استضافت مكتبة الإسكندرية أمسية شعرية مثيرة للجدل، للشاعرة الشابة أميرة البيلي، أشعلت سجالاً في وسائل التواصل الاجتماعي، وطرحت أسئلة حول ظاهرة الشعراء الجدد، واحتضانهم من قِبل منارات ثقافية عريقة.
واستغرب آخرون ظاهرة بيع التذاكر لحضور الأمسيات الشعرية، ومنها "الحفل الشعري" لأميرة البيلي، التي تراوحت بين 150 إلى 200 جنيه (حوالى خمسة دولارات)، وقال البعض إنها المرّة الأولى التي يسمعون بها عن ندوة شعرية بتذاكر (غير مجانية).
واعتبر محبّو البيلي، أن ما يحدث بمثابة "حرب خفية ضدّ أشهر شاعرة مصرية"، ليس بمعيار الجودة ولا الاحتفاء الرسمي، وإنما بحجم تأثيرها في "السوشيال ميديا".
علماً أن الدعوة إلى حفل مكتبة الإسكندرية حظي بمتابعة واهتمام أكثر من خمسين ألف شخص من المتابعين على مواقع التواصل، وهو رقم لا يحصل عليه حتى نجوم السينما.
علم نفس الإبداع
سألنا الشاعرة والناقدة د. رشا الفوّال، وهي من أكثر المهتمّين في مصر بعلم نفس الإبداع، عن تفسيرها لظاهرة الشعراء الجدد، فقالت، "ظاهرة "شاعر الخشبة" موجودة بشكل لافت، وهناك عدد من الشعراء نجحوا في الانتشار من خلال حفلات الشعر، ربما لأنهم برعوا في مخاطبة فئة محددة من الجمهور، أغلبهم في مرحلة الشباب. وربما لامتلاكهم ما يكفي من المال لتأجير القاعات وتنظيم حفلاتهم بشكل منضبط، من خلال الدعاية والإعلان على منصّات التواصل، ولأنهم دمجوا الموسيقى كخلفية أثناء إلقاء قصائدهم".
وعلى الرغم من أن بعض الأدباء اعتبروا أن بعض هؤلاء الشعراء الجدد لا يمتلكون مقوّمات كتابة القصيدة، لكنهم لم ينتبهوا لفكرة امتلاكهم من الأموال ما يسمح لهم بتأجير المسرح أو القاعة، وكذلك فكرة تسليع الشِعر.
ولا تعارض الفوال مثل هذه الحفلات قائلة: "لا أرى أي مشكلة، لكن الأزمة الحقيقية تكمن في تبنّي المؤسسات الرسمية لهذا النوع من الشِعر (فاقد المعنى)، القائم على موهبة مسرحية وقدرة على الإلقاء والدعاية".
حق التعبير
وفي إطار الدعاية لحفلتها، واصلت البيلي نشر صورها أو ما يسمى "فوتوسيشن"، وهي تقف أمام المكتبة والبحر ومواقع أخرى في الإسكندرية، ووصفت الحفل بأنه الأهم لها على مدار عشر سنوات، وقالت: "إن أهم الأيام في طريقي، ومتأكدة من النجاح بعون الله وكرمه".
الدعوة إلى حفل المكتبة حظي بمتابعة واهتمام أكثر من خمسين ألف شخص على مواقع التواصل، وهو رقم لا يحصل عليه حتى نجوم السينما
ورداً على انتقاد الأمسية، بثّت البيلي مقطع فيديو قالت فيه، إنه من حقّها "حرية الفن والتعبير، ولا يجوز الحكم عليها بقصيدة كتبتها في سن الـ 14، تقول فيها "تعبت فقمت كلّمته"، وأوضحت أنها طوال عشر سنوات، كتبت قصائد ودواوين كثيرة تستحقّ النظر فيها ثم الحكم عليها".
وأشارت إلى أن ملفها "عُرض على لجنة مختصّة من مكتبة الإسكندرية، وهي صاحبة القرار في من يستحقّ الوقوف على مسرح المكتبة ومن لا يستحقّ، وأنها طوّرت نفسها وطريقة كتابتها لكي تستحق حلمها"..
وأكدت أنها "قدّمت أكثر من مئة حفلة مماثلة ناجحة في كافة جامعات ومحافظات مصر".
ظاهرة لا يعترف بها المثقفون
والملاحظ أن نجاح ظاهرة أميرة لا تقتصر على "السوشيال ميديا"، فهي تُستضاف بغزارة في كل القنوات التلفزيونية تقريباً، أكثر ـ ربما ـ من نجوم التمثيل والغناء.
أخذاً في الاعتبار أنها ليست الأولى في سياق الظواهر التي تحقّق نجاحاً مدوّياً، بالاعتماد على "السوشال ميديا"، وبعضها يختفي بعد فترة، ومن أشهر هؤلاء "زاب ثروت" المغنّي والكاتب وخرّيج كلية الهندسة، الذي اضطر قوات الأمن للتدخل في حفل توزيع كتابه في معرض الكتاب قبل بضع سنوات، بسبب صفوف المعجبين وحالات الإغماء، وقيل إنه باع 15 ألف نسخة من كتابه في يوم واحد!
كما أن الشاعر عمرو حسن، الذي اعتبره البعض أشهر شاعر عامّية في مصر، والذي يشبه إلى حد كبير تجربة البيلي في اعتماده على الأداء المسرحي، والجمهور، وشعر العامية شديد البساطة والمباشر في معانيه، نجح في تقديم حوالى 300 حفلة كاملة العدد، إلى أن أعلن قبل فترة توقّفه.
جمهور افتراضي
وعلى الرغم من أن جمهورها يأتي خصيصاً من أماكن بعيدة، لكنها غير معروفة في الوسط الثقافي التقليدي بمصر، الذي تدور معظم أنشطته في "وسط البلد"، أو القاهرة الخديوية.
أما البيلي، فتنتمي إلى وسط افتراضي لا نهائي، صنعت مجدها بذكائها - على صغر سنّها - إضافة إلى ما تتمتّع به من قدرة كبيرة على الانتشار وبراعة التسويق.
فهي تقدّم صورة لشابة جميلة وعصرية، تعرض على صفحاتها قصائدها في مقاطع فيديو مصوّرة، كأنها مغنّية، مع أداء تمثيلي لافت، وحركات تعبيرية وتلوينات صوتية. فحضورها الأدائي شديد الأهمية في فهم الظاهرة بعيداً عن أي تقييم نقدي.
كما استعانت في حفلتها بضيوف شرف من أصدقائها الفنانين الشباب مثل: يحيى عمر، وأشرقت نجمة ذا فويس. ولا يخفى أن هذه العلاقات التبادلية تسويقية بالدرجة الأولى، وتسهم في مضاعفة متابعي الجانبين، أي مكسب متبادل.
طبيعة شِعرها
ورداً على أسئلة "الشرق"، لم تجب البيلي، فيما قال المسؤول عن صفحتها أحمد المصري، "إن أميرة تأثّرت بالشعراء صلاح جاهين والأبنودي وأحمد فؤاد نجم.. وتميل إلى النصوص العامية البسيطة، التي تصل إلى قلوب الناس، فضلاً عن موهبتها في الإلقاء، وإلا ما كان لها أن تصل إلى قرابة ستة ملايين متابع".
ومن أشهر النماذج المثيرة للجدل قصيدتها "تعبت فقمت كلّمته ما أنا بنته هايفهمني.. ويفهم إني محتاجة يكلمني ويسمعني.. ويفهم إني مخنوقة.. وحضنه بس ح يساعني.. في كلمته.. آلو.. هو إنت ليه ساكت؟ آلو فيا حاجة ماتت! آلو تعبانة فاسمعني.. يرد يقول وإيه يعني".
هذه القصيدة التي تُعتبر من بدايات الشاعرة، تحظى على موقع اليوتيوب بمشاهدات مليونية.
خواطر المراهقين
ويرى الناقد الأكاديمي د. أحمد الصغير، "أن ما يكتبه بعض هؤلاء الشعراء، يدخل في دائرة كتابة الخواطر البسيطة التي يكتبها المراهقون، لكنها لم ولن ترقى إلى النضج الإبداعي".
أضاف: "تلقي أميرة مثلاً كلاماً رومانسياً حزيناً، تخاطب فيه الحبيب الذي رحل عنها، كتابة شعبية تشبه ما تطرحه الأسواق والمهرجانات من فوضى في المبنى والمعنى".
واعتبر أن قصائد بعض الشعراء هي مجرد "موضة" من سجع ورصّ الكلام العادي المباشر، الذي يمكن لكل شخص أن يكتبه بسهولة، وليس ثمة معاناة في البحث عن معنى أو صور شعرية مبتكرة.. فالهدف هو جمهور يميل إلى السهل والمتاح والركيك".
لا تبعد رشا الفوّال كثيراً عن هذا التقييم، وتقول "قرأت بعض قصائد عمرو حسن مثلاً، ولاحظت أنها لا تخلو من موهبة شعرية، لذلك لم يعترض أغلب المثقفين على حفلاته مثل شراسة الاعتراض على أميرة، ربما لأن عمرو أكثر موهبة، ولأن ما تقدّمه يصعب قبوله بوصفه "شعراً". وربما لا يخلو الاعتراض عليها من تمييز ثقافي يتساهل مع الرجل أكثر من المرأة".
موقف المكتبة
رغم أن البيلي قدّمت عشرات الحفلات، لكن رمزية مكتبة الإسكندرية تجعل حفلها مختلفاً عن أماكن أخرى، مثل ساقية الصاوي، التي تحتضن مثل هذه التجارب، لذلك وُجّهت انتقادات إلى المكتبة "التي لا يُفترض أن تجاري تلك التجارب الخفيفة"، برأي البعض، وتدافع عبر أنشطتها عن الثقافة والإبداع الحقيقي.
مدير مكتبة الإسكندرية د. أحمد زايد، ردّ في تغريدة له على السجال الدائر بالتنبيه إلى أمرين: "أن المكتبة تضع شروطاً ومعايير لمن تقدّمهم في هذه المناسبات، وهناك لجنة متخصصة تحكم وتتخّذ القرار".
أما الأمر الثاني فهو "أن المكتبة تؤمن بالتعددية ومنح فرصة للأصوات كلها، ولا تتسرّع في الحكم، ولا تحجر على رأي". مشيراً إلى أن المجتمع المصري "قادر على فرز صور جديدة من السرد أو الدراما أو الشعر".
"نجاح كبير"
وتوقّع البعض أن يؤدي الجدل إلى إلغاء الحفلة الشعرية، لكن الدعاية لها استمرت بقوّة، وأقيمت في موعدها المقرر، وطرحت البيلي في صفحتها صور الحفل والإشادة بالنجاح الكبير، وشكرت المكتبة ومشاهير "السوشيال ميديا" الذين حضروا، وفريقها الإعلامي والموسيقي.
وطرحنا السؤال على مسؤول صفحتها عبر "الواتساب" عما يُقال عن تأجير القاعة، ولم نتلق منه أي إجابة، كما طرحنا السؤال نفسه على أحد المسؤولين الإعلاميين في المكتبة لكنه اعتذر.
بينما دافع المسؤول عن صفحتها عن فكرة التذاكر، مشيراً إلى أن "الحفل يضم فرقة موسيقية وفنيين للديكور والإضاءة ومنظّمين، وهذا كله مكلف جداً، ويستحيل تنفيذه مجاناً وبشكل يرضي ويسعد جمهورها الكبير في مصر والعالم العربي، مشيراً إلى أن الشاعرة "تبرّعت بجزء من عائدات الأمسية الشعرية إلى الشعب الفلسطيني".
وختم بالتأكيد "أن قصائدها تحقّق ملايين المشاهدات، بغض النظر عن انتقاد البعض، فطبيعي أن أي شخص ناجح يكون له أعداء".