في غضون أيام قليلة، يفتتح معرض القاهرة الدولي للكتاب دورته الـ54، بعد دورةٍ طارئة عُقدت قبل ستة أشهر، على خلفية توقّف المعرض إبّان الجائحة.
ويترقّب أرباب المشهد الثقافي وصناعة النشر، موسماً جديداً باهتمامٍ وقلق، إذ تُلقي الأزمة الاقتصادية بثقلها على هذا القطاع، بدءاً من أسعار الطباعة ومستلزماتها، مروراً بشحّ الخامات، ما يضع الناشرين أمام أزمةٍ حقيقية، من دون القدرة على زيادة أسعار الكتب.
وفي حين تُثير تلك الزيادة حفيظة القرّاء، الذين يعوّلون على الدورة الجديدة لشحن مخزونهم المعرفي لمدّة عام، مستفيدين من العروض والتخفيضات، خرجت بعض الدعوات لمقاطعة تلك الدورة، فيما يطالب الناشرون الإدارات الثقافية الرسمية، بمزيدٍ من الدعم والتسهيلات، كي يتسنّى لهم عبور الموسم الشائك.
"أبجد"
وأصدرت المنصّة الأردنية "أبجد" للقراءة الإلكترونية بياناً، أعلنت فيه عن تعديل خطة أسعار الاشتراكات، على خلفية معادلة الأسعار السابقة بالسعر الحالي للدولار، حفاظاً على حقوق الناشرين والكُتَّاب.
وتعدّ "أبجد" إحدى النوافذ التي يلجأ إليها القرّاء تكيّفاً مع زيادة أسعار الكُتب، وقد دعا القيّمون عليها، إلى دعم المشهد الثقافي المصري، حتى يتجاوز أزمة ارتفاع كلفة الطباعة والورق والنقل وأسعار الصرف المتقلّبة.
الدعوة لدعم صناعة النشر، تكرّرت في مبادرة للكاتب والصحافي المصري سيد محمود، الذي ناشد القرّاء والمؤلفين والمشاهير على مواقع التواصل، حض متابعيهم على زيارة معرض القاهرة للكتاب، وعدم مقاطعته، لما لذلك من آثار كارثية على هذا القطاع والعاملين فيه.
إجراءات رسمية
في ديسمبر الماضي، دخلت العلاقة بين الناشرين وإدارة المعرض المُمثّلة في الهيئة العامة للكتاب في أزمة، إذ أعلنت "دار ريشة" عن انسحابها من معرض الكتاب، نظراً لتصنيفها من قبل اللجنة العليا للمعارض كدارٍ صغيرة، لا يحق لها الحصول على جناحٍ خاص، بل الانضمام إلى جناح صغار الناشرين، يُعرف باسم "جناح اتحاد الناشرين المصريين"، وبرّرت اللجنة الأمر، بأن الدار لم تستوف عدد الكتب المطلوبة للانفراد بجناحٍ خاصّ.
تأتي خطوة تخصيص جناح للناشرين الصغار، في سياق حزمة من الإجراءات الأخرى، اتّخذتها وزارة الثقافة لدعم الناشرين في ضوء الأزمة الاقتصادية، من بينها العمل على خفض زيادة الأسعار المقرّرة سابقاً لأجنحة الناشرين، التي بلغت 12.5% للناشر المصري و 5% للناشر العربي، إذ انخفضت لتصل إلى 5 و2% على التوالي.
كما تم استثناء الناشرين اللبنانيين من تسديد رسوم الإيجار بالدولار الأميركي، وإمكانية التسديد بالجنيه المصري، نظراً للظروف الاستثنائية التي يعيشها القطاع المصرفي في لبنان.
للأثرياء فقط
بالرغم من تلك الإجراءات، لا تزال التحديات قائمة لدى بعض الناشرين، ما يدفعهم للظن أن قطاع النشر المصري في طريقه للتقلّص كما يرى فارس خضر، مالك "دار الأدهم".
ورأى خضر أن النشر "سيكون للأثرياء فقط بعد فترة، بينما يضطر الكُتّاب الآخرون إلى طرق أبواب المؤسسات الثقافية الرسمية، لنشر أعمالهم والاستقرار على قوائم انتظار طويلة للغاية".
ويلفت إلى إسهام الكُتّاب أنفسهم في تكلفة النشر في دور النشر الصغيرة والمتوسطة، "غير أن أغلبهم لم يدركوا بعد عمق تأثيرات الأزمة، معتقدين أن منتجهم المعرفي سيبقى بمعزل عن أي اهتزازات اقتصادية".
كما يؤكّد على صعوبة تحقيق أرباح من خلال التواجد في المعرض، "لكني ملتزم بالحضور من أجل الكاتب وأعماله، ومن أجلنا كدار نشر حصلت على 10 جوائز ثقافية، من بينها 4 جوائز دولة، ومئات الإصدارات".
ويعتبر أن أحوال معرض الكتاب تحسّنت منذ انتقاله إلى منطقة التجمع الخامس، وخصوصاً في ما يتعلق بالإجراءات التنظيمية وتنسيق الفعاليات، مستبعداً تنفيذ مقاطعة للمعرض هذا العام، مراهناً على دورة ناجحة، "فالأجيال الجديدة تفاجئنا بقدرتها على التكيّف وكسر كل المعادلات الموضوعة مسبقاً".
مطالب الناشرين
وينقل يوسف المصري، صاحب أحد دور النشر التي تعمل في السوق منذ زمن، الواقع المأزوم للصناعة، فيصفها بفترة "التحديات الكبيرة"، في ظلّ ارتفاع أسعار الورق والخامات والطباعة، "متسبّبة بمعضلة لدى الناشرين الذين يضطرون إمّا إلى رفع أسعار الكُتب، فيعزف الجمهور عن الشراء، أو تقليص هامش الربح الخاصّ بهم للحد الأدنى".
وأشار المصري إلى أن دورة معرض الكتاب القادمة، تتزامن مع لجوء بعض دور النشر إلى تخفيض الإنتاج، رغبةً منهم في تقليل الخسائر قدر الإمكان"، مستبعداً حصول مقاطعة تامّة للمعرض من قبل الجمهور، معتبراً أن الكتاب "لا يزال بالنسبة للمستهلك المصري يقع تحت بند المصروفات الترفيهية، وهذه من أوائل البنود التي تتأثّر سلباً في ميزانيات الأسرة المصرية".
وأوضح أن من يحتاج إلى الكتب "سيحصل عليها بأي وسيلة، سواء عن طريق المكتبات أو من المعرض، أو عبر اللجوء إلى تطبيقات الكتب الإلكترونية، ومن هنا أستبعد المقاطعة، لكن السيناريو الأكثر قابلية للتحقق، هو تراجع القوة الشرائية إلى حدّ كبير".
واعتبر المصري أن الظروف صعبة، ونحن نحتاج إلى رعاية أكبر من وزارة الثقافة، فالكتب هي قوّة مصر الناعمة وقطاع النشر واجهة البلد، ومصر لديها أكبر عدد من الناشرين في الوطن العربي، ومعاناتنا لا تقتصر على الأسعار فقط، فصعوبة الاستيراد تحتاج إلى دعم حكومي لتذليل تلك العقبة".
وضع مؤقّت
يرفض سعيد عبده، رئيس اتحاد الناشرين المصريين، وعضو اللجنة العليا لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في وزارة الثقافة المصرية، أن يقارن الدورة الحالية للمعرض بغيرها، معتبراً أنها "ليست الأسوأ، لكن صناعة النشر بأكملها كانت على موعد مع أسوأ أوضاعها خلال أعوام الجائحة".
ويرى عبده أن معرض القاهرة للكتاب "هو الأقدم عربياً، وهو أكبر سوق للكتاب في العالم بعد معرض فرانكفورت، وهناك عوامل عدّة تسهم في إنجاحه، أهمّها شغف القراءة لدى الجمهور المصري، واعتبار المعرض وجهة سياحية داخلية وخارجية للأشقّاء العرب".
ويسرد عبده سلسلة من الجهود التي يرعاها اتحاد الناشرين المصريين ولجنة المعارض لدعم الناشرين لاسيما الصغار منهم، فضلاً عن الجمهور، لعبور "الوضع المؤقّت"، فالأزمة لن تستمر للأبد، وفي مقدمة تلك الجهود، إتاحة خيار "تقسيط الكتب" على 6 أشهر إلى سنة، من خلال بعض المصارف المصرية.
صناعة مهدّدة
رئيس اتحاد الناشرين العرب، ورئيس مجلس إدارة واحدة من دور النشر الكبرى، محمد رشاد، اعتبر أن صناعة النشر في المنطقة العربية عموماً "أصبحت مهدّدة بالتوقّف، وخصوصاً بعد أن شهدت سلسلة من الأزمات، أبرزها الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية".
وأشار رشاد إلى ارتفاع أسعار مستلزمات الطباعة والأوراق، معتبراً "أن 65% من تكلفة أي كتاب تتعلق بالورق، وقد شهدت أسعار الورق زيادات كبيرة خلال الفترة الماضية، لتبلغ زيادة السعر في مصر حوالي ثلاثة أضعاف، مقابل ضعفين ونصف في دول عربية أخرى.
وبالرغم مما يبدو عليه الأمر أن دور النشر الكبرى ستكون أفضل حظاً من صغار الناشرين، يعتبر رشاد أن العكس صحيح، "فدور النشر الكبرى لديها التزامات تجاه عدد كبير من العاملين والموظّفين، كما اضطر بعضها خلال الموسم الجاري لتخفيض عدد العناوين المطروحة، بسبب الأوضاع الاقتصادية ونقص السيولة".
وأكد أن أي مبادرة سواء كانت رسمية أو إعلامية، "ستدعم معرض القاهرة للكتاب خلال الدورة المقبلة، بما في ذلك مبادرات تقسيط المشتريات، وتقديم حسومات للقرّاء"، لافتاً إلى "ضرورة إدراك الظروف الصعبة التي تمرّ بها مصر، ويكفي أن أقول أن الزيادة المقرّرة في القيمة الإيجارية تمّ تخفيضها إلى 5% للناشر المصري و2% للناشر العربي".
اقرأ أيضاً: