شاعر العامّية أمين حداد.. ومحاولة إنقاذ الشعر من العزلة

أمسية لمناقشة ديوانه الجديد "أمطار خفيفة إلى متوسطة"

time reading iconدقائق القراءة - 9
أمسية مناقشة ديوان "أمطار خفيفة إلى متوسطة". 21 يناير 2024 (تصوير: فادي فرنسيس) - الشرق
أمسية مناقشة ديوان "أمطار خفيفة إلى متوسطة". 21 يناير 2024 (تصوير: فادي فرنسيس) - الشرق
القاهرة-شريف صالح

"مطر خفيف إلى متوسط/ ينزل في قلبي ويتجسّد/ على شكل كلام". 

هكذا يقول الشاعر أمين حداد، وهكذا اختار عنوان ديوانه العاشر "أمطار خفيفة إلى متوسطة"، الصادر حديثاً عن دار المرايا، الذي اجتمع حوله في سهرة شتوية في "بيت الشعر" في القاهرة، أصدقاء ومحبّو حداد، للاحتفاء بتجربته الشعرية وديوانه الجديد، برئاسة عمر شهريار.

أقيمت الأمسية في بيت "الست وسيلة" الأثري العتيق، خلف الجامع الأزهري، الذي يعود تاريخ بنائه إلى خمسة قرون، وحمل اسم سيدة قوية الشخصية، عاشت فيه خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر.

هكذا كنا في حضرة العراقة والتاريخ وروحانية الأزهر ومكتباته العتيقة، التي تعود إلى مئات السنين، حارسة على علوم الإسلام ولغة العرب، لكن المفارقة اللافتة، أن ديوان أمين بالعامّية المصرية.

بين الفصحى والعامّية

مما قرأ أمين في الأمسية: "حامل الهوى تعبُ/ يستخفّه الطربُ" من قصيدة أبي نواس الشهيرة، التي اتخذها استهلالاً له، ثم أضاف نصّه على النصّ النواسي: "حامل الهوى شاعرْ/ يستعيذُ بالذكرى/ من غرابة الحاضر".

أي أن الشاعر يستطيع أن يكتب بالفصحى إذا شاء، ويحافظ على الوزن والإيقاع الموسيقي. وهو ما أكده الشاعر بهاء جاهين في تحليله للديوان موضوع الجلسة، مشيراً إلى براعته العروضية.

كما تحدث أمين نفسه، أنه عند كتابة هذا النص تحية للشاعر الفذّ الحسن بن هانئ "أبو نواس"، تأثّر أيضاً بنصوص أخرى لكل من بيرم التونسي وأحمد شوقي، أي أنه يجمع بين النقيضين: العامّي والفصيح، أو بمعنى آخر، لا يقيم جداراً عازلاً بينهما. ورده على ذلك بأن مقياسه في كتابة الشعر ليس اللغة، وإنما صدق الحالة الشعرية والشعورية، وألا تكون مصطنعة.

وريث جبل لبنان

إشكالية أخرى ألمح إليها الشاعر والكاتب سيد محمود في قراءته للديوان، تتعلق بميراث شاعرَين كبيرَين، هما صلاح جاهين (1930 -1986)، وفؤاد حداد (1927 -1985) الذي تعود جذور عائلته إلى جبل لبنان، وأصبح أمير شعراء العامّية في مصر.

جمعت مشتركات كثيرة بين صلاح وفؤاد، أهمّها الصداقة والشعر والدفاع عن العروبة وفلسطين، والموت المبكر دون الستين، فضلاً عن المصاهرة، حيث تزوّج أمين فؤاد حداد من ابنة صلاح جاهين، وامتدّت صداقة الأبوين التاريخية إلى الابنين: أمين وبهاء.

هذا التمازج بين هذين البَيتين جاهين وحداد، شعراً وصداقة ونسباً لأكثر من سبعين عاماً، كان لا بد أن يُلقي بظلاله على تجربة ومكانة بهاء وأمين. أو على تعبير سيد محمود النظر إليهما بوصفهما "أبناء عاملين" في إشارة إلى العرف المصري السائد، بتوريث الآباء مهنهم ومكانتهم إلى الأبناء. وهو ما قد يحجب موهبة الأبناء، ويبخس تجربتهم حقها.

لكن سيد محمود، أكد أن هذا لم يستمر طويلاً؛ فبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً، ترسّخت تجربة بهاء وأمين بوصفهما من أهم الأصوات الشعرية في جيل الثمانينيات.

وعلّق الكاتب طارق فهمي الذي قدّم الأمسية على الأمر قائلاً: "إنه من الطبيعي أن يتأثر أي شخص إذا وجد نفسه يعيش في بيت فؤاد حداد أو صلاح جاهين. بينما ردّ أمين باقتضاب معترفاً بالتأثّر بتجربة فؤاد حداد وصلاح جاهين، وأنه لم يعد ينشغل بهذه المسألة، بمعنى أنه لا يحتاج إلى إنكارها أو تبريرها والدفاع عنها.

موسيقى الديوان

تبنّى سيد محمود فرضية أن تجربة أمين تأثّرت بما حقّقته قصيدة النثر المصرية في ثمانينيات القرن الماضي، التي شجّعت شعراء العامية آنذاك على التخلص من البنية الإيقاعية والتفعيلة الموزونة، وكتابة نص حرّ لا يتقيّد بقالب موسيقي.

هذه الفكرة تحدث عنها باستفاضة بهاء جاهين، الذي قدّم قراءة فنية دقيقة في موسيقى الديوان، ولم ينكر اكتساح قصيدة النثر، لكنه رأى أن أمين يتعامل مع الشعر كاحتمالات كتابة وليس كمذهب معيّن. فأهم ما يميّزه هو استيعاب كل المدارس الشعرية كاحتمالات جاهزة للاستعمال بحسب الموقف الشعري.

جاهين يرى أن رفيق دربه لا يُلزم نفسه بتصوّر مسبق عن الشعر، ولا يتقيّد بقالب موسيقي، ولا حتى بفكرة التمرّد على القوالب، لذلك تميّز الديوان بتنوّع الإيقاعات التي تصنع مظلة ألوان، بتعدد أجزاء الديوان، على حدّ تعبير جاهين.

"ديوان المشي"

كما أشار إلى رغبة أمين حداد في تسميته "ديوان المشي"، لأنه كتبه وهو يمشي في بيته في إيقاع متّصل، رابطاً بين فكرة المشي المستمر، وإنتاج الإيقاع الموسيقي للصور الشعرية.

استقصى جاهين مجموعة كبيرة من الأوزان الموسيقية، وحاز بحر الرجز نصيب الأسد في نحو 27 قصيدة، والخبب في عشر قصائد.. وكلاهما يتميّز بالرحابة والتدفق والدراما، والرمل في سبع قصائد، وهو بحر غنائي، فضلاً عن بحر الوافر، واستعمال شكل الأغنية وسماتها، لكنها ليست أغنية، والتنويع بين التفعيلة والطابع العمودي والرباعيات والزجل.

أي أن الديوان لا يخلص لفلسفة قصيدة النثر، ولا يتحرّر من الموسيقى، بل يفيض بالتنويعات النغمية والغنائية، منها النبر على بعض المقاطع والقفلات.

تواصل التجربة

تحدّث سيد محمود عن شعر فؤاد حداد وإرثه الملهم لقصيدة العامّية المصرية بصفة عامة، إذ أصبح اليوم وريثه أمين حداد، من الأسماء المهمّة والمنتظمة في كتابة قصيدة العامّية، مع صدور ديوانه العاشر، وهو إنجاز ليس بالأمر الهيّن.

ولفت محمود إلى أن أمين منذ ديوانه الأوّل "ريحة الحبايب"، لا يتوقّف عن التجريب والتحوّل. لكنه فجّر قضية مثيرة للجدل تتعلق بترابط نصوص الديوان المقسّم إلى خمسة أجزاء رئيسة، حملت عناوين: التمشيات، الأحضان، كلام في الشعر، كلام أغاني، قصائد الكورونا. ورأى محمود أن النصوص ليست وليدة مرحلة واحدة ومتفاوتة.

وردّ أمين بأنه كتب الديوان كله في مرحلة واحدة، باستثناء خمس قصائد قديمة تعود إلى التسعينيات من القرن الماضي.

في السياق نفسه، رأى طارق فهمي أن تجربة حداد تتميّز بأمرين: أنها ليست دواوين منفصلة، وإنما أحجار في مشروع متكامل، وإن حمل كل منها جماله الذاتي، والأمر الثاني تفرّده النابع من موهبته وثقافته الواسعة.

حرية التجريب

في قراءته الخاصة، أكد سيد محمود على مجموعة ملامح أساسية في الديوان، منها الاحتفاظ بالبنية الإيقاعية والتمرّد عليها، نضج التجربة والشعور بحرية أكبر في التجريب، وهو ما يشير إليه إدوارد سعيد في كتابه "الأسلوب المتأخّر".

كما يتميّز الديوان بحسب محمود، باللعب على التناقضات، وكثرة استعمال مفردات بعينها، مثل الخيال والصورة والمرايا، لتكريس طابع الإيهام وإزالة الحدود بين الواقع والتخييل، وكذلك هاجس المراقبة والمراجعة المرتبط بتأمّل الماضي، وإدراك الشاعر للتغيّرات في حياته. 

كما ربط معنى الخيال لديه بالظنّ والتباس الرؤية، وهو ما يوحي به عنوان الديوان نفسه "أمطار خفيفة إلى متوسطة". وهنا لا ينفصل الخيال عن المشي والحركة والانتقال من حال إلى حال، واللجوء إلى حلول فانتازية للتناقضات.

حالة غنائية

وبحسب سيد محمود، لا ينفصل الالتباس الناتج بين الواقعي والافتراضي عن الحالة الشبحية التي سادت منذ جائحة كورونا. ونفى أن يكون الديوان شعراً ذهنياً؛ نظراً لتوفّر الحالة الغنائية في النصوص. 

واعتبر أن النصوص تنتصر للتناقض وانشطار الذات والخصام مع اليقين، فضلاً عن التعامل مع اللغة العامية بقدر كبير من الفصاحة.

وعقب انتهاء المتحدّثَين سيد محمود وبهاء جاهين، جرت مداخلات للحضور أهمّها ما قاله شاعر العامّية عمرو حسني، المنتمي إلى الجيل نفسه، الذي تحدّث عن ابتعاد الناس عن الشعر، لأن الشعر نفسه ابتعد عنهم. وأشاد بتجربة حداد وقدرتها على أن تعيد الناس إلى حب الشعر، بعيداً عن الغموض أو الاستسهال.

وتخلل الأمسية إلقاء أمين حداد مجموعة من قصائد الديوان ومنها: شكل الحبايب، ومواليد سبتمبر، والانتظار. وتميّزت النصوص بالرهافة والعناية بالتفاصيل، وتثبيت أدق المشاعر الإنسانية والسلاسة في الموسيقى والتخييل.

 في نص "تدخل في نور" يقول: "أحلام بسيطة عادية/ حلم الجسد لذة ما تخلصش/ حلم الحياة عدل ما ينقصش/ والقلب حلمه الحرية".

وفي نص "شاعر يا دنيا" نقرأ: "شاعر يا دنيا راضي ومسلّم/ قاعد قصادك زي طفل صغير/ فتحتي أبواب الكلام/ ح اتكلم/ فتحتي أبواب الغرام/ راح أطير".

كأن أمين حداد بهذه الرهافة والبساطة يرغب في إنقاذ الشعر من الغموض والتكلف والعزلة، ويعيده صوتاً إلى الناس.. وربما يرغب في إنقاذ العالم نفسه، بالشعر لو أصبح مطراً خفيفاً.. أو متوسطاً.

تصنيفات

قصص قد تهمك