40 عاماً قضاها الطبيب المصري محمد كامل الخولي، بين جنبات مستشفى الأمراض النفسية في حي العباسية، وبعد تقاعده نشر مقتطفات من يومياته مع المرضى في سلسلة مقالات ربما لم تحظ بالقدر الكافي من الاهتمام والتحليل في حينها، إلى أن أكمل الكاتب محمد الشمّاع الصورة في كتاب (السرايا الصفرا).
الكتاب صادر عن دار المصري للنشر والتوزيع في 216 صفحة من القطع المتوسط مقسمة إلى 3 فصول مع ملحق للصور من 25 صفحة، وهو الكتاب الرابع في مشوار مؤلفه الذي يعمل في مؤسسة "أخبار اليوم" الصحفية ويكتب في عدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية إضافة إلى إسهامه في صنع الأفلام الوثائقية وكتابة السيناريو.
حراسة العقول
يحمل الفصل الأول من الكتاب عنوان "المذكرات" وهو عبارة عن إعادة نشر لسلسلة المقالات التي كتبها الدكتور الخولي في مجلة "المصور" في الفترة من يناير إلى إبريل عام 1954 تحت عنوان "40 عاماً في حراسة أصحاب العقول"والتي تتسم بالغرابة والطرافة وصيغت بلغة سلسة للغاية بعيداً عن أي تعقيدات علمية أو مصطلحات غامضة حتى يكاد القارئ يظن أن كاتب هذه اليوميات ليس طبيباً بالأساس.
اليوميات محررة بشكل مدهش يجعلها تبدو مثل مغامرات القط والفأر الشهيرين في مسلسلات الكارتون، والقط هنا بالتأكيد هو الطبيب النفسي الذي كان يصبر ويراوغ ويهاجم بعض ممن ادّعوا الجنون حتى يكشفهم، لكنه يتحول أحياناً إلى ضحية للمقالب التي يدبرها له المرضى فتوقعه في مواقف غاية في الإحراج.
وربما من أكثر الحكايات إثارة في هذه المقالات هي حكايات عن أفراد من العائلة العلوية التي حكمت مصر لقرن ونصف قرن من الزمان من بينهم الملك فاروق الذي كوّن الطبيب النفسي المخضرم رأياً عن حالته النفسية بعد لقاء شخصي جمع بينهما في الإسكندرية عام 1938.
وعلى الرغم من تركيز اليوميات على نزلاء مستشفى الأمراض النفسية وحكاياتهم وكواليس ما كان بين جدران المستشفى، فهي لا تخلو من الذاتية إذ تحدث الخولي في جزء منها عن حياته الشخصية ونشأته وكيفية التحاقه بكلية الطب ثم سفره للدراسة بالخارج وعودته وانضمامه للعمل بالمستشفى عام 1916 حتى أصبح مديره، وتقاعد في أواخر عام 1953 وهي إضافة مهمة لقلّة ما نُشر عنه بالإعلام.
الجريمة في ضوء الطبي النفسي
الفصل الثاني من الكتاب بعنوان "حكايات تاريخية على الهامش" ويتضمن جهداً بحثياً واستقصائياً كبيراً عمل خلاله المؤلف على الربط بين حكايات الخولي والسياق التاريخي والاجتماعي لهذه الحكايات التي ارتبط بعضها بجرائم شهيرة مثل اغتيال وزير المالية الأسبق أمين عثمان عام 1946، ومحاولة اغتيال الزعيم الوطني سعد زغلول عام 1924 وتم عرض مرتكبيها على الطب النفسي.
وتضمن الفصل معلومات موثوقة عن نشأة وتطور مستشفيات الأمراض النفسية في مصر وتحديداً مستشفى العباسية الذي درج عامة الناس على تسميته (السرايا الصفرا) اشتقاقاً من لون المبنى الذي كان في الأساس أحد قصور العائلة العلوية ومطلياً باللون الأحمر قبل تحويله عام 1883 إلى مستشفى وطلائه باللون الأصفر.
نحو ثقافة نفسية
ومن مواقف مختلفة جمعت الدكتور الخولي بالأطباء الإنجليز الذين كانوا يهيمنون على إدارة المنشآت الطبية في مصر لفترة طويلة، ينطلق مؤلف الكتاب للتحدث بشكل أوسع عن عمل الأطباء الأجانب في مصر والأثر الذي أحدثوه مع إدراج نماذج مشرقة لأطباء مصريين استطاعوا التفوق على أقرانهم الأجانب مهنياً وأخلاقياً.
الفصل الثالث بعنوان "نحو ثقافة نفسية عامة"، ويتضمن أيضاً جهداً بحثياً كبيراً من المؤلف الذي من الواضح أنه قرأ الكثير من كتب الطب النفسي استعداداً لإصدار الكتاب واستعان بالكثير من المقالات العلمية والدوريات الطبية لتناول المصطلحات الطبية القليلة التي ذكرها الخولي في مقالاته مثل البارانويا والسيكوباتية والشيزوفرينيا.
ويتناول بشيء من الاستطراد الكتاب الذي أصدره الخولي بعنوان "الطب النفسي الشرعي" والذي يعتبر مرجعاً عربياً نادراً في الربط بين الطب النفسي والقضاء حين يكون التقرير الطبي للحالة النفسية والعقلية للمتهم هو الفيصل في تحديد مصيره إما بمسؤوليته عن أفعاله ومواجهة العقاب أو عدم أهليته واستحقاقه العلاج.
كتاب "السرايا الصفرا" وإن كان في ظاهره إعادة اكتشاف لأحد الكنوز الصحفية المطمورة فهو يمثل في جوهره قراءة متأنية لفترة ليست بقصيرة من تاريخ الطب النفسي في مصر ويطرح تفسيرات وتأويلات جديرة بالدراسة عن ارتباط الأمراض النفسية بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية داخل البلد خاصة أوقات الحروب والأزمات.
اقرأ أيضاً: