)، ويتضاعف الرهان الأخلاقي على كل واحد منا".
الوردة التي لا تنتهي
وفي إطار المُصالحة، أطلق مدير المجلة الكاتب ألكسندر لاكروا على الموت في الافتتاحية لقب "وردة لا تنتهي". وهو يعني بها في التفاتة ذكية، أن الموت بما هو نهاية كل شيء، لا يمكنه أن يمحو حقيقة أخرى: أننا كنا أحياء ذات زمن".
وبهذا المعنى، فإن الموت نفسه لا يستطيع أن يسلبنا الحياة"، أي تلك التي عشناها، تلك الوردة. لكن الموت لن يكفّ عن مراودتنا مهما نظّرنا وفكّرنا وتأمّلنا. هناك دائماً قابض للأرواح في اللحظة الواجبة.








