
لم يعد المتحف اليوم جداراً أبيض تُعلّق عليه اللوحات فحسب. يدخل الزائر إلى المتحف كما لو كان يَعبُر إلى عالم من الضوء والحركة والصوت. يتغيّر مزاج الفضاء مع كل خطوة، وتتبدّل الصورة مع كل التفاتة.
هذا التحوّل هو انقلاب مفهومي تنفّذه السينوغرافيا، بوصفها الفن الذي يعيد بناء العلاقة بين العمل الفني، والفضاء، والزائر. غيّرت السينوغرافيا معنى المتحف. فبعد أن كان فضاء للتأمّل الساكن، صار فضاء للحدث والتجربة؛ وبعد أن كانت اللوحة تستدعي النظر من مسافة آمنة، صارت تدعو الجسد إلى الحركة والعبور والالتفاف والاندماج.
ما حدث هو انتقال من منطق العرض على الجدران إلى الاندماج مع العمل، ومن متحف ثابت إلى فضاءات متحوّلة يمكن أن تنتقل بين مدن وقاعات مختلفة.
من خشبة المسرح إلى قاعة العرض
جاء التحوّل المتحفي الحديث من رحم التحوّل المسرحي نفسه. عندما تعامل أدولف أبيا، مع الضوء بوصفه مادّة تُنحت بها الفراغات. كان يضع هكذا أساس فكرة بسيطة وعميقة في آن: الفضاء جسد حيّ، يتشكّل بالضوء وليس بالإسمنت أو الطابوق فقط.
المتحف الذي يتبنّى هذه الرؤية لا يسأل: أين نعلّق اللوحة؟ بل يسأل: من أين يدخل الضوء، وأين تتشكّل العتمة، وكيف تتحرّك عين الزائر داخل القاعة؟
لا تُقرأ اللوحة وحدها في القاعات المعاصرة، بل تُقرأ مشاهدة، داخل مسار ضوئي يبدأ من المدخل، يترك زوايا في شبه عتمة، ويحوّل أخرى إلى بؤر بصرية. هنا يقوم الضوء بدور المخرج المسرحي: يفتح مشهداً ويغلق آخر، ويقرّر أين يتوقّف جسد الزائر وأين يسرع.
أما يوري لوتمان، فيذكّرنا بأن الفضاء نفسه نظام دلالي. قاعة عالية السقف مثلاً، هي ليست أسلوب معماري فقط، بل هي إشارة للزائر تخبره أنه ينتقل من النمطية إلى الاحتفالية.
ليست السينوغرافيا هنا ديكوراً، بل هي خطاب متحفي بصري شامل. ومع نيكولا بوريو، يتحوّل هذا الخطاب إلى شبكة من العلاقات الجمالية.
العمل هنا ليس منفرداً ومعزولاً، بل هو العلاقة التي تنشأ بينه ومسار الجسد، وموضع الكاميرا، والصورة التي ستغادر المتحف إلى شبكات التواصل، وهنا الغاية التفاعلية المثيرة.
وعليه، فحين يُصمَّم المتحف المعاصر، لا يكون السؤال: أين نضع الأعمال على الجدران؟ بل: أين توضع الكاميرا؟ من أين يدخل الضوء إلى القاعة؟ كيف يتحرّك الزائر بين مصادر الصوت والصورة؟ وكيف سينعكس كل ذلك في الصورة التي سيحملها معه خارج المتحف؟
من الديوراما إلى البيئات الغامرة
ظهرت البذور الأولى للسينوغرافيا المتحفية في "ديوراما" (نموذج ثلاثي الأبعاد لمشهد واقعي أو حدث تاريخي مصغّر أو بالحجم الطبيعي) متاحف التاريخ الطبيعي. خلفية مرسومة بعناية، مناظر مصغّرة، حيوانات محنّطة، وإضاءة موجّهة توهم الزائر بأنه يقف داخل الغابة أو الصحراء. هنا تحوّل المتحف من مخزن للعيّنات إلى مسرح صغير للطبيعة.
صار الحديث مع" الباوهاوس" (مصطلح يشير إلى مدرسة فنية نشأت في ألمانيا كانت مهمتها الدمج بين الحرفة والفنون الجميلة)، وعن "الفضاء الكلّي" الذي تتكامل فيه الجدران، والأرضيات، والإضاءة، والحركة. انتقل هذا الوعي تدريجياً إلى المتاحف: قاعات بارتفاعات مختلفة، إمكانات للتعتيم الكامل أو النور الكامل، جدران قابلة للتحريك، وأنظمة صوت مخفية.
ومع صعود الفن التركيبي، لم يعد ممكناً التعامل مع القاعة كحيّز محايد. فالعمل نفسه يتكوّن من علاقته بالفضاء وبحركة الأجساد حوله.
تحوّلت متاحف كثيرة إلى بيئات متنوّعة، نتيجة المرحلة الرقمية، ودخول الفيديو، والإسقاطات الضوئية، فلم يعد السؤال هو:
كم لوحة نعلّق؟ وما هي الأحجام ؟ وهل مساحة العرض تفي بالمطلوب؟ بل كيف نقدّم تجربة كاملة تحيط بالزائر من جميع الجهات؟ أين توضع الشاشات؟ كيف يتوزّع الصوت؟ وكيف يستجيب النظام لحركة الجسد؟ هنا تصبح السينوغرافيا اللغة التي تُكتب بها التجربة، لا مجرّد إطار توضع فيه الأعمال.
سقوط الجدار الأبيض وصعود المتحف المتحوّل
لم يعد النموذج القديم للمتحف القائم على جدران بيضاء ومسار مستقيم، قادراً على استيعاب الأعمال المعاصرة، القائمة على الفيديو، والصوت والمشاركة الشعورية، لا يمكن حبسها داخل إطار على جدار.
وعليه، تعيد متاحف كثيرة اليوم تأهيل مبانيها أو بناء مبانٍ جديدة بفضاءات عالية، السقف ومسارات منحنية، ومناطق قابلة للتعتيم الكامل، وأرضيات مرنة يمكن أن تستقبل التركيبات الثقيلة أو الكابلات المخفية.
لا يقتصر هذا التحوّل على البناية الثابتة. تُصمّم معارض كثيرة اليوم منذ البداية على أنها متاحف متنقّلة: سينوغرافيا كاملة قابلة للفكّ والتركيب. تنتقل بين مدن مختلفة، وتُعاد تهيئتها وفق مقاييس كل قاعة. فيصبح المعرض نفسه متحفاً يتحرّك، فيغدو هذا السؤال بلا معنى: أين يقع المتحف في المدينة؟ بل كيف سيتغيّر المتحف كلما انتقل إلى مدينة جديدة وفراغ جديد؟
وعليه لا يعود الزائر عيناً فقط، بل جسداً يُختبر. لا تعرض السينوغرافيا العمل، إنما تبني تجربة تحيط به. لا تضع اللوحة أمام العين، بل تضع العين والجسد داخل منظومة من المؤثرات البصرية والسمعية والحركية، فلا يكتفي الزائر بـ"رؤية" المعروض، بل يعيش تجربة حسية؛ يدخل في حالة، ويخرج من المتحف وهو يشعر أن شيئاً ما قد حدث له بالفعل. لم يعد المتحف مكاناً واحداً وثابتاً، بل شبكة من محطات تحتضن اللوحات وتعيد كتابته في كل عرض.
المتاحف المعاصرة.. لوحة الحارس الليلي لرمبرانت
تبرز تجربة فذة تحوّل هذه اللوحة الكلاسيكية في متحف الرايكس بامستردام إلى حدث متكامل. إذ لم تكن لوحة "الحارس الليلي" لرمبرانت معروضة فقط، بل مُحاطة بسينوغرافيا ضوئية متحركة تسرد أسرارها.
كانت الأضواء المسلطة على اللوحة تتحرّك كعدسة بصرية حيّة، تُبرز وجهاً، ثم تكشف عن تفاصيل دقيقة في الملابس والأسلحة. رافق ذلك موسيقى تصويرية وشرحاً سمعياً يغوص في تاريخ الشخصيات وأسلوب رمبرانت في تصوير الظل والنور.
واللافت دلالياً، أن عملية ترميم اللوحة ذاتها (شهد المتحف في فترة سابقة، ترميم اللوحة المعنية) أصبحت جزءاً من العرض السينوغرافي؛ حيث يمكن للزوّار مشاهدة خبراء الترميم وهم يعملون أمام اللوحة الموضوعة في حجرة زجاجية مضيئة. فتتحوّل عملية الصيانة إلى فن أدائي وسينوغرافيا حيّة تكشف عن طبقات الوقت التي تكمن تحت سطح مسند اللوحة.
مركز الفنون في فالنسيا: عتمة مدروسة
هنا صالة مُصمّمة على شبه عتمة مدروسة، تجتمع أعمال رقمية حول الجسد والحركة والضوء. تعرض بعض الشاشات مشاهد حضرية يتكرّر فيها المشي اليومي حتى يتحوّل إلى إيقاع بصري. شاشات أخرى تُظهر تجمّعات بشرية صغيرة تتحرّك في مسارات متوازية أو منحنية، فيتحوّل الجسد الفردي إلى نقطة داخل نسيج حركي أكبر، يصبح الضوء نفسه عنصراً تفاعلياً يتغيّر بحسب كثافة الزوّار في القاعة.
تنفتح أبواب غرف مظلمة لتفضي إلى عروض ضوئية وسمعية هائلة. تفكّك اللوحة ثم تعيد بناءها بحركة على الجدران والأرضيات من السقف إلى الأرض. ترى ضربات فرشاة الفنان وهي تتحوّل إلى أمواج حقيقية تتحرك وتتلاطم حولك، بينما يمتلئ الفضاء بهدير البحر. ليست السينوغرافيا إطاراً للعمل، بل هي الجسر الذي يعبر عليه الزائر من الفرجة إلى الواقع، ومن تاريخ الفن إلى وعي الجسد الحاضر .
المنظور الخادع في باتايا
في متحف مخصّص للخداع البصري في مدينة باتايا التايلندية، رُسمت المَشاهد على الجدران والأرضيات بحيث لا تكتمل إلا من نقطة محدّدة، تُشار غالباً بعلامة على الأرض. عندما يقف الزائر في هذه النقطة، تصبح الجدران والأرض مشهداً ثلاثي الأبعاد موهوماً، ويبدو هو نفسه جزءاً من الصورة.
لا يكتمل العمل هنا سوى بالكاميرا، فلا تقتصر السينوغرافيا على الرسوم، بل تشمل تنظيم الحركة وتحديد نقاط الوقوف، وطريقة أخذ اللقطة الفوتوغرافية التي ستُنشر لاحقاً على مواقع التواصل الاجتماعي.
يصبح المتحف مختبراً للعلاقة بين العين والجسد وآلة التصوير، إذ يتشابك فضاء العرض مع الصورة المتداولة على الهاتف، وكأن المتحف امتدّ خارج جدرانه.
قبّة الضوء في لوفر أبوظبي
تتجسّد في متحف اللوفر أبوظبي، فكرة الضوء بوصفه معماراً. في القبة المثقّبة التي تسمح لأشعة الشمس بالمرور عبر آلاف الفتحات الصغيرة، فتخلق على الأرض والجدران ظاهرة أشبه بمطر من الضوء يتغيّر على مدار اليوم.
هنا تتحوّل العمارة نفسها إلى عرض سينوغرافي دائم، حتى لو خلت القاعة من الأعمال لحظة ما، فسوف يُكتب الزمن على سطح الماء والأرض والجدران عبر حركة الضوء.
يخصّص بينالي البندقية، بعض الأجنحة لموضوع المناخ، فتصبح السينوغرافيا نفسها جزءاً من الرسالة. درجات حرارة مضبوطة، أصوات تكسّر الجليد أو هدير الماء، انعكاسات ضوئية تحاكي الحريق أو الفيضان. يتحوّل جسد الزائر إلى مقياس حسّي للتغيّر البيئي؛ المتحف هنا مختبر لتجربة المناخ، وليس قاعة لعرض لوحات عنه.
مهن متحفية جديدة
نحن أمام تغيير جذري، المتحف لم يعد مبنى ثابتاً، بل كاميرا لسرد التجربة. كذلك قاعات العرض لم تعد غرفاً، بل مشاهد مركّبة تجمع العمارة والتقنية والضوء والصوت، ويمكن أن تُعاد تهيئتها وتفكيكها ونقلها من مدينة إلى أخرى.
هذا التغيير يفرض تحوّلاً موازياً في مهن المتحف، إذ يحتاج القيّمون في المتاحف إلى معرفة بالبرمجة البصرية، وبالأنظمة السمعية والبصرية، وإلى قراءة الفضاء كخطاب، وإدارة التجارب التفاعلية.








