"الانغماس" الرقمي.. حين يجرفنا الوهج الأزرق

time reading iconدقائق القراءة - 10
رئيس مجموعة قنوات "ARTE" الفرنسية الألمانية الكاتب برونو باتينو. 16 سبتمبر 2022 - AFP
رئيس مجموعة قنوات "ARTE" الفرنسية الألمانية الكاتب برونو باتينو. 16 سبتمبر 2022 - AFP
الدار البيضاء-مبارك حسني

فجر دائم.. لا يتعلق الأمر هنا بفجر شعري أو شاعري، ولا فجر الحرية أو فجر السعادة أو أي مفهوم ذي صيغة تفاؤلية. بل هو فجر زمني لا غير، تلك الفترة التي تعقب الليل، منذ خُلقت الأرض والأكوان. 

المقصود هنا هو أن الليل، ليلنا الذي نروم أن ننعم فيه بنوم هادئ، محفوفين بظلام مريح وغير مزعج، فقدناه، بعد أن صارت سطوة هواتفنا الذكية كاملة، ونور شاشاتها لا يهدأ من الإشعاع، طارداً ظلام الليل، بإرادتنا وبكامل وعينا، ولا نملك أن نحيد عنها. 

هذا هو صلب هذا الكتاب "الانغماس" أو "Submersion"، الصادر في خريف 2023، وهي فكرته الأساسية التي طوّرها صاحبها، وحلّلها على شكل إنذار وتنبّؤ، مُبيناً وشارحاً ومقترحاً. هو برونو باتينو، الكاتب والصحفي الفرنسي، رئيس مجموعة قنوات "ARTE" الفرنسية الألمانية المختصة بالثقافة. 

 الكتاب هو آخر ما صدر ضمن ثلاثية، يُحلّل فيها الكاتب حضارتنا الإنسانية الحالية، ما بعد الثورة التكنولوجية العارمة. وكان نشر قبله "حضارة السمكة الحمراء" عام 2019، وبيعت منه أكثر من 100 ألف نسخة، ودرس فيها البشر الذين أصبحوا بفعل التواصل الدائم عبر الإنترنت، أشبه بأسماك حوض مائي تُجسّده الشاشات. 

أما "عاصفة في حوض مائي" الذي نشره عام 2022، فكشف فيه عن أن الحوض المائي الصغير طالته عاصفة، وتحوّل إلى محيط يتّسع باستمرار، فأدى إلى ضياع السمكة الحمراء. 

 عدد صفحات الكتاب لا تتجاوز 135 صفحة، لكنها مكثّفة، تتناول الأخطار الناجمة عن المحتوى الضخم المتاح عبر المنصّات والشبكات الاجتماعية في المجتمع الرقمي الذي نعيش فيه منذ سنوات، ولا نستطيع الفكاك منه، والذي أصبح جزءاً من حياتنا اليومية طيلة 24 ساعة.

يكتب باتينو مستخدماً لغة أقرب إلى الشعر في الوصف: "ها قد خسرنا الليل. حلّت بيننا الشاشات، وحلّ معها الاتصال الدائم. حلّ وقت الفجر الدائم، من الوهج الأزرق الذي لا ينطفئ أبداً، من الإشعاع الذي لا يخمد قطّ. ها نحن في حالة استيقاظ مستمر، منهكون، منذهلون، منجذبون بشكل لا يمكن علاجه إلى نورها. لم نعد نعيش الأرق المعهود، فقد تحوّل إلى أرق مُلازم، أفسح المجال لحُرّاس لا ينامون، وأنا أحدهم". 

اعوجاج الإبهام من كثرة النقر

ما الذي حدث؟ بكل بساطة وبكامل السذاجة، ظن الإنسان أنه سيحقّق اختياراته حسب مشيئته وإرادته، وستتحقق آفاق ما ينتظره من كل ما هو مُسَلّ وممتع ومفيد. تنثال الرسائل، النصوص، الصور، مقاطع الفيديو، المسلسلات، الأفلام، المقطوعات الموسيقية، لكن الموج يرتفع إلى أعلى أكثر فأكثر، ولا أحد يشعر به، حتى يتحوّل إلى طوفان هادر. 

يورد الكاتب مثالاً من دراسة أميركية حول عملية شراء بسيطة. إذ عندما يكون الفرد أمام خيارات قليلة، كما كان عليه الأمر سابقاً، فهو يجرّبها جميعها، ويختار ما يرى أنه أفضلها. وعند الخيارات اللانهائية، التي تمنحها الشبكة، لا حرية اختيار ممكنة..

يغزو الإبهام الألم من كثرة الاستعمال، منفصلاً عن باقي الجسد، ويغرق الانتظار في اللجج الكبيرة والمتسارعة، وتختفي حرية الاختيار التي يجب استعادتها. "ما وعد به المجتمع الرقمي من وفرة لا تنضب، بدا الآن مشكلة تتطلب حلاً عاجلاً". 

لا نهائي آخر

بعد الشبكة العنكبوتية التي استلبت الإنسان وأغرقته، حلّ طوفان أكبر هو الذكاء الاصطناعي، المولّد للنصوص والاقتراحات والحلول، والمنذور لتعويض النشاط والسلوك الإنسانيين في الميادين جميعها، أكثر فأكثر. 

يقول الكاتب: "كل شيء سوف يتغيّر مرّة أخرى. السؤال القديم في الرياضيات، الذي يستفسر عما قد يحدث إذا أضفنا واحداً إلى اللانهائي، وجد له تجسيداً، بعد أن تبنّته الإنسانية (في خضم اختراعاتها المتعاقبة). هو إضافة محيط يضاف إلى المحيط، ولا نهائي آخر إلى اللانهائي. [..] 

ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي بين عامّة الناس، الذي يجسّد الإصدارات المتعاقبة من "ChatGPT"، يدشّن مرحلة جديدة في حضارتنا". مرحلة من المتوقع بحسب أخصائيين، أن ينجز فيها هذا الأخير المهام كلها التي يقوم بها الإنسان، ومن دون استثناء. فأي مستقبل ينتظر الإنسانية، في ظل أزمة انعدام حرية الاختيار، أي التقلص الكبير لهامش الحرية ذاتها. 

مائة يوم

كثرة العروض على شاشة الهاتف أو الكمبيوتر، تحدّ من حرية الاختيار. لأنها تجعلنا نعرض حتماً على الكثير منها. يورد الكاتب بهذا الصدد: "أثبتت دراسة بريطانية أجريت عام 2021، أننا نقضي ما معدله 100 يوم من حياتنا في تحديد ما سنشاهده.  100 يوم؟ ويجب أن نضيف إليها الأيام التي نقضيها في تحديد ما سنستمع إليه، أو نقرأه، أو نستخدمه، وما إلى ذلك". 

هي حياة من التردّد والسلبية، أي حياة من الحسابات الخاطئة حول الاختيارات من دون حدود، تضيع وتصير هباءً منثوراً لا فائدة منها. بل تُغيّر، بشكل غير محسوس، علاقتنا بالثقافة والترفيه والمعلومات وأشياء أخرى كثيرة. 

إشهارات لا نهاية لها

طوّرت المنصّات والشبكات أدوات رقمية لجذب انتباهنا، وذلك باستخدام التنبيهات، والطلبات المستمرة، لتنشيط نظام تلبية ما يطلبه الدماغ  بشكل أفضل، من خلال "خاصّية إثارة الانتباه التي لا تتوقف، كي لا تتوقّف بدورها الإشهارات والعروض". 

إن حرية الاختيار التي انْبَنَت عليها صروح الحضارة الحالية في توازِ مع مجتمع الاستهلاك وعروضه المتنوّعة، لم يعد محصوراً في رقم معيّن، صارت وهماً أكثر منها حقيقة مُبَرْهَنَة يومياً، كما كانت عليه قبل ثلاثين أو أربعين سنة، الأمر الذي أدى إلى الإصابة بالتعب، وسيادة الملل، والإحساس بالتحسّر والندم.

ويورد الكاتب مثالاً من دراسة أميركية حول عملية شراء بسيطة. إذ عندما يكون الفرد أمام خيارات قليلة، كما كان عليه الأمر سابقاً، فهو يجرّبها جميعها، ويختار ما يرى أنه أفضلها. وعند الخيارات اللانهائية، التي تمنحها الشبكة، لا حرية اختيار ممكنة..

 "سُمْنَة" العروض

يقول الكاتب: "إن "سُمْنَة" العروض تسبّب تراجع الاهتمام أمام عدد الرسائل، وإرهاقاً ينشأ بسبب عدم انتظام وصولها، وإحباطاً بسبب تعقيدها. وتؤدي هذه المظاهر الثلاثة إلى "تعب إخباري"، يغذي بدوره حركتين متناقضتين: الرفض المطلق لتلقي الأخبار، أو اللجوء إلى شكل من أشكال التفكير السحري، الذي يفترض أننا سوف نعرفه كيفما كان في نهاية المطاف".

المحاكاة الخادعة 

لكن ما الذي سنتعرف عليه ونعرفه بالضبط؟ حقيقة ليست هي الحقيقة، وواقع يختلف عن الواقع. إن التعرض الآني، وفي كل لحظة لكم معلوماتي هائل، لا يترك للذاكرة الشخصية أن تنسى، أن تمحو وأن تسجّل ما تودّ تسجيله، كي تُوظّفه فيما بعد بكل حرية.

هذا ما يجعل الفرد يتخيّل ما يرى على غير حقيقته، مثله في ذلك مثل دون كيشوت. "نحن جميعنا دون كيشوت، بعد أن اختنقنا بالكثير من العلامات، ووقعنا في فخّ القنص الرقمي المفرط، وانبهرنا بالصور كلها التي تصل إلينا قبل أن نتمكن حتى من تخيّل وجودها، كما أصابنا الصمم نتيجة الأصوات التي تتبع بعضها البعض في السمّاعات المزروعة في آذاننا، نشاهد الواقع يفلت من أيدينا، بسبب الطغيان العارم للشفوية والانحسار المريع للمكتوب".

يضيف: "لم تعد توجد حدود بين ما هو شفهي وما هو مكتوب، بل تبادلاً للمواقع بشكل غريب، في مواقع التواصل والشبكة العنكبوتية عامة. فالآخر حضور لا يشبه الحضور، لا مكان يحدّده حقيقةً، ولا زمن يعلن عنه واقعاً. موجود وغير موجود في الوقت نفسه".

يتابع: "هو مجرد" قرص صغير، أو صورة مرشّحة، أو كلمات غير مكتملة، أو أجزاء من آثار، أو حتى عندما يأخذ شكل الصورة الرمزية، هذا الذي نستطيع منعه من التكلم معنا، تحويله إلى شبح بنقرة بسيطة". إنه تطوّر خادع لإدراك لا واقعية" هذا الآخر الذي نحادثه. وبالتالي يحدث الذي لا مفرّ منه: العيش في عالم متخيّل، حيث يسود الزيف، ويتم الانتقال من متخيّل إلى آخر، تقف وراءه التطبيقات المتنوّعة.

هكذا يرى الكاتب حصول ما يسميه "مجتمع المحاكاة"، الذي سيتطوّر أكثر مع الذكاء الاصطناعي، بعد أن يصل الانغماس إلى مداه الأبعد. وحينها يصعب تمييز ما ينتجه هذا التطبيق عما ينتجه الإنسان. 

النظر إلى السماء لاستعادة الليل

 إنه انغماس، طوفان، ولأنه كذلك، لا مجال لتجنّبه. بل فقط التقليل من أخطاره، حتى لا يدمّر كل شيء. في هذه الحالة، يوصي باتينو "بعدم الاتكال على التقنية للخلاص من السيل الذي جرفنا، وأن نرفع رأسنا، وننظر إلى السماء، وإلى السحاب، حيث جاء كل هذا الذي وقعنا تحت سطوته".

 فالمصطلح الأساس المعتمد في الشبكة العنكبوتية، الذي يصف كل ما نتوصل به هو "cloud"، أي السحاب في اللغة الإنجليزية، من حيث يأتي مطر من الرسائل والمقطوعات الموسيقية والفيديوهات والأخبار.

برأي الكاتب، "يجب أن تكون الشبكة أرضاً صلبة نقف عليها، وليس أفقاً وسماء غائمة على الدوام، تحدّ من حريتنا، وتحول دون الاستفادة من هدوء الليل. يقول باتينو في الفصل الأخير: "إن أفضل رد على كل هذا هو التمييز بين ما هو صحيح وما هو خطأ، والحدّ من تأثير الخوارزميات" [...] 

يضيف: "يجب تطوير ثقافة التمييز. الحل لن يكون تكنولوجياً، بل يكمن في الإنسان، يجب علينا بوضوح أن نحاول الحدّ من الاعتماد على الشاشات، وحذف التنبيهات والإشعارات، وفرض لحظات لقطع الاتصال نهائياً".

يراهن الكاتب على الفلسفة من جديد، القادرة وحدها على إيجاد حلول لوضع جديد، بتكوين فلاسفة عوض تكوين المهندسين فقط. الفلسفة المرتبطة بالخيال الآخر، بالنظرة الأخرى للأشياء، تلك التي يمنحها الشِعر والحُلم. ويا للعلاقة الوثيقة بينهما وبين الليل..

تصنيفات

قصص قد تهمك