في الأصل كانت اللغة..
اللغة بما هي وسيلة الشعوب التي تدلّ عليهم، تدلّ في الوقت نفسه على ما يبدعونه. والإبداع كما هو معروف له طابع إنساني، وبالتالي يتمّ تبنيه من قِبل شعوب أخرى، وهو ما يترك لا محالة تلقيحاً لغوياً لازماً، قد يكون مؤسّساً وعميقاً في ذهنية من يتلقونه.
في هذا السياق، أصدر جان بريفوست Jean Pruvost، عالِم اللغة الفرنسي والمؤرّخ المتخصّص في علم المعاجم والقواميس، المولود سنة 1949 في باريس، كتاباً هاماً يتعقّب فيه بشكل علمي وموثّق، مدى تغلغل اللغة العربية باللغة الفرنسية، بعنوان "أجدادنا العرب، ما ندين به للغة العربية" عن دار "ج. س. لاتيس"، في 300 صفحة.
يبدو أن العنوان له حمولة قوية ومتفرّدة، واستعماله بهذا الشكل فيه نوع من الاستفزاز المعرفي، يُحيل في حقيقة الأمر، إلى نشيد وطني فرنسي شهير يتغنّى به الناس منذ الطفولة، ومطلعه "أجدادنا الغاليون" (Les gaulois)، وكان من اختراع المؤرّخ إرنست لافيس، مع نهاية القرن التاسع عشر، في محاولة منه لتأسيس محكي وطني فرنسي.
لكن جان بريفوست دحض ذلك معتبراً أنها تهيّؤات لا سند لها في الواقع، ولا يثبتها التاريخ، قائلاً: "إن مساهمات اللغة العربية، تكشف أنها لا تتناسب مع مساهمات "أسلافنا الغاليين"، الذين اختفت لغتهم بالفعل منذ القرن الرابع الميلادي."
ونظراً لأهمية الكتاب، نشرته أيضاً دار "بوان" الفرنسية، مبررة ذلك بأنه في ثنايا الكتاب، "استكشاف مُبهج لهذه اللغة التي نقلتها الحروب الصليبية، والفتوحات العربية، والمبادلات التجارية في البحر الأبيض المتوسط، وإلى تاريخ قريب، نقلتها عودة فرنسيي المستعمرات، الذين يُدْعَون بـ"الأقدام السوداء" إلى فرنسا، وأيضا تأثير موسيقى الراب حالياً".
ووصفت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية عمل جان بريفوست بأنه "ذو منفعة عامة، لأنه يعيدنا في رحلة رائعة إلى قلب التاريخ واللغة". وسبق للمؤلف جان بريفوست، أن نشر الكثير من الكتب والمنشورات، وحرّر أعمدة ومقالات في مجال اللغة في الصحف والبرامج الإذاعية الفرنسية.
نتحدث العربية حالما نستيقظ
حدّد بريفوست ستة طرق اتبعتها اللغة العربية لتأكيد حضورها، منذ بداية القرن الخامس عشر والسادس عشر، حيث ساد الإعجاب باللغة العربية، وأبرز مثال على ذلك هو التأثير الكبير الذي مارسته حكايات "ألف ليلة وليلة" العالمية، وما أودعته من كلمات وتعابير لدى علية القوم، ومنهم كُتّاب لم يجدوا غضاضة في توظيفها في إبداعهم، وخصوصاً قصة ما جرى لجعفر والبرامكة، ونهاية حظوتهم الشهيرة في ظل الحكم العباسي.
وتظهر الدلائل، هذا البروز المهم للعربية منذ لحظة خروج الفرنسي من السرير، فهو يتحدّث بها من دون أن يعي ذلك. يقول الكاتب: "تتكلم العربية فور استيقاظك. فيُقال لك: فنجان قهوة، بسكر أو بدونه؟ شكراً، أودّ عصير البرتقال. هي أربع كلمات من اللغة العربية: طست، قهوة، سكر، نارنج (البرتقال)". مما يبيّن تغلغل العربية حتى في الاستعمال اليومي المتكرّر. ويبرّر ذلك بكونها اللغة الثالثة الحاضرة في اللغة الفرنسية، بعد اللغتين الإنجليزية والإيطالية".
يلحّ المؤرّخ على أن "الأمر ليس استعارة أو تجميلاً، عبر استخدام كلمات من لغة أخرى، لنزوع غرائبي ما، أو لأن الاستعمار الطويل لبعض البلدان العربية، جعل اللغتين الفرنسية والعربية تتبادلان فقط بعض العبارات المعيارية، أو التي تُستعمل غالباً في اللقاءات بين العربي والفرنسي، بحكم الاتصال والتعامل الثنائي".
فالأمر بالنسبة له "يتعلق باندماج كامل لكلمات كثيرة تقدّر بمئات المفردات الشائعة الاستخدام، نتيجة التأثير الطويل الذي مارسته اللغة العربية، بما هي حاملة للحضارة المنتجة للإبداع والعِلم والمعارف المختلفة، التي تتضمنها بطون أمهات الكتب العربية، التي كتبها فلاسفة ومفكّرون وأدباء وعلماء وأطباء عرب، وغير عرب، كانت وسيلة تعبيرهم اللغوية هي العربية، من فرس، ومن ساكني آسيا الوسطى. وأيضاً إثر الحضور العربي حالياً في المجتمع الفرنسي".
الصدفة عربية والأرقام أيضاً
ولو اقتصر الأمر على ذلك، لكان في حدّ ذاته كشفاً جميلاً، لن يرضي حتماً مُناصِري نقاء اللغة وصفائها. بل هي متغلغلة في شتى مناحي الحياة، وفي جلّ ميادين النشاط الإنساني عموماً، أي في "جميع مجالات الوجود حيث نستخدم الكلمات".
هكذا وظّف المؤرّخ طريقتين في اشتغاله العلمي هذا، ما بين الاعتماد من جهة على جرد هذه المجالات التي حدّدها في 26 مجالاً أبرزها، الطعام، والعناية بالجسم، والحياة الجنسية، والعطور، والروائح والنكهات، والأحجار الكريمة، والنباتات والحيوانات، والعلوم، والقياس الكمي، والتجارة، والأسلحة، والأزياء، والألوان والجغرافيا، والمناخ، وأسماء العَلم.
من جهة أخرى، اعتمد المؤرّخ على جرد الكلمات، كل واحدة على حدة، وتبيان أصلها العربي، بشكل مباشر أو مروراً من لغة ثالثة كالإسبانية. هكذا فإن كلمة "hasard" أي الصدفة أو الحظ، التي تبدو بعيدة عن العربية للوهلة الأولى، منبعها هو "الزَهر"، المرتبط بلعبة الدومينو، التي كانت توضع عليها صورة زهرة. وفي عربية المغرب، يقال لشخص غير محظوظ بأن ليس لديه "زْهَر".
وقس على ذلك كلمة "maboul" أي "المهبول". وقد خلّدها شعراً وغناءً المطرب ليو فيري في أغنيته الشهيرة "الصبية الجميلة" عام 1960، في ألبومه الغنائي "بانام"، وهو الاسم الشعبي لمدينة باريس.
"موسلين" أو الموصل
ولا يمكن نسيان كلمة قماش "mousseline" نسبة إلى مدينة الموصل العراقية، والقماش الدمشقي "damassé"، وزهرَتَي "lilas" و "jasmin" مثل الليلك والياسمين، والتنورة القصيرة "jupe "من مفردة "جبّة"، والسرير "matelas" وأصله مطرح... وهذا غيض من فيض.
هي مفردات يُظهر تنوّعها وحيويتها وطابعها الحضاري، إن صحّ التعبير، مستوى من الحضور الذي لا يمكن إلا أن يثير الإعجاب والانتباه، في زمن تتعالى فيه أصوات هنا وهناك، تغبط اللغة العربية ريادتها ومساهمتها العظيمة في بناء الحضارة الإنسانية، جنباً إلى جنب مع اللغات الحيّة الأخرى.
الشطرنج أو الشاه
في مجال الألعاب، لا يمكن إغفال كلمة شطرنج "échec"، إذ إن" لعبة الشطرنج المرموقة، التي ترمز إلى النجاح الناتج عن التفكير العميق، قادمة من كلمة الشاه الفارسية، التي تعني الملك، لكنها وصلت إلينا من خلال اللغة العربية، ولا شك أننا لم نتذكّر ذلك. إذ لم يتم نطق حرف c الأخير، مما جعلها كلمة قريبة جداً صوتياً من كلمة شاه..
وبحسب المؤرّخ الفرنسي، "يبقى أجمل وأعمق ما تركته اللغة العربية في اللغة الفرنسية، ما تمّ اختراعه وتقديمه في مجال الرياضيات، وخصوصاً في علم الجَبر. فالصفر "zéro" وكلمة الرقم "chiffre" متلازمان، ولا يمكننا أن نغفل الرقم صفر، وهو رقم أساسي في أقل حساباتنا، والرقم الصفر من أصل عربي".
يتابع: "هكذا يشكّل الصفر والرقم والبرتقال (النارنج) جزءاً من الكلمات الثلاث التي يتمّ تسليط الضوء عليها باستمرار، في موضوع علاقة العربية بالفرنسية، كلما بدت الرغبة في لفت الانتباه إلى التبادل المثمر بين اللغتين".
ولا بد من الإشارة إلى كلمة عربية شهيرة أخرى هي "algorithme" الخوارزميات، التي تم اشتقاقها من اسم عالِم الرياضيات الخوارزمي، مؤلف أول كتاب في علم الجَبر، وهو بدوره عربي المنشأ.
كتاب لا مناص منه
أُحيط الكتاب حين صدوره باهتمام واسع، وتمّ التعليق عليه وتحليله، لصرامته في البحث والتنقيب، وغناه من حيث المعلومات والمنهج المتّبع، الذي لم يخضع إلا للضوابط التاريخية والعلمية الثابتة والمتعارف عليها.
يقول الباحث فاليريو إمانويلي في مجلة "الدراسات اللسانية التطبيقية" في عددها الـ 185:"بلا شك إنه عمل مؤسّس، موضوعي ومرجعي، وهو في الوقت ذاته ممتع للغاية في قراءته".
يضيف: "لقد بات من الضروري أن نتذكر أن اللغة العربية هي إحدى المكوّنات الرئيسة للغة الفرنسية، وهذا الكتاب مناسب بشكل مدهش. وهو يشكّل حالياً رفقة كتاب آخر جزءاً من القسم المخصّص لتاريخ اللغة الفرنسية، فيما يتعلق باللغة العربية، وهو "الأرابيسك" لهنرييت والتر، ولا مناص من الكتابين".