يستثمر الفنان العراقي-الهولندي نديم كوفي في معرضه "بين هلالين" في قاعة "ذا جاليري" بغداد، بالأشكال الهندسية والإخراج الفني للكتابة، عبر تصوّر طباعي تقني للحرف العربي، وإخراج للكلمات باعتبارها صورة.
لا تقتصر اللغة في أعمال الفنان على المنطوق من الكلام وحسب، بل في أشكال وطلاسم وتعابير تشكيلية، تتّخذ حتى المعاني أشكالاً ورموزاً لها. وهكذا، فلا بدّ من أحجام كبيرة في معرضه لإخراج الكلمات، وإن كانت كلمة واحدة فقط، مثل حلم، أو وجه، وسواها، وهذا التنفيذ يحتاج إلى تكرار الكلمة ذاتها بأشكال عدّة، وداخل كادرات هندسية.
ذبذبات المعنى
يقول الفنان نديم كوفي في حديثه لـ "الشرق"، "إن الهندسة لا غنى عنها هنا، المعرض يحاول الوقوف عند "ذبذبات المعنى"، وعند هامش أفعالها. عندما يقول الفن كلمة ما، فلعلّه يريد بها صورة. لقد استمرّ بحثي وتركيزي أخيراً على الهندسية من جهة، وعلى رسم الكتابة من جهة أخرى".
اللغة منذ ولادتها كانت صورة
اللغة كما يقول هايدغر هي "بيت الكينونة"، تخطّت الاستعمال اليومي كوسيلة للتفاهم والحوار إلى الفن والسينما، وما زلنا نستعمل في السياق ذاته بما نصطلح عليه اللغة السينمائية والتشكيلية، و"الرسم بالكلمات" بمعنى الكلمات كصورة.
لقد أسهمت خلفية الفنان الجرافيكية وخبرته في التصميم (أشرف عليه فنياً الفنان العراقي رافع الناصري، ووجد شغفه التنظيري لدى الفنان شاكر حسن آل سعيد، واستفاد نحتياً من الفنان إسماعيل فتّاح الترك)، بإخراج المعرض وتنفيذه من خلال ابتكار مفهوم خاص به تنظيراً وتنفيذاً.
اشتغل كوفي في معارضه الأخيرة، التي يُسمّيها (مشاريع) على المفاهيم، مثل (رسم الكتابة - مشروع خط مرسوم: الحيرة مستطيل، الشك مثلث، الظن دائرة، اليقين مربّع). يقترن مشروعه بالمفهوم فلسفياً، وصولاً إلى الفن (المفهومي)، وهكذا، يغادر التشكيل بوصفه عرض لوحات فحسب، إلى المفاهيم الجمالية الفلسفية، وإلى الاندماج بالفنون الأخرى كالشعر والتمثيل والسينما.
العشوائية والفوضى البصرية، هما السائدتان في مدينة، كان لها ريادة بصرية وجمالية مقارنة بالدول العربية
ريادة بصرية
تظهر بغداد في أعلى لوغو المعرض يساراً، بينما مدينة أمستردام يميناً. يقول الفنان بهذا الصدد، "عندما تركت بغداد في نهاية الثمانينيات، كانت المدينة، حافلة بالمشهد التشكيلي من أنصاب وجداريات: جدارية فائق حسن، ونصب الحرية، وكهرمانة وغيرهم، وإن كان الفن التشكيلي أسوة بالنتاج الأدبي، تحت قبضة الدولة، ولكن، كانت هناك معمارية تشكيلية وبصرية للمدينة".
أضاف: "أما راهناً، فالعشوائية والفوضى البصرية، هما السائدتان في مدينة، كان لها ريادة بصرية وجمالية مقارنة بالدول العربية. لكني أراهن في معرضي (28 لوحة)، على ذكاء المتلقي العراقي، وأطمح مع فريق متخصّص، بإنشاء مركز للتصميم وللطباعة، وفق الأساليب الحديثة".
معنى الهلالين
أما عن عنوان معرضه "بين هلالين" فيقول، "إن الهجرة من بلاد وادي الرافدين إلى بلاد وادي الحرية، هي كتوأمين؛ سفر وقمر.. وجدت نفسي بعد الدراسة واضح المعالم في هوية يابانية – عربية- هولندية، ليحدث ذلك ذهاباً وإياباً بين الشرق والغرب، هنا (حرية) وهناك (سحر)، هنا (رسم) وهناك (منظر)".
وتابع: "هكذا هو الإبداع العراقي في المنفى، بين منزلتين من التشظّي، وأخرى تروم لمّ الشمل في وطن طال انتظار قيامته، بين التردّدات والتنافرات، كما يقول سترندبرغ".
ولفت إلى أنه أقام في مدينة الرياض السعودية معرضاً فنياً عام 2022، بعنوان "رسم الكتابة"، ضمّ 50 عملاً، في صالة كبيرة جداً، ذات مواصفات تشكيلية حديثة، "وأدهشني الجمهور السعودي بذائقته التشكيلية، واحترامه للفن وللغة العربية".
المشهد التشكيلي
على الرغم من استعمال الفنان نديم كوفي للحروف والكلمات في "بين هلالين"، فهو لا يقصد الحروفية ذاتها، بل الإخراج التشكيلي للكتابة، مستخدماً التقنية الطباعية في ترحيل للكلمات إلى شكل طباعي ذي كادر هندسي، يُظهر شخصية الحروف، وهي في انسجام حميمي.
تقوم الأشكال الهندسية في اللوحات كما الأحجام الكبيرة، التي تسمح بتكرار الأشكال والرموز من دون نفور أو ملل، على الرغم مما يقوله البعض من أن الهندسة، هي نتاج آلي تقني، فقد تمّ تجاوز ذلك كما في لوحة (حلم -علم) وكذلك في (وجه لـ وجه) ومهّدت الألوان أحمر، أخضر، وأزرق إلى ذلك.
هكذا هو الإبداع العراقي في المنفى، بين منزلتين من التشظّي، وأخرى تروم لمّ الشمل في وطن طال انتظار قيامته، بين التردّدات والتنافرات
نُفّذت جلّ اللوحات بالزيت بدلاً من الأكريليك الشائع لدى معظم الفنانين، وذلك لضرورات طباعية وجرافيكية.
نرى في لوحة (طلاسم بصرية- تجريب على الصوتيات المرسومة- زيت على قماش)، ذلك التناوب البصري للأرقام باعتبارها معاني، وللحروف بكونها أرقاماً ذات معاني أو دلالات فلكية، في اتصال مع الطلاسم والتنجيم والأبراج.
ثمّة مخطوطات كثيرة في تراثنا العربي تحفل بأشكال الطلاسم والرموز، منها كتاب (شمس المعارف)، وينسب تأليفه إلى أحمد بن علي البوني، ولكن المقصود في اللوحة تلك، ليس الطلاسم بعينها، بل الإخراج الطباعي والتقني، وإن ظهر مشهد اللوحة طلسمياً. والأمر ذاته يتعلق بلوحة (لوح مفاتيح أحمر- اللغة والطبيعة- زيت ستنسل على قماش) و(ثلاثية المعنى).
المعنى في الفن
عانى الفن التجريدي كثيراً من اتهامه بعدم المعنى، وقال بيكاسو مرّة، "وهل خرير الماء أو صوت العصافير له معنى"، لا يوجد المعنى حرفياً حتى في الكلمات التي هي مجرّدة، لولا عملها مع كتلة تتّصل بها أو توصيف، يجرّها إلى معنى ما.
فكلمة الباب، لا يمكن تصورّها مثلاً، إلا أذا اقترنت بوسط آخر غيرها، مثلاً باب الحديقة، أو باب المدرسة، بينما اللون هو في تعبير واضح، يستمدّه من سوسيولوجيا المجتمعات وثقافاتها، ومن المناخ والتضاريس والزراعة.
يختلف اللون الأصفر هكذا، عند العرب عمّا لدى الشعوب الأخرى، كذلك الأسود؛ هنا للحزن وهناك لغاية أخرى، فمسيرة اللون ذات منحى سوسيولوجي اجتماعي وأنثروبولوجي أيضاً.
يقول كوفي عن المعنى تشكيلياً، "أحثّ قارئي على اختبار المعاني، من زاويتيّ عقله وبصره على السواء.. في هذا الكتاب محتويات افتراضية بتحريض من الصورة، منمنمات ديجتالية تلخّص مدى الحاجة إلى تفّهم الوهم كمادة أولية غنية للشغل.. الصورة المكتوبة تأخذنا إلى رمزيتها، أما الكتابة المرسومة فهي تجريب تشكيلي طباعي".