النحت ضد الفكرة المغلقة.. هكذا يرى ناثان دوس الفن

time reading iconدقائق القراءة - 10
النحات ناثان دوس في معرضه بين المفهوم والاستنارة (تصوير: فادي فرنسيس) 15 يناير 2024 - الشرق
النحات ناثان دوس في معرضه بين المفهوم والاستنارة (تصوير: فادي فرنسيس) 15 يناير 2024 - الشرق
القاهرة-شريف صالح

يعي النحات المصري ناثان دوس أنه ينتمي إلى حضارة عتيقة شكّلت الحجر، وشيّدت عمارة حارسة للمعنى، من هذا الوعي يؤسّس مشروعه الإبداعي الذي يتجلى في معرضه المقام حالياً في "قاعة الزمالك للفن" القاهرة.

اختار دوس لمعرضه عنواناً فلسفياً جافاً هو "بين المفهوم والاستنارة". يحيلنا "المفهوم" إلى رغبة في إعادة تعريف الأشياء، واستعادة المعيار والقيمة عوضاً عن حالة السيولة والنزوع الاستهلاكي. بينما يفتح مفهوم "الاستنارة" قوساً واسعاً حول معاني عقلانية وروحانية، تنطلق من إنسانية الإنسان.

كأن المفهوم الأوّل يمدّ الصلة بالجذور، والآخر يتطلع إلى مستقبل رحب يتّسع للجميع. بين هذا المعنى وذاك، جاءت منحوتاته تعبيراً مباشراً عن أفكاره وفلسفته التي لا يخفيها، ولا يتركها لتأويلات غامضة لا تمتّ إليها بصلة. إذ إن ناثان لا يريد فقط أن يقدّم تمثالاً خلاباً مبهراً للعين، ولا يقيم كائناً نحاسياً أو برونزياً في الفراغ، وإنما يوثّق ويثبت فكرة تلحّ عليه. 

هذا ما أكدته الكاتبة والناقدة منى عبد الكريم في تقديمها للمعرض، بأنه يحثّنا على السؤال والتفكير، وأن دوس ينشغل دائماً بالفكرة، ثم ينطلق في التعبير عنها وتجسيدها.

 النظرة الأولى إلى معرضه، تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: من أين تنبع أفكاره؟ سنجد أنها تنبع من الحضارة المصرية القديمة، فهي تمثّل الجذور و"المفهوم" بالنسبة له، وهو في ذلك على خطى النحّات الكبير الرائد محمود مختار.

كما أنها أفكار مضادة لهاجس العصر الحالي وجموده وتشدّده وسيولته، في محاولة للبحث عن أفق أفضل، ورد اعتبار لقيم الاستنارة. وهذا ما يبرّر منحوتاته التي تجسّد شخصيات بعينها، انتقاها بعناية فائقة.

دوس نفسه يعرّف المفهومين اللذين يلخّصان معرضه بالقول: "المفهوم أو الفكرة هي اللبنة الأولى للعمل الفني، وأنا أسعد دائماً بانتصاري للإنسان. أما التنوير فهو تحرّر الإنسان من الوصاية التي جلبها لنفسه".

رحلة الاستنارة

نحت ناثان رأس السِير مجدي يعقوب، طبيب القلوب، وفيما يشبه النافذة أسفل الرأس، كان هناك قلب يتدلى. لا يرتبط الأمر فقط بمهنة يعقوب ودوره الإنساني في شفاء المرضى، وإنما يحيلنا التكوين، وهذا القلب المعلّق في الفراغ، إلى أسطورة مصرية عتيقة، عن وضع قلب الميت في كفّة الميزان، وريشة ماعت (رمز العدالة) في الكفّة الأخرى.

 فلو رجح القلب ذهب إلى النعيم، ولو ثقلت الريشة فهذا يعني أن صاحب القلب لم يفعل خيراً يُثاب عليه. يعزّز هذا الاستدعاء أنه أطلق على منحوتة المثلث الذي يتدلى منه قلب عنوان "الميزان".

كما جسّد في اثنين من البورتريهات، رأس عميد الأدب العربي طه حسين، في مواجهة رأس فيلسوفة الإسكندرية الشهيرة "هيباتيا"، ليخبرنا أن رحلة الاستنارة ممتدّة عبر آلاف السنين، فالاثنان امرأة ورجل، رمزان عظيمان لها. 

وربما لولا "هيباتيا" كجذر أمومي مستنير، لما كان طه حسين أحد الآباء الكبار للحداثة العربية. واختار لهما خامة الجرانيت الأسود الأسواني المعروف بصلابته، ليؤكد قدرة هذه النماذج على مواجهة التخلف في المجتمع، وبقاء مشروعهما الإنساني مهما مرّ الزمن.

تثبيت تلك الرؤوس ونحتها في الفراغ، وفي الذاكرة، ليس مجرد استعادة، بل امتنان، مثلما فعل مع منحوتة "أمي"، بكل حمولتها العاطفية والذاتية، حيث ثبّت رأس والدته السيدة "عنايات" بكل جمال التجاعيد وحكمة السنين، فهي الأم الحضن الأوّل والملهمة، وأول من شجّعته، لذلك يقول عنها: "لو أن بي بذرة من فن، فالفضل كله في غرسها لهذه السيدة". 

من الواضح أن الأم كانت تملك تلك البراعة اليدوية والفطرية في تشكيل الصلصال، لذلك يروي عنها أنه بينما كان يمرّ بوعكة صحية أخيراً، طلب منها أن تصنع له بيديها لعبة من ألعاب طفولته التي كانت تشكّلها بالطين، وظنّ أنها سوف ستشكل له لعبة واحدة على شكل حصان، فإذا بها تنفّذ أكثر من خمسين قطعة، ظناً منها أنه كلما زادت القطع اقترب من الشفاء. 

فكان من الطبيعي أن يرد المحبة بمحبة عبر منحوتة تجعلها مثل ملكات وأميرات الإغريق والرومان، مستخدماً خامة رخام "بيانكو" إيطالي.

نفرتيتي جديدة

بينما تأتي محاكاته لرأس الملكة نفرتيتي، الذي يعدّ أشهر وأجمل منحوتة تركتها لنا الحضارة المصرية القديمة، بمثابة استكمال إبداعي لما بدأه الفنان المصري القديم ويُدعى "تحتمس"، بحسب رؤية دوس، فإن الرأس الشهير لم يكتمل، ربما بسبب ثورة الناس آنذاك على أخناتون وزوجته.

 لذلك استعمل الفنان القديم الحجر الجيري، لكنه رغب في إجراء تغييرات في الوجه، فلجأ إلى "الجص"، ثم التلوين لدمج الخامتين معاً، فكانت المنحوتة بمثابة "ماكيت" استعداداً لتنفيذ نهائي بخامة الكوارتزيت، لكن المشروع لم يكتمل، وهذا يتّضح من وضعية تعشيق تاج الملكة من دون استكمال، وعدم وضوح خطوط الجرافيت.

سواء اتفقنا أو اختلفنا مع تلك الرؤية، فالعمل البديع الذي قدّمه دوس، بمثابة حوار فني مع مبدع عاش قبل ثلاثة آلاف عام، وتلويحة محبّة لتراث الأجداد.

تحضر الحضارة المصرية القديمة في لحظات خاصة بالناس البسطاء أيضاً، مثل مشاهد الرعي والزرع والحصاد، كما في المنحوتة البديعة التي حملت عنوان "مقابلة بين الراعي والفلاح"، أو "صوف وحليب"، و"المغربل" و"الرحايا"، كلها احتفاءات بصرية بمهن ضاربة الجذور في عمق التاريخ المصري، وتجسّد لحظات مفعمة بالكفاح والكدّ، اعتماداً على مهارة اليدين، والصلة المباشرة مع الأرض وخيراتها.

معاني إنسانية

 وعلى الرغم من استثماره في التراث المصري القديم، ونحت وجوه شخصيات بارزة، لا ينغلق المعرض على إطار محلي، وإنما ينفتح على معاني إنسانية إيجابية ومتنوّعة.

 ففي منحوتة "المعرفة" التي تمثّل جسداً ينحني كأنه على ضفة نهر، ويحمل في يده حفنة ماء تتساقط منها قطرات، يقيم العنوان مع الشكل علاقة مجازية، شرحها دوس بالقول: "مصادر المياه كمصادر المعرفة، منها الجاري والعذب والراكد، اسأل نفسك من أيهما تستقي".

 الربط هنا مباشر وقوي، فمثلما الماء أصل الحياة، ولا يقدر البشر على الاستغناء عنه، كذلك المعرفة قضية وجود لا تتقدّم الإنسانية إلا عن طريقها.

غير بعيد عن ذلك، تأتي منحوتات "العقل السليم وتحوّلاته" و"الأمل"، وبغضّ النظر عن الخامات التي يستعملها الفنان، يتشابه العملان في كفاح الإنسان، وفي ذلك القائم الجرانيتي الضخم الذي قد يكون عائقاً أو سلّماً للارتقاء، والحبل الذي يتدلّى رابطاً بين الإنسان في الأعلى والثقل في الأسفل، في كناية بصرية عن ما يمكن للإنسان أن ينجزه، إما ببصيرة العقل، أو بنور الأمل وعدم اليأس. 

منحوتة "قوّة العقل الباطنة" التي يشرحها بقوله "أنت بستاني عقلك"، تعدّ التفاتة إلى الجانب الروحي العميق في داخل كل منّا. وتستمرّ نزعة التفاؤل في منحوتة "القشرة"، التي تصوّر منقار فرخ يغادر بيضته بإصرار، أو "السعادة" التي تجسّد ضفدعاً.

حصاد الشوك

يهرب دوس من المعاني الإيجابية المباشرة، ويرينا الجانب السلبي الذي لا مفرّ منه في تجربتنا الإنسانية، كما في منحوتة "حصاد الشوك"، التي تشبه إنساناً تحوّل إلى شوكة ضخمة أو نبتة صبّار قاسية، وكذلك منحوتة "الحياة جديرة أن تُعاش".

فالعنوان المتفائل لا يعكس تعقيدات التكوين، الذي يحاكي برج اتصالات وسقوط إنسان بجواره على رأسه. هذا البرج يرينا من داخله لحظات إنسانية جميلة، وكأن هذا الذي سقط ـ أو انتحر ـ لم يدرك إلا بعد فوات الأوان، ما ضيّعه على نفسه من لحظات عظيمة.

يعكس المعرض بجلاء براعة ناثان دوس في تطويع خامات مختلفة، مهما كانت صلابتها وقسوتها، ولا يتوقف التنويع عند الخامة، وإنما يشمل في المستوى الثاني، التكوين واللحظات المنتقاة، التي يُثبّت عليها الجسد البشري، وكلها تتميّز بالحيوية والحركة لا السكون، وتعكس مهناً شتى، وكفاحاً ضد الجهل والبطالة والاستهلاك.

على المستوى الثالث، يقيم المعرض تصالحاً بين الجذور والتراث والأصالة، وبين الراهن المعاصر، مثلما مدّ جسراً بين "هباتيا" و"طه حسين" و"نفرتيتي"وغيرهما.

هذه المستويات الثلاثة الخاصة بتنوّع الخامة، وحيوية التكوين، ومصالحة الماضي مع الحاضر، تجعل المعرض فضاء لتلاقي الأفكار، وضدّ أي فكرة أو أيديولوجيا مغلقة، تقود إلى التعصّب والجهل والعنف.

تصنيفات

قصص قد تهمك