في ذكرى رحيله.. "الشرق" تحلّ لغز أخطاء "السيرة الذاتية" لنجيب محفوظ

time reading iconدقائق القراءة - 15
غلاف كتاب أصداء السيرة الذاتية للراوئي نجيب محفوظ (النسخة الإنجليزية)
غلاف كتاب أصداء السيرة الذاتية للراوئي نجيب محفوظ (النسخة الإنجليزية)
القاهرة-محمد شعير

"قال الشيخ عبد ربه التائه: سيجيء الطوفان غداً أو بعد غدٍ. سيكتسح النساء والفاسدين العاجزين. ولن تبقى إلّا قلّة من الأكفاء. وتنشأ مدينة جديدة تنبعث من أحضانها حياة جديدة. ليت العمر يمتد بك يا عبد ربه، لتعيش ولو يوماً واحداً في المدينة الآتية".. هكذا كتب الروائي الراحل نجيب محفوظ في عمله المهم "أصداء السيرة الذاتية". 

ومع مرور 15 عاماً على رحيل محفوظ، يثير هذا المقطع القصير الذي يحمل عنوان "الطوفان" أسئلة عدّة، أبرزها: لماذا يضع محفوظ النساء مع الفاسدين في جملة واحدة؟ وهل توقف النقاد أمام هذا النص بحثاً أو تفسيراً؟، ألا يمكن أن يكون هناك خطأ ما؟

  "تخاريف عجوز"

في الطائرة التي حملته من لندن في رحلة علاج استمرت شهراً "من منتصف أكتوبر وحتى منتصف نوفمبر 1991"، فكّر صاحب نوبل للأدب في كتابة سيرته. تلك الأيام كانت قاسية، كما وصفها، هو يكره البقاء في المستشفيات، تصيبه بالتوتر، والعصبية، كما يكره السفر "الذي يلخبط عليه حياته"، ولكنه استجاب مرغماً لنصيحة الأطباء الذين أشاروا عليه بضرورة السفر قبل أن ينفجر الشريان الأورطي. 

تحت وطأة الإحساس بالموت، بدأ في كتابة " أصداء السيرة الذاتية"، وكأن كتابة الذات فعل مواجهة وتحد للموت. وعندما بدأ نشرها في حلقات أسبوعية في جريدة الأهرام، بدأت أسئلة الصحفيين عن العمل الجديد.

كان محفوظ، يجيب دائماً إجابات مقتضبة، وصفها ساخراً بأنها "تخاريف عجوز"، وقال جاداً إنها "تأملات، يصعب تصنيفها ضمن جنس القصة القصيرة، وإنما أقرب إلى أفكار قد تصلح للنشر ونعيش عليها زمناً". 

وقال للروائي والصحفي المصري الراحل جمال الغيطاني: "بعد إجراء العملية الجراحية في لندن، عُدّت في حالة صحية سيئة، وكانت عندي الرغبة في الكتابة ولم يكن عندي موضوع محدد، بدأت أدون بعض الخواطر، كنت قد وضعت عنواناً مبدئياً (تأملات) ولكنّي وجدت أن كثيراً مما تحتويه مستوحى من حياتي، ولكني وجدت أيضاً أنها ليست سيرة".

استغرق نجيب محفوظ، أكثر من عامين في كتابة "أصداء السيرة الذاتية"، منذ عودته من لندن وحتى بدء نشر العمل على مدى 9 حلقات أسبوعية في جريدة الأهرام بداية من فبراير 1994.

 "محفوظ غاضباً"

غضب صاحب "الثلاثية"، من طريقة النشر في الأهرام، إذ جاء ترتيب الفصول مخالفاً للأصل، كما سقطت فقرات كاملة، فقال ساخراً: "إنهم جعلوا عبد ربه يتحدث قبل أن يظهر، كما امتلأ النص بالعديد من الأخطاء اللغوية". 

في نص الأهرام، ظهر مقطع "الطوفان" المثير للأسئلة كما ظهر الكتاب المطبوع "سيكتسح النساء والفاسدين" وتكرر أيضاً عندما أعادت جريدة "أخبار الأدب" نشر النص أيضاً بأخطاء لغوية أقل، ولكن بالترتيب الذي أراده محفوظ.

لم يتغير نص "الطوفان" في كل الطبعات المختلفة لــ"الأصداء" بداية من الطبعة الأولى لمكتبة مصر عام 1995 ثم طبعة مكتبة الأسرة (هيئة الكتاب المصرية عام 2004). 

الغريب أن محفوظ، كان رافضاً أن ينشر "الأصداء"، رغم إصرار ناشره الخاص في تلك الفترة وعدد من المثقفين المحيطين به على نشر العمل.

 وعندما سُئل نجيب محفوظ عن أسباب رفضه؟ أجاب: أن نفسه "مصدودة" عن النشر، كما أن ظروفه الصحيّة تحول بينه وبين مراجعة العمل مراجعة دقيقة، كما كان يفعل في كل أعماله. 

ولكن سعيد السحار، صاحب "مكتبة مصر" ناشرة أعمال محفوظ في تلك الفترة، أخبره أنه سيراجع العمل بنفسه، على أن يساعده في تلك المهمة الروائي محمد جبريل. 

ظروف محفوظ الصحية التي حالت بينه وبين مراجعة العمل قبل إصداره، هي التي دفعته أيضاً إلى عدم الاطّلاع عليه بعد صدوره، ومن هنا مرت الأخطاء في كل طبعات الكتاب.

 

الترجمة الإنجليزية تكشف الخطأ

 في التوقيت نفسه، كانت الجامعة الأميركية بالقاهرة، قد اختارت دنيس جونسون ديفيز، (أبرز مترجمي الأدب العربي)، لترجمة النص عن صورة المخطوط، واستطاعت أن تنشره بالإنجليزية قبل أن يصدر في كتاب بالعربية. 

أي أن الترجمة الإنجليزية كانت عن المخطوط الأصلي مباشرة، بينما فقد محفوظ، أصل المخطوط الذي أعطاه كما قال لجمال الغيطاني لجريدة الأهرام ولم يستعده.. ولكن كيف ترجم ديفيز نص الطوفان؟ 

 جاء النص تحت عنوان "The Flood":

Sheikh Abd0 RABBIH AL Ta ih said: 

The Flood will come tomorrow or after tomorrow, it will sweep away corruption and the feebly corrupt and no one will remain except for a minority of the efficient” 

 

لا يوجد في النص المترجم كلمة "نساء" يكتسحهن الطوفان، وإنما هناك فساد وفاسدون. إذاً نحن أمام احتمالين إما أن هناك خطأ في النص العربي، أو أن الترجمة غير دقيقة، وخاصة أن النص الإنجليزي يختلف في مناطق عديدة عن النص العربي وليس فقط تلك العبارة. 

وتتزايد الأسئلة التي لا يمكن حسمها إلّا بالاطلاع على المخطوط الأصلي: أين الخطأ؟ ولماذا هذه الاختلافات بين النصين؟ ومن أين جاءت؟

 

رحلة البحث عن النص الأصلي

ليس لدينا إلّا مخطوط النص ليجيب عن كل هذه الأسئلة. 

لا تحتفظ "الأهرام" بالمخطوط الأصلي الذي حصلت عليه من محفوظ، وكذلك مكتبة مصر التي نشرت العمل في كتاب.

أحد العاملين في المكتبة، أخبر "الشرق" أنهم لا يملكون مخطوطات لمحفوظ سواء لـ"الأصداء" أو غيرها من الأعمال، إذ تعرضت مخازن المكتبة لحريق فقدت على إثره كل ما تملك من مخطوطات أو صور لمخطوطات لكبار الكتاب الذين نشرت لهم. 

كما لا تملك "أم كلثوم"، ابنة نجيب محفوظ المخطوط. لديها مسودات أولى للعمل، تُبين وتكشف كيف فكر فيه محفوظ، وكيف اشتغل عليه حتى وصل إلى صورته النهائية. 

وحدها كانت مكتبة الجامعة الأميركية بالقاهرة قد احتفظت بصورة من مخطوط الأصداء، إذ اعتمد عليها دنيس جونسون ديفيز لترجمة العمل، وقد أتاحت الجامعة لـ"الشرق" الاطّلاع عليه.

إذاً.. يمكننا الآن حل ألغاز "أصداء السيرة الذاتية". 

 

حل اللغز

في المخطوط الأصلي كتب محفوظ: "قال الشيخ عبد ربه التائه: سيجيء الطوفان غداً أو بعد غدٍ.. سيكتسح الفساد والفاسدين العاجزين. ولن تبقى إلا قلّة من الأكفاء. وتنشأ مدينة جديدة تنبعث من أحضانها حياة جديدة. ليت العمر يمتد بك يا عبد ربه لتعيش ولو يوماً واحداً في المدينة الآتية"....

تحولت "الفساد" في النص الأصلي إلى "النساء" في النص المنشور بالعربية في طبعاته المختلفة، وهذا الخطأ ليس الوحيد في النص. 

بل يمكن القول إننا نقرأ "الأصداء" ليس كما كتبها محفوظ، وإنما كما أرادتها "مكتبة مصر" التي نشرت العمل في صورته الأولى.

تتعدد الأخطاء في "الأصداء" المنشورة، ما بين أخطاء في عناوين العمل وتغيّرها عن ما كتبه محفوظ، أو إضافات إلى النص، قام بها المحرر للتفسير، أو في بناء النص ذاته عبر تغيير ترتيب الفقرات كما جاءت في مخطوط محفوظ، فضلاً على الأخطاء المطبعية، التي قد يرى البعض أنها صارت عادية من فرط تكرارها.

تغيّرات في البناء

تكشف مسودات العمل الأولى عن المراحل العديدة التي مرّ بها قبل أن يصبح كتاباً مطبوعاً ومتداولاً، كما تكشف التغيّرات التي أحدثها محفوظ في نصه سواء في البناء والشكل أو اللغة.

كان النص في صورته الأولى مقاطع سردية يعقبها تعليق على لسان عبد ربه التائه، كان يبدو صوت عبد ربه وكأنه صدى للمقطع السردي أو تعليق عليه. 

استبدل محفوظ هذا البناء "الاستاتيكي" ونقل تعليقات عبد ربه إلى نهاية النص، ليصبح في شكله النهائي عبارة عن جزئين الأول: مقاطع سردية ثم تظهر شخصية عبد ربه لينتقل صوت السارد إليه، لذا تبدأ مقاطع عبد ربه جميعها بتلك العبارة: "يقول الشيخ عبدربه التائه...". 

كان هذا البناء النهائي للنص كما في المخطوط الأصلي، ولكن عندما طبعت "مكتبة مصر" الكتاب في طبعته الأولى نقلت بعض الفقرات السردية إلى الجزء الخاص بعبد ربه، ونقلت بعض جمل عبد ربه إلى الجزء السردي. 

  

 

لذا، سنقرأ نص "الذكرى المباركة" الذي يبدأ بـ"سألني صديقي الحكيم عن حلم لا أنساه ..."، هذا المقطع لا يخص عبد ربه، بل وضعه محفوظ بين مقطعي "الحياة"، وفي "الحجرة الواسعة".

يتكرر الأمر نفسه مع مقطع يحمل عنوان "السر" الذي يبدأ كالتالي: "طالما سمعت الحكايات عن الملاك المتجسد في صورة امرأة.."، هذا المقطع يقع أيضاً في الجزء السردي بين المقطعين "شكوى القلب" و"ملخص التاريخ".

الأمر يتكرر كثيراً، إذ تم نقل مقاطع عدّة عن مكانها كما في المخطوط الأصلي، وهو ما يعنى تغييراً في المعمار الذي كتب به محفوظ "الأصداء". 

كان نجيب محفوظ، يبني وحدات صغيرة يمكن قرآتها منفصلة، ولكن تتابع هذه الوحدات الصغيرة يُشكّل نصاً مكتملاً، كل وحدة فيه لها علاقة بالوحدات الأخرى السابقة والتالية.

وقد يؤدي التقديم والتبديل إلى خلل واضح في البناء، وخاصة أن صوت عبد ربه أو وحدته التي تأتي في الجزء الثاني من "الأصداء" هي مجرد صدى أو تعليق للنص السردي الموازي لها في الجزء الأول من النص.

 

40 خطأً

بخلاف تغيير البناء، ثمّة أخطاء كثيرة. سنقرأ كثيراً عبارة محفوظ في "الأصداء": "قوة الذاكرة تنجلي في التذكر، كما تنجلي في النسيان"، العبارة التي يتداولها كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، والحقيقة أنها ليست كذلك، فالجملة الصحيحة هي: "قسوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان".

وأيضاً عبارة: "لصق المنظر بذاكرتها يتزحزح"، بينما في المخطوط: "لا يتزحزح"، أي تم إسقاط (لا النافية) لتعطي معنى عكسياً لما أراده محفوظ، وهناك أيضاً عبارة: "سماء تتوارى وراء السماء" بينما الصحيح: "سماء تتوارى وراء المساء".

ما سبق، كان مجرد نماذج قليلة للأخطاء التي طالت أيضاً عدداً من عناوين النصوص، حيث يتحول "الطاعة" إلى "الطامة"، أو "وصف العاصفة" إلى "في وصف العاصفة".  

كما تدخل المحرر بـ"الإضافة" في النص، مثلما حدث في القصة التي تحمل عنوان "التسبيح"، فكتب: "وغضب الأبله غضباً كدماً (عضوضاً) فعزم على الانتقام من الجميع"، إذ أضاف كلمة "عضوضاً" بين قوسين لتفسير معنى "كدماً".

وبلغت الأخطاء في النص، أكثر من 40 خطأ، وتزيد إذا أضفنا علامات الترقيم، رغم أن محفوظ استخدم في الأصداء لغة لا تحتمل كل هذه الأخطاء. 

لغته هنا ذات طبيعة خاصة، لذا كانت معركته مضاعفة، لم يكن يبحث فقط عن تلك اللغة الثالثة، أو اللغة التي تصبح فقط أداة للتوصيل، بل كان يسعى إلى لغة إيحائية، مكثفة، تعتمد الإشارة والتلميح لا التعبير المباشر، وفي الوقت ذاته تتميز بالشاعرية، والالتباس، كما في لغة المتصوفة، حيث الألفاظ تحظى بالتعدد الدلالي، ولا تعني دائماً معناها المباشر.

 

محاولة للتفسير

الروائي محمد جبريل، أجاب "الشرق"، عن تساؤل حول حدود تدّخله في نص محفوظ باعتباره كان مراجعاً للنص لدى طبعه في مكتبة مصر؟ 

فقال: "راجعت النص على المخطوط، ولكن كان خط الأستاذ غير واضحاً مثل (نقش الفراخ)، خاصة أنه كتب الأصداء بعد حادث محاولة اغتياله في عام 1994، وربما حدثت هذه الأخطاء غير المقصودة".

وبسؤاله: "ولكن المعروف والمعلن أن محفوظ كتب الأصداء قبل الحادث.. وتأخر نشره في كتاب إلى ما بعد الحادث؟

أجاب جبريل: لا، بعد الحادث، أنا متأكد.

وحول الأخطاء التي تضمنها النص بعد صدوره في كتاب عن مكتبة مصر؟

قال جبريل: "نحن بشر والخطأ وارد، وكان طه حسين يعطى نسبة 10% للأخطاء، وهي نسبة معقولة"!

طبعة جديدة

وسألنا "دار الشروق" المصرية، صاحبة نشر أعمال نجيب محفوظ عن هذه الأخطاء، أجاب أحمد بدير، مدير النشر بالدار: "نحن الآن بصدد إصدار طبعة جديدة من (الأصداء) تتلافى أخطاء الطبعات السابقة، لتصبح الطبعة الجديدة مكتملة كما كتبها أديب نوبل، بعد مراجعتها على المخطوط الأصلي". 

بالتأكيد، لم نقرأ أصداء السيرة الذاتية كما كتبها محفوظ، بسبب هذه الأخطاء، ولكن هل قرأنا أيضاً بقية أعماله بالشكل الذي كتبها به؟ 

ألا يمكن أن يكون العبث قد طال بعض أعماله الأخرى، وهو ما جرى في التسعينيات عندما طبعت مكتبة مصر أعمال إحسان عبد القدوس؟

ربما آن الأوان في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل محفوظ (رحل في 30 أغسطس 2006)، من أجل إصدار طبعة جديدة من كل روايات وقصص أديب نوبل، بعد مراجعتها وتحقيقها بدقة على الطبعات التي أجازها محفوظ نفسه. قبل أن يصبح النص المترجم هو الأصل الذي نعود إليه.