يروى أن خصوماً واجهوا المتنبي فحاول الفرار.. فقالوا له ألست القائل: "الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيفُ والرمح والقرطاس والقلمُ".. فاستدار إلى قاتليه وقُتل..
أحياناً يهجس الشاعر بموته في صورة شعرية يحقّقها الواقع، كما حدث مع العرجي في بيته الشهير، "أضاعوني وأيّ فتًى أضاعوا/ ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثـَغْـرِ"..
كما انشغل أحمد شوقي بهاجس الموت، فسجّل وصيّته بشأن لحظته الأخيرة، "أقول لهم في ساعةِ الدفنِ خفّفوا عليّ/ ولا تُلقوا الصخورَ على قبري/ ألم يكفِ همٌّ في الحياةِ حملتُهُ/ فأحمِل بعدَ الموتِ صخراً على صخرِ"..
لكن تبقى أشهَر نبوءة لشاعر جاءت على لسان فيدريكو غارثيا لوركا، عندما قال: "وعرفت أنني قُتلتُ/ وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس/ وفتحوا البراميل والدواليب/ ونبشوا ثلاث جثث/ ونزعوا أسنانها الذهبية، لكنهم لم يجدوني". وبالفعل قُتل الشاعر رمياً بالرصاص بعد شهرين، واختفت أو أُخفيت جثّته.
على خطى هؤلاء الشعراء الذين رافقهم هاجس الموت، وتنبّأوا بلحظاتهم الأخيرة، جاءت النهاية المأساوية للشاعر والأكاديمي الفلسطيني رفعت العرعير (سبتمبر 1979-ديسمبر 2023)؛ فمع اندلاع الحرب على غزة استشعر دنو الأجل، وكتب قصيدة إعلان موته بالإنجليزية، وجاء فيها:
"إذا كان لا بدّ أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطاً
(فلتكن بيضاء وبذيلٍ طويل)
كي يُبصر طفلٌ في مكان ما من غزّة
وهو يحدّق في السماء
منتظراً أباه الذي رحل فجأة
دون أن يودّع أحداً
ولا حتى لحمه
أو ذاته
يبصر الطائرة الورقية
طائرتي الورقية التي صنعتَها أنت
تحلّق في الأعالي
ويظنّ للحظة أن هناك ملاكاً
يعيد الحب
إذا كان لا بد أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
فليصبح حكاية".
ومنذ لحظة موته بسبب القصف الإسرائيلي الذي استهدف منزل شقيقته مباشرة، لم تنقطع قصيدته عن الألسن، فالممثّل الاسكتلندي براين كوكس ألقى قصيدة رفعت العرعير الأخيرة. كما ردّدتها شابة وناشطة أميركية في مقطع مصوّر، ومازال المقطع يحظى بتداول واسع في وسائل التواصل الاجتماعي. كما خرجت مسيرات في مدن العالم تحمل صوره وتدعو إلى وقف الحرب على غزة، وفي معرض الكتاب الوطني في روما، نهضت فتاتان مناصرتان لفلسطين لإلقاء القصيدة أمام الجمهور.
العبور إلى العالم
كان العرعير واعياً بأن تكون قصيدته باللغة الإنجليزية، كي تطير وتحلّق عبر العالم كله، وحريصاً أن يضمّنها حكايته ومأساة شعبه، آملين أن تتحوّل أرواح الضحايا إلى طائرات ورقية ملوّنة تسعد أطفال غزة!
قال العرعير كلمة لا تُنسى: "عندما نكتب عن الشهداء، يجب أن نذكر أن الاحتلال قتلهم. يجب أن لا نترك الفعل للمجهول".
في مواجهة القتل
أصبح العرعير وقصيدته أيقونَتين متلازمتين، ولعلّ جمالية النصّ أنه جاء خلواً من الميلودرامية ورثاء الذات، ومفعماً بأمل شفيف في الخلاص من كل هذا، شرط أن تصل الحكاية إلى الناس كلهم.
في الحروب يتباهى كل طرف بما يمتلكه من قنابل وصواريخ وطائرات، ويصفّق جمهور الشاشات كلما تضاعفت أعداد القتلى. بينما العرعير لا يملك سلاحاً، ولا يخوض حرباً، بل ذهب إلى الفكرة الأكثر سموّاً وراء هذا كله؛ وهي حقّ كل إنسان في الحياة، وحقّه في قول كلمته.
بهذه السلمية الشُجاعة، قال الراحل رفعت العرعير: "أنا أكاديمي، وإذا هاجم جنود الاحتلال بيتي، فإني سألقي عليهم القلم.. ولو كان آخر شيء أفعله"!
إنه لا يُخفي قنابل في بيته، ولا يجيد إطلاق الرصاص على أحد، لأنه مُعلّم، آمن بأشعار شكسبير ووردزوورث وإليوت وتوماس وايت وعمر الخيام ومحمود درويش. آمن بأن السلام سوف يسود إذا ما انتصر القلم على الدبابة، والعقل على شهوة القتل.
ولم لا، وهو أستاذ الكتابة الإبداعية والأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية في غزة، وهو من قرّر عقب عدوان العام 2014، الذي فقد فيه شقيقه وأفراداً من أسرة زوجته، أن يتبنّى مشروع "نحن لسنا أرقاماً"، الذي يهدف إلى طرح معاناة الغزّيين عبر القصص، حتى لا يتحوّلوا إلى مجرد أرقام وأسماء غامضة في نشرات الأخبار، فمن حق الضحايا أن يمتلكوا قصصهم، وأن يحكوها للعالم كله، قصّة أرضهم وحقّهم في الكرامة والعيش.
اتخذ العرعير حينها على نفسه عهداً بترجمة كل ما يستطيع من قصص إلى الإنجليزية، حتى عناوين مثل "غزة تكتب مرّة أخرى" و"غزة بلا صمت".
If I Must Die
Refaat AlareerIf I must die
you must live
to tell my story
to sell my things
to buy a piece of cloth
and some strings
(make it white with a long tail)
so that a child, somewhere in Gaza
while looking heaven in the eye
awaiting his dad who left in a blaze –
and bid no one farewell
not even to his flesh
not even to himself –
sees the kite, my kite you made, flying up
above
and thinks for a moment an angel is there
bringing back love
If I must die
let it bring hope
.let it be a tale
مع ذلك بقيت آلة القتل أشدّ فتكاً، ولم يوقفها قلم العرعير، لذلك نشر في مقال عام 2021 كيف فقد في سنوات معدودة أكثر من ثلاثين شخصاً من أقاربه. وعقب "طوفان الأقصى"، لم يصمت قلب الشاعر، وظهر أكثر من مرّة في قنوات عالمية، سي ان ان
وقال كلمة لا تُنسى: "عندما نكتب عن الشهداء، يجب أن نذكر أن الاحتلال قتلهم. يجب أن لا نترك الفعل للمجهول".
اكتمال الحكاية
اكتملت قصة رفعت العرعير بمقتله مع شقيقه وشقيقته وأولادها الأربعة، أصبح هو أيضاً حكاية مع مئات الحكايات التي نشرها عن من سبقوه على طريق الآلام.
ومنذ لحظة ارتقائه، تبارى من عرفوه في تدوين شهاداتهم عنه، فكتب خالد صافي المختصّ في الإعلام الرقمي، "من أفضل من التقيتهم، وعملت معهم أدباً وعلماً وخلقاً، صاحب رسالة وفكر نيّر، مطّلع ومثابر وطموح.. لديه من الإنجازات الأكاديمية والعلمية ما يضيفه إلى قائمة النخب الثقافية بجدارة. عزاؤنا أن الشــهـــادة اصطفاء، وأن الله اختاره لجواره".
كانت اللغة الإنجليزية وسيلة للتحرّر من الحصار، وجهاز نقل تحدّى الأسوار الإسرائيلية والحصار الفكري والأكاديمي والثقافي لغزة"..
أما صديقه الأكاديمي جهاد أبو سليم، فكتب تدوينة مطوّلة جاء فيها، "عرفت رفعت العرعير منذ أن كان عمري 17 عاماً، علّمني أول دورة في كتابة اللغة الإنجليزية. هو أكثر من مدرّس، كان مرشداً وصديقاً، وكان يهتمّ بطلابه خارج الفصل الدراسي".
أضاف: "شغفه كان اللغة الإنجليزية، لكنه لم يدرسها كوسيلة للانفصال عن المجتمع، كما هو شائع بين العديد من الطبقات العليا والمتوسطة الناطقة باللغة الإنجليزية في العالم الثالث. بالنسبة إلى رفعت، كانت اللغة أداة للتحرير، وسيلة للتحرّر من الحصار الذي طال أمده في غزة، جهاز نقل، تحدّى الأسوار الإسرائيلية والحصار الفكري والأكاديمي والثقافي لغزة"..
وأوضح أبو سليم أن "رحلة رفعت في التعلّم والتدريس كانت مليئة بالصراعات. كانت حياته صعبة، تميّزت بخسائر عائلية كبيرة. ومع ذلك، ثابر وقاوم وكتب. في يوم من الأيام، سيشارك الكثير منا كطلاب رفعت أجزاء من قصّته. لكن اليوم لنتذكر أن رفعت لديه عائلة في غزة في حداد على أب وزوج حنون. إذا كنا مدينين لرفعت بأي شيء، فهو أن نستمر في معركتنا حتى يتحقّق وقف إطلاق النار".
كما نعاه صديقه الصحفي ياسر عاشور، ووصفه بأنه "الغزّاوي الشُجاع حتى النخاع"، وحكى كيف كان يسأل عن الجميع رغم ظروف العدوان، ويتواصل مع الطلبة والزملاء والجيران، ويطمئن عليهم ويسأل عن احتياجاتهم".
"الشرق" تواصلت مع الطبيب محمد المناصرة، وسألته عن علاقته بابن حي الشجاعية فقال: "نعرف رفعت منذ أن كنا أطفالاً، وكان هو من جيل الشباب النشط والمجتهد. أذكره في مسجد الحيّ في التسعينيات بداية الألفية، ومع بزوغ الانتفاضة الثانية كان نموذجاً للشاب المثقف الذي يحمل همّ قضيته منذ البداية".
أضاف: "بعد ذلك تحوّل إلى نموذج للأكاديمي صغير السن، ممتدّ التأثير، بداية من دورات اللغة الإنجليزية التي كان يعقدها ويتوافد إليه الطلاب من جميع أنحاء غزة، باعتباره أفضل من يقدّم مثل هذه الدورة، ليتحوّل بعدها إلى صوت فلسطين الناطق باللغة الإنجليزية، وصياغته لأحد أهم النماذج التي يصبح فيها تدريس الأدب الإنجليزي، من أهمّ تجليات النضال الفلسطيني أمام العالم".
شجاعة الكلمة
كان بإمكان العرعير الذي درس الماجستير في لندن والدكتوراه في ماليزيا، ويتقن الإنجليزية كأهلها، أن يبحث لنفسه عن ملاذ آمن في إحدى جامعات العالم، وأن ينجو بأطفاله الستة من آلة القتل الوحشية، لكنه آثر البقاء في غزة ومواجهة عنف الإسرائيلي بشجاعة الكلمة.
لا شك أن قصّته وقصيدة إعلان موته، تركت كبير الأثر في عشرات الآلاف حول العالم، وأبكت قلوب زملائه المبدعين في فلسطين، حتى لو لم يكونوا من أهل غزة، ولم يسمعوا به إلا عقب رحيله.
لذلك حين سألنا الكاتبة أحلام بشارات عن حكاية العرعير قالت: "ما يحدث في غزة الآن يجعلنا عاجزين عن الكتابة والكلام.. ربما نكتفي بالأنين أو صرخة.. ربما البكاء.. ما جدوى أي كلام يقال أمام أرواح الأطفال؟ الأمور صعبة علينا جميعاً، ولا تسعفنا اللغة للتعبير عما نشعر به".
تتابع: "للأسف لا نعرف الشخصيات العظيمة مثل رفعت العرعير أحياناً، إلا مع وقوع كوارث كبيرة.. فنصير نعرفهم وتصلنا حكايتهم.. بالتأكيد أنا حزينة على رحيله، وعلى رحيل كل شاب وطفل وامرأة ورجل في غزة.. الآلاف رحلوا وجميعهم كانوا ملهمين.. حتى لو كان إلهامهم لأمهاتهم فقط"..