تحمل اللغة الأم وزناً عاطفياً أكبر من تعلم لغة ثانية، ومهمة الحفاظ عليها أمر ضروري للتماسك العائلي والتواصل بين الأجيال. فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل يصنّفها علماء النفس والاجتماع كوعاء للثقافة والتاريخ والهوية.
لكن بالنسبة للعديد من الأسر المهاجرة حول العالم، فإن الحفاظ على لغتهم الأصلية، قد يشكّل مهمةً شاقّة، وخصوصاً بالنسبة لأطفالهم. وبحسب دراسة حديثة نُشرت في دورية "فرونتير"، فإنه "يمكن للزيارات المتكرّرة إلى مسقط رأس الوالدين، أن تغيّر قواعد اللعبة في رحلة الحفاظ على اللغة الأم وتعزيزها".
العائلات المهاجرة
وتؤكد الدراسة "صعوبة الحفاظ على اللغة الأم بين العائلات المهاجرة، التي تجد أن لغتها الأصلية، أصبحت لغة تراثية، تنتقل إلى الأجيال الجديدة بدرجات متفاوتة من النجاح". كما تتعرّض اللغات الأم عادة، لضغوطات من اللغة السائدة في بلد ما، فضلاً عن قلة فرص ممارستها والتحدّث بها مع الآخرين.
التنوّع اللغوي
إذن كيف يستخدم الأطفال اللغات التراثية أو يحتفظون بها، وهل يمكن أن تسهم زياراتهم المتكرّرة إلى بلدانهم الأصلية في مساعدتهم على التحدث بها بطلاقة؟
تجيب المؤلفة الأولى للدراسة، أستاذة اللغات في جامعة إدنبره البريطانية، فيكي كوندروجياني، "بأن زيارة أطفال المهجر لبلدانهم الأصلية ولو لفترات قصيرة، تساعدهم على تحسين قدراتهم اللغوية التراثية".
وتشير المؤلفة في تصريح خاص لـ"الشرق"، إلى أن "زيارة البلدان الأم، تعطي الأطفال فرصة للتحدّث بلغتهم الأصلية في سياقات أكثر تنوّعاً، والتفاعل مع متحدّثين باللغة نفسها في مجالات مختلفة، منها الزيارات، والأسواق وغيرها".
أضافت: "بهذه الطريقة يتعلم أطفال المهجر المزيد من الكلمات، ومن بينها الكلمات التقنية التي قد لا يسمعونها في بلدان إقامتهم، كما يتعلمون استخدام التعابير الملائمة في سياقات تفاعلية عدّة".
واعتبرت كوندروجياني أن ذلك "لا يعني أن استخدام اللغة الأم في بلد الإقامة ليس مهماً، بل على العكس، إذ تبيّن أن استخدام اللغة التراثية يشكّل عاملاً مهماً في التنبؤ بمدى نجاح الأطفال إتقانهم اللغات الأخرى".
التعرّض للغة الأم مبكراً
قام الباحثون بضمّ 58 طفلاً يعيشون في الولايات المتحدة وكندا، من ثنائيي اللغة اليونانية والإنجليزية، وذلك لفهم كيفية تطوّر الممارسة اللغوية عبر الأجيال وتعزيزها.
وتمّ تقسيم الأطفال إلى ثلاث مجموعات، تنتمي إلى الجيل الأول والثاني من المهاجرين، وجميعهم التحقوا بالمدارس العادية باللغة الإنجليزية، وتلقّوا دروساً إضافية باللغة اليونانية.
بدايةً أجرى الباحثون مقابلات مع الوالدين لفهم خلفية اللغة لدى الأطفال، ومدى ممارستهم لليونانية والإنجليزية، وعدد المرّات التي زاروا فيها اليونان أو زارهم أقاربهم. اختبر جميع الأطفال في المقام الأول اللغة اليونانية في سن مبكرة، وتزامن تلقيهم للغة الإنجليزية مع بداية التعليم العام.
وأظهرت النتائج أن الاختبار المبكر للغة الأم، والتعرّض المتأخر للغة السائدة، يرتبطان باكتساب أكثر اكتمالاً للغة الأم.
بعدها أجرى الباحثون اختبارات استهدفت جوانب مختلفة من المهارات اللغوية للأطفال، وطلبوا من الأطفال تسمية الأشياء الموجودة في الصور، لاختبار مفرداتهم، ووصف الأحداث التي تتضمنها الصور. بعدها تمّ ترتيب الاختبار الثاني، بحيث تطلبت الإجابات الصحيحة بنية نحوية محدّدة.
فجوة بين جيلين
ووجد الباحثون أن أطفال الآباء من الجيل الأول، والأطفال الذين لديهم أحد الوالدين من الجيل الأول والثاني، جاء أداؤهم مماثلاً في جميع الاختبارات. ومع ذلك، كانت هناك فجوة كبيرة بين أدائهم وأداء أطفال الجيل الثاني من الآباء، الذين كانوا أقلّ دقة بكثير.
وأوضحت الدراسة أن استخدام اللغة في المنزل، أسهمت في تحسين النتائج اللغوية، بينما دعمت زيارة اليونان، والاحتكاك مع متحدّثين باللغة اليونانية، الجوانب الضعيفة في نواحي اللغة لديهم، ودعمت مفرداتهم .
كما ساعدت الزيارات المتكررة للبلدان الأم، في إعادة إنتاج التراكيب النحوية بشكل صحيح في الجملة. وارتبط الاستخدام المتزايد للغة الأصلية والتعرّض لها باستخدامها بشكل دقيق أكثر.
أما أطفال الجيل الثاني من الآباء، فاستخدموا اللغة اليونانية بشكل أقلّ، وكان تعرضهم للغة أقل ثراءً، وكانوا يزورون اليونان بشكل أقل.
أطفال المهجر
وأوضحت الباحثة كوندروجياني، وجود تحديات تواجه أطفال المهجر، من بينها عدم وجود متحدّثين آخرين باللغة نفسها، وغياب البيئة التي يمكن فيها استخدام لغتهم الأصلية.
وقالت "إن نتائج الدراسة أظهرت أن الأمر لا يتعلق باستخدام اللغة الأم في المنزل فقط، بل بالفرص المتاحة للطفل لاستخدام لغته الأصلية في سياقات مختلفة، مع مجموعة متنوّعة من المتحدثين، و"قد لا تنشأ فرص لممارسة اللغة على الإطلاق".
أضافت: "تتعطل القدرة على التحدث باللغة الأم تحت ضغط لغة الأغلبية المجتمعية، ويزداد هذا الضغط عندما يدخل الطفل في تعلّم اللغة السائدة، وفي هذه المرحلة، نلاحظ تحوّلا في استخدام اللغة".
وأشارت إلى أن "الأطفال يبدأون باستخدام لغة الأغلبية المجتمعية بشكل أكبر عند نقطة الالتحاق بالمدرسة، وتصبح اللغة السائدة هي المهيمنة. وفي الوقت نفسه، يكون استخدام اللغة الأم مقيّداً داخل الأسرة، ما يؤدي تدريجياً إلى تراجع استخدامها".
وتضيف: "هناك تحدٍ آخر يتمثّل بعدم توافر مدارس اللغات الأم دائماً، التي من شأنها أن تعزّز تعلم اللغة الأصلية، وتقوّي الروابط الثقافية بين الأجيال المختلفة الملتحقة بهذه المدارس".
الوزن العاطفي
وترى الدراسة أن "الأهل هم المصدر الرئيسي لدمج الأبناء بلغتهم الأم، ونقل لغة تراثهم بطرق مباشرة عبر استخدامها مباشرة في المنزل، أو من خلال الحفاظ على مواقف إيجابية تجاه لغتهم وثقافتهم".
وأكدت كوندروجياني أن الحفاظ على لغة التراث "تحمل وزناً عاطفياً أكبر من تعلم لغة ثانية، وهي أمر بالغ الأهمية للتماسك العائلي والتواصل بين الأجيال، وتطوير فهم هوية الفرد وثقافته".
وتشجّع الباحثة على "زيارة الوطن الأم بشكل متكرّر، ومشاهدة الأفلام باللغة الأولى، والحفاظ على التواصل مع العائلة المقيمة في الوطن، من أجل توثيق الروابط مع لغاتهم الأساسية"..