في خلفية الصراع العربي الإسرائيلي الذي عمّر منذ أكثر من سبعين عاماً، ومع تضاؤل الحلول وانحسارها المستمرّ، يحضر التاريخ بقوّة، فاعلاً في الأحداث على واقع الأرض العنيد.
يحضر ما بين الرواية التي تُبرّر وتؤوّل في الجانب الإسرائيلي، وخاصة في القراءة المعتمدة على التأويل الصهيوني للتاريخ، وبين الرواية الفلسطينية المؤسّسة على المنهج العلمي، لتؤكد وتقاوم بشدّة، مستندةً على كل ما يوفره التاريخ من آليات البحث والتنقيب في الوثائق والآثار، وتبويبها والإعلان عنها بفعالية النظر العلمي. وهي الرواية التي تحمل جديداً يتجلى في عدم اعتمادها على دوافع سياسية كما كان الحال من قبل.
هؤلاء المؤرّخون الفلسطينيون ليسوا قلّة في هذا المجال، بل موجودون في أكبر الجامعات العالمية، في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا خصوصاً، ولهم حضور قوي في مجالات البحث التاريخي المتخصّص. وبطبيعة الحال، كتبوا ونشروا كتباً ذات قيمة كبيرة، تسعى إلى تأكيد الوجود التاريخي الفلسطيني على الأرض، التي أرست بها الأمم المتحدة قراراً تقسيمياً سنة 1947، ثم سنة 1948، تاريخ احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية.
الهوية الوطنية الفلسطينية
جاءت هذه الفورة في الدراسات والبحوث التاريخية، المخصّصة لإعادة الاعتبار إلى المكوّن التاريخي الفلسطيني، المحدّد في جغرافية محددة وقائمة، بعد الأحداث الكبرى المتّسمة بالعنف ما بين إسرائيل والفلسطينيين، بين فترات الحروب وفترات الهدنة الهشّة، وبين سيرورة فعل الدبلوماسية واقتراح الحلول المختلفة. وقد نتج عن ذلك، التأريخ والصراع، مسألة تأسيس الهوية الوطنية الفلسطينية، كمُكوّن قائم بذاته.
في هذا الإطار، أصدر المؤرّخ الفلسطيني رشيد الخالدي، أستاذ كرسي إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا، الذي ينتمي إلى أحد أعرق العائلات المقدسية، كتاباً بالإنجليزية يحمل عنوان "حرب المئة عام على فلسطين: 1917-2017"، صدرت طبعته العربية عن الدار العربية للعلوم، ناشرون عام 2021.
احتلّ الكتاب حينها المرتبة الثالثة للكتب غير السردية الأكثر مبيعاً. ويشير الخالدي في تقديمه للكتاب إلى واقعة مهمّة، تتعلق بكون أحد أجداده كان تبادل الرسائل مع ثيودور هرتزل، مؤسس الفكرة الصهيونية، يضع فيها من وجهة نظره أسس الهوية الوطنية الفلسطينية في شكلها المرتبط بذلك الزمن.
ومنها انطلق الكاتب في سرد تاريخي للحروب التي عرفتها المنطقة، مع خلفية محاولة طمس الهوية الفلسطينية التي لا تنفك تخضع للمتغيّرات تبعاً لذلك. ومن خلال هذا السرد، أكد الخالدي ما أظهره في كتاب آخر له، هو "الهوية الفلسطينية، بناء وعي قومي حديث" الصادر سنة 1997.
وكتب المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد عنه، "هذا هو الكتاب الأوّل الذي حدّد منطلقه في كوْن هذه الهوية موجودة بالفعل، كاشفاً عن طبقاتها المتداخلة ومراحلها التاريخية وهزائمها المأساوية".
يفنّد المؤرخ الطروحات التي تقول إن الهوية الفلسطينية ظهرت أوّل ما ظهرت لكي تنافح الطرح الصهيوني. وفعلاً كان لهذا العامل دور حاسم، وكثّف من الشعور الهوياتي الفلسطيني من خلال المواجهة معه. ويؤكد أنها كانت سابقة عليه، "فالنضال ضدّ الصهيونية لا يفسّر بحد ذاته القومية الفلسطينية بالقدر الكافي".
وهكذا يرى بأن مسألة الهوية عرفت تغييرات وتماهيات عدّة، علمانية وعربية وإسلامية، في بداية القرن العشرين، في ما قبل الحرب العالمية الأولى، "حين كانت فكرة الهوية الفلسطينية لا تزال جنينية، ورفع شعارها المتعلمون من سكان المدن، وتطوّرت إلى أن تأثّرت بأحداث 1948، سنة النكبة، التي كانت العامل الأساس في تشكّل هذه الهوية، بما أنها شملت ووحّدت الفلسطينيين".
مؤرخ إسرائيلي.. الأرض الفارغة كذبة
يقابل الخالدي في الجهة المعاكسة، طرحاً حول الهوية داخل إسرائيل، للمؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند، الذي يُدرّس التاريخ في جامعة تل أبيب منذ نحو 32 عاماً، والذي فصّله في كتابه الشهير، "كيف تمّ اختراع الشعب اليهودي"، صدر عام 2008.
يرى ساند في طروحاته التي لا تزال تسبب سجالات كبيرة داخل إسرائيل وخارجها حتى اليوم، أن الشعب اليهودي "ليس سوى اختراع من قِبل المؤرخين اليهود في القرن التاسع عشر، ولا سيما الألماني هاينريش جرايتز (1817-1891)". الأمر الذي يعاكس السردية الإسرائيلية السائدة، القائلة بأن اليهود اضطروا إلى الهجرة من أرضهم منذ ألفي سنة، وعادوا إلى أرضهم الموعودة، في اعتماد كامل على التوراة.
هذا الكلام اعتبره ساند في مقال لجريدة لوموند ديبلوماتيك (2008) بأنه من تأليف "مُعيدي بناء الماضي الموهوبين، الذين ابتكره خيالهم الخصب، على أساس أجزاء من الذاكرة الدينية واليهودية والمسيحية، حسب تسلسل مستمر نُسب للشعب اليهودي".
يرى ساند في حديثه للتلفزيون العبري، "أن الحركة الصهيونية ابتدعت فكرة "الأرض الفارغة"، كي تحصل على عذرٍ وتبرير، وكان يتحتّم عليها أن تقول ذلك".
يضيف: "الحركة الصهيونية حاولت إقناع العالم أنه بعد مرور حوالى ألفَيْ عام، عاد اليهود إلى فلسطين، بعد الخروج منها، أي أن اليهود خرجوا من فلسطين قبل ألفيْ عام، وعادوا بعد أن أجروا إعادة تقييم".
ويقول ساند لصحيفة "هآرتس"، أنا مثل الآخرين اعتقدت أن اليهود كانوا شعباً يعيش في يهودا، وأن الرومان نفوهم عام سبعين ميلادي. لكن عندما بدأت أنظر إلى الأدلّة اكتشفت بأنّ النفي هو أسطورة، إذْ لم أجد أيّ كتابٍ تاريخي يصف أحداث النفي، والسبب لأن الرومان لم ينفوا شعباً"..
بالنسبة له، واستناداً إلى نتائج البحوث التاريخية الأركيولوجية الجديدة، التي أُجريت في الثمانينيات من القرن الماضي، لا وجود لأدلة على حدوث هجرة جماعية كبيرة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وعلى تَمَكُّن موسى من إخراج العبرانيين من مصر وقيادتهم إلى "الأرض الموعودة" ولا أثر لثورة العبيد في إمبراطورية الفراعنة.
ونلاحظ كيف أن كلام شلومو ساند هذا، يقوّض المحكي الإسرائيلي من أسسه، وبالتالي، يضع إسرائيل موضع سؤال شك قوي. وصرّح تبعاً لذلك، بأن مصطلح الشعب في تعريفه الحديث، الذي يفترض وجود ثقافة وممارسات علمانية مشتركة، لا يمكن أن ينطبق على اليهود، فيطالب بأن تكون إسرائيل "دولة ديمقراطية للإسرائيليين جميعهم، وليس فقط لليهود جميعهاً".
والغريب أنه وبعد أن تعرّض ساند لانتقادات كثيرة، ردّ عليها في أنه "لم يأتِ بأي شيء جديد، بل قام ببساطة بتنظيم ما كان معروفاً بشكل مختلف".
4 آلاف عام من التاريخ
وكانت صدرت عام 2019 الترجمة العربية لكتاب "فلسطين، أربعة آلاف عام في التاريخ"، عن مركز دراسات الوحدة العربية، للدكتور نور مصالحة، الأكاديمي والمؤرّخ الفلسطيني، ومدير سابق لمركز الديانات والتاريخ في جامعة سانت ماري في لندن.
يشغل مصالحة حالياً منصباً في مركز الدراسات الفلسطينية بجامعة لندن، وهو محرّر "مجلة الأرض المقدسة والدراسات الفلسطينية "التي تصدرها مطبعة جامعة إدنبرة. يقول في مقدمة كتابه: "يستكشف هذا الكتاب تطوّر مفهوم فلسطين وتواريخها، وهويتها، ولغاتها، وثقافاتها، من العصر البرونزي المتأخّر، حتى العصر الحديث".
يضيف: غالباً ما يُدرّس تاريخ فلسطين في الغرب، على أنه تاريخ أرض، لا على أنه التاريخ الفلسطيني، أو تاريخ شعب ". هو إذن تعقّب للاسم، أي فلسطين، في الأثر على اختلاف المواد التي كُتب عليها، أو نُقش فيها عبر أزمنة تاريخية طويلة، أي من خلال العودة إلى الجذور التاريخية، بما هي الوحيدة الكفيلة بمقارعة التأريخ الذي يعرض الاسم عَرَضاً، أو في ارتباط بجغرافية أوسع، أي یمنح الأولویة لإعطاء فلسطین والفلسطينيين صوتاً، ویُتیح ِ لفلسطين أن تتحدّث عن نفسھا".
800 مصطلح خاص بفلسطين
الأمر نفسه قام به المؤرّخ جوني منصور المولود في حيفا سنة 1960، والمختصّ بتاريخ الشرق الأوسط، والمؤرّخ اليهودي إيلان بابي، الذي ينتمي إلى تيار المؤرّخين الجدد، الذين أعادوا كتابة التاريخ الإسرائيلي وتاريخ الصهيونية، وهو من مؤيّدي عودة اللاجئين الفلسطينيين.
فقد أصدر كتاب "القاموس التاريخي لفلسطين" عن دار "راومان" للنشر في الولايات المتحدة. وهو قاموس على التعريف بفلسطين التاريخية في العصر الحديث، وأسباب وجود إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، أي الضفة الغربية وقطاع غزة. ويضم 800 مصطلح خاص بشخصيات وأحداث ومواقع فلسطينية، أو ذات صلة بالتاريخ الفلسطيني، بما فيها أحداث أو شخصيات إسرائيلية- صهيونية، مثل بن غوريون وغولدا مائير.
يهدف الكتاب إلى تأكيد القول على أن أرض فلسطين لم تكن أرضاً فارغة. بل كان فيها ناس على مرّ العصور، عاشوا فيها ويعيشون، أنتجوا وينتجون جميع الأنشطة الحياتية والمجتمعية كما في كل أرض أخرى.
وبعد أن تمّ التذكير في الصفحات التقديمية بالجذور التاريخية لفلسطين، ركز المؤلفان على فترة العصر الحديث، الذي يشمل القرنين التاسع عشر والعشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين.
وقد تبنيا منحىً سردياً يعتمد على لغة مغايرة بالطول والعرض للتعريفات المعتمدة حالياً، لأسماء المدن والتسميات التي أطلقت على أحداث كبرى، كالنكبة، وحرب الأيام الستة عام 1967، على حد قول جوني منصور، الذي اعتبر في حوار مع موقع "عرب 48" بأن "الموقف عند تدبيج الكتاب كان سياسياً واضحاً، ويرى بأن فلسطين من قبل وفي الوقت الراهن، تشكّل وحدة جغرافية لم تتوقف عند تأسيس إسرائيل".
الأمر نفسه يتفق معه إيلان بابي، الذي سمّى حقيقة فلسطين والفلسطينيين كلهم بـ"الكُلّية". إذ رأى تكاملاً في الرأي والبحث، في ذات الحوار، من منطلق أنه هو أيضاً من حيفا، ويعرف جيداً التاريخ الإسرائيلي، كما يعرف جوني منصور الكثير من منطلقه كفلسطيني، "ومن الواضح أن هذا هو المستقبل المنتظر، الذي سيقوم على أساس نفي الاستعمار الكولونيالي، وليس على أساس النظام القائم".