ينتمي فن "الحفر والطباعة" إلى قسم الجرافيك في كلية الفنون الجميلة، الذي يضمّ التصميم ورسم الكتب والرسوم الحركية والزخرفة أيضاً.
اشتهر هذا الفن منذ ثلاثة قرون سواء في شقّه التجاري أو الإبداعي، ومن الفنانين الكبار الذين أبدعوا في "الحفر والطباعة" غويا ورامبرانت.
لذلك ليس غريباً أن تتخصّص فيه ثلاث فنانات مصريات هنّ: إيمان حسين، وأماني موسى، وياسمين شاش، جمعهن العمل معاً في الاستديو، وأثمر التعاون بينهن معرض "خطوط حميمية" "lines of Intimacy" الذي احتضنه "أركان بلازا" في مدينة الشيخ زايد.
في تقديمه للمعرض، أكد إسماعيل فايد على اهتمام الفنانات بتخطي الحدود بين العام والخاص، والمجرد والمتجسّد، واختيار وسيط يوحي بالصلابة، وكيف نرى أجسادنا في مواجهة مدينة مثل القاهرة.
كما شدّد فايد على تميّز كل منهنّ بإحساس جمالي وأسلوب خاص، انتهى إلى نتائج متنوّعة ومثيرة.
بصفة عامة تميّز المعرض بالاعتناء بالتفاصيل، والمزج ما بين التجريد والتجسيد، والاهتمام بالقيم اللونية، وتنشيط خيال المتلقي في الفهم والتأويل.
فثمة ابتعاد عن المقولات المباشرة والتكوينات الجاهزة، إلى اللعب على الاحتمالات، سواء على مستوى الخط واللون والتكوين. ولا يخلو الأمر من مسحة غموض وبراءة طفولية. فكل فكرة أياً كانت، تنطوي على تنويعات واسعة في المعالجة البصرية والتشكيلية.
ولعلّ أهم ما يميّز "فن الحفر والطباعة"، أنه يتشكل عند التقاء ضرورات نفعية وتجارية، مع قيم إبداعية وجمالية، من ثم يتطلب جهداً يدوياً كبيراً من الفنان لتنفيذ رؤيته الفنية والفكرية.
لذلك ضحكت إيمان عندما سألناها عن صعوبة هذا الفن قائلة: "الفنون الجميلة عموماً تتطلب درجة كبيرة من التركيز الذهني، والمهارة اليدوية، والتقنية في التعامل مع الأسطح والمواد المختلفة، من أخشاب ومعادن وأرواق ومعدات.. وبالتالي الصورة الوردية للفنان الذي يجلس في الاستديو الخاص بهدوء وأناقة كاملة، لا توجود إلا في الخيال التلفزيوني".
لا شك أن هذا الفن لا يُنافس فن الرسم بصيغته الكلاسيكية المتعارف عليها فقط، وإنما يقدّم حلولاً بصرية وجمالية، تساعد الإنسان ضدّ القبح البصري الذي يحيط به من كل جانب. وبالفعل نجحت الفنانات الثلاث في إنجاز مشروع تشكيلي فريد من نوعه.
وعلى هامش المعرض، كانت هناك دردشة مع الفنانات الثلاث، حول تلك التجربة التي تنفتح على صيغ وعلاقات كثيرة، مع الذات والأهل والأصدقاء والواقع المعيش.
أساطير قديمة
قالت الفنانة إيمان حسين: "عملنا يعتمد على الدمج بين العنصر البشري والعناصر الأخرى، وكيف تتناول كل فنانة عناصرها".
وعما يميّز تجربتها عن زميلتيها أكدت أنه "في مرحلة البدايات كنت مشغولة بالأساطير الإنسانية والحضارات اليونانية والرومانية والآشورية، لكن منذ عام 2017، أصبحت منشغلة بالحضارة المصرية القديمة ورموزها وفلسفاتها، وبالطبع أعالجها بطريقتي الخاصة الملائمة للعصر الراهن".
أضافت: "من هذه الرموز: الكا، والبا، واللوتس، والشمس، والماء.. ولدي لوحة اسمها "رع" كانت مزجاً بين الخشب والزنك، فهي توحي بمركب الشمس".
ونفت إيمان "أن تكون العودة للقديم مجرد استنساخ له، بل على العكس أقدّمه برؤيتي الخاصة، وتمرير ما أرغب في قوله من خلال الشكل. فيمكن القول إن اللوحة هي حوار بيني وبين الشكل والفكرة، وهذا يجعلني أفهم أشياء في حياتي وفي داخلي، وليس مجرد عمل جمالي يستلهم رموزاً قديمة".
وعن أسلوبها في العمل قالت: "أفضّل قوالب "الزنك"، وكانت رسالة الماجستير الخاصة بي تتعلق باستعمال الليزر كبديل للحفر الحمضي. فمثلاً في الطباعة الغائزة نستعمل الأحماض، بلون واحد ثم نطبع الشكل، لكن الليزر يسهّل لنا عملية الحفر بديل عن الحفر اليدوي، وأصبح الإنجاز يتم أسرع وفي وقت أقل".
تقاطع الأفكار
كيف التقت الفنانات الثلاث في معرض واحد تجيب إيمان:" نحن الثلاثة نعمل معاً في استديو "سيبا"، فتقاطعت فترات شغلنا، وتلاقت أفكارنا، على الرغم من أن كل فنانة لها شخصيتها ورؤيتها الخاصة حتى لو كنا نستخدم التقنية نفسها".
حول اختيار عنوان "خطوط حميمية" ومشاركة ثلاث فنانات قالت: "لا ننطلق من موقف نسوي، وإنما من الفن بوصفه طريقة تعبير، وطالما نحن فنانات سيكون لنا طابع خاص بنا".
أضافت: بالنسبة للعنوان، ربما يتصوّر البعض أنه سيجد معالجة بصرية لموضوعات معينة، لكن هناك تنوّع في مفهوم الحميمية، وكيفية تعاملنا مع تفاصيل حياتنا اليومية، سواء في وجود المعنى الحميم أو غيابه".
وأكدت أنه "لا علاقة لذلك بالمنطق الذكوري، ولا قولبة العناوين بطريقة نمطية، وإنما نسعى للوصول إلى كل الناس كي يفهموا طبيعة اشتغالاتنا، وكيفية العمل على قوالب الزنك والخشب، ومصالحتهم على هذا الفن المظلوم نسبياً".
طباعة يدوية
سألنا الفنانة أماني موسى عن طبيعة "فن الحفر والطباعة"، فأوضحت أنه "فن قديم يعتمد على الطباعة اليدوية على قوالب الزنك والنحاس والخشب، باستعمال مواد معينة، وتكون الطباعة بارزة أو غائرة ويتمّ تحبيرها بطريقة معينة. والميزة أنه يعطي خيارات كثيرة جداً للفنان، والآن هناك تطوّر واسع لهذا الفن وفرص للتجريب لم تكن متاحة في الماضي، سواء في استعمال المواد أو التحبير".
وتابعت: "تقنية الحفر تعطينا تنوّعاً واسعاً في معالجة الشكل البصري الذي يحاول الفنان تنفيذه، هناك أشياء كثيرة في النحت والتصوير أساسها فن الطباعة والحفر ثم يكمل الفنان عمله عليه".
فن للجميع
ماذا عن المتلقي وعلاقته بهذا الفن المختلف عن الرسم والتصوير؟ أجابت الفنانة ياسمين شاش: "من أهم مزايا فن الحفر والطباعة أننا نستطيع إنتاج أكثر من نسخة أصلية لأي لوحة، وبالتالي تصبح اللوحة متاحة للمتلقي بأسعار مقبولة جداً".
وأشارت إلى أنه "قبل أن يصبح "الحفر والطباعة" فناً، كانت الفكرة الأساسية نشر أشياء أو أفكار تفيد الناس، وبالتالي كان القالب موجوداً في صيغته التجارية، وهذا أفاد القالب الفني، لأن الأوّل يتطوّر بشكل سريع، فيفيد الآخر جمالياً ويعطي قيمة إبداعية للعمل".
ورأت أن "الحفر" يقدّم معالجات بصرية ثرية جداً عن الرسم والتصوير الفوتوغرافي. وقالت: "أنا كفنانة لن أرسم ورقة الشجر، وإنما لدي تقنية تساعدني في المعالجة البصرية لشكل ورقة شجر".
قلة الإنتاج
حول تفضيل الفنانين للرسم على "فن الحفر والطباعة"، ترى إيمان أن "هذا العمل يتطلّب وجود استديو مجهّز بآلات وتقنيات وأدوات معينة، وخصوصاً أن طريقة العمل صعبة وتحتاج إلى وقت طويل. لذلك لدينا فنانون مختصّون بالحفر والطباعة ممتازون، لكن الإنتاج نفسه قليل لصعوبة توفّر المتطلبات، وعدم وجود استديو مجهّز".
للأسف كان بينالي "الحفر والطباعة" يشجّع الأجيال الجديدة برعاية وزارة الثقافة، لكنه توقّف منذ سبع سنوات تقريباً. كما أن صالات العرض، تفضّل الرسم والنحت، وتتحفّظ على أننا نوفّر أكثر من نسخة للعمل الفني الواحد، تصل أحياناً إلى عشر نسخ، مع ذلك هناك اهتمام عالمي متزايد بهذا المجال، وربطه بالتطوّر التكنولوجي.
ففي الصين مثلاً، توجد مدينة كاملة اسمها "جوان لان"، كانت مخصّصة للطباعة التجارية، وتحوّلت إلى استديوهات لفناني الحفر والطباعة.