شهدت مراسلات الفيلسوف والكاتب الفرنسي من أصل جزائري، ألبير كامو ، الحائز على جائزة نوبل للأدب (1957)، والممثّلة ماريا كازاريس، رواجاً كبيراً، إذ اعتبرها النقّاد من أجمل نصوص الحب والوله في القرن العشرين .. ومثلها شهدت إعادة النشر المتكرّرة لمراسلات الروائي الأميركي سكوت فيتزجرالد، والكاتبة زيلدا.
ليس هذا بالجديد، إذ لطالما حظيت المراسلات والأوراق الخاصة بكبار الكُتّاب، بالاهتمام والنشر دائماً، وخصوصاً رسائل الحب، لأنها الأكثر جاذبية بين المراسلات، وهي تتحوّل إلى نفائس يسعى إلى اقتنائها الأثرياء والمتاحف الكبرى.
لكن السؤال يتعلق بدرجة الصدق في الحب، التي تعبّر عنها الكلمات والجمل، أي في براءة وصفاء البوح عند كتابة الرسالة، والرغبة الدفينة في نشرها مستقبلاً، وبثّها بين جمهور القرّاء، الذي يتحوّلون إلى متلصّصين على حميمية "سرية"، طالما أن مضامين الرسائل تدخل في باب الأمور الشخصية.
بهذا الصدد سأل كاتب افتتاحية الملف المخصّص للموضوع في مجلة "Lire" الفرنسية في عدد (مارس 2024) : "نحن نسبح بسعادة في هذا النثر الوردي [..] إذ إن قراءة بعض رسائل المؤلفين، تُظهر بأنهم عندما كانوا يخاطبون من أحبوهم وعشقوهم، كانوا يستشرفون قُرّاءً لها في المستقبل"..
يضيف: "لكن ذلك لا ينتقص من قيمتها الوثائقية، فهي تتمتّع بمجرد نشرها، بفضيلة ثلاثية، إذ تلقي الضوء على بيوغرافيا الكاتب، وتقدّم لقارئها عملاً أدبياً مميّزاً، وتحوّل العلاقات التي تكون عابرة أحياناً إلى أساطير دائمة".
هنا أمثلة عن علاقات شهيرة خلّدتها رسائل حب متبادلة، توفّر قراءة ممتعة ومفيدة.
كافكا وميلينا: 149 رسالة حب
تعرّف فرانز كافكا على ميلينا جيسينسكا عام 1919 في مقهى براغ، حين عرضت عليه أن تترجم الفصل الأوّل من روايته "أميركا" إلى اللغة التشيكية، فتأسست علاقة حب بين هذا الكاتب، الطويل النحيف الأنيق، الذي كان بالكاد معروفاً، وكان يعاني من داء السلّ، وبين المرأة الشابة الجميلة، المثقّفة والأديبة التي كانت تعيش في فيينا، برفقة زوج كان يخونها باستمرار ويتركها بلا مورد.
كتب لها كافكا 149 رسالة وبطاقة بريدية، 140 منها كُتبت خلال عشرة أشهر، وعدد منها أرسلت في يوم واحد، بين مارس وديسمبر 1920، وبعضها بين 1922و 1923. نشرت الرسائل كلها في كتاب "رسائل إلى ميلينا" عن (دار غاليمار)، لكن لا توجد رسالة واحدة من رسائل ميلينا تم الاحتفاظ بها.
ألبير كامو:"منذ خمسة عشر عاماً لم تشاركيني حياتي فقط، أنتِ حياتي"..
كانت علاقة العاشقين "ورقية" بالأساس، لكن ذلك لم يمنعهما من أن يتعرّف كل منهما على أصغر تفصيل في حياة الآخر. قال كافكا في إحدى الرسائل : "أدرك الآن أنني لا أستطيع تذكّر أي تفاصيل محدّدة عن وجهك. لكن ما زالت تتراءى لي الطريقة التي غادرتِ بها المقهى، مُروركِ بين الطاولات، جسدك، ثيابك".
كان كافكا عاشقاً لملامح وهيئة امرأة ملأت عليه حياته. تُحزنه وتُسعده في الآن نفسه، يشاركها همومها ويقترح مساعدتها في كل أمر، حتى بالمال، فقد كانت تضطر أحياناً للاشتغال حاملة أمتعة في محطة القطار. يكتب لها: "لن أراك الآن، ولا في القادم من الأيام".
أثناء علاقتهما، التقيا خلال زيارتين، في الأولى اكتفى بوضع رأسه على كتفها لحظة، وفي الثانية كتب: "أخيراً، في يوم الأحد سنكون معاً لخمس أو ست ساعات، لن نُكثر من الحديث، يكفي أن نكون صامتَين، نمسك أيدي بعضنا، وننظر في أعين بعضنا".
لحظات قليلة بعنوان الاستحالة، فما لا يتمكّن من تلبيته كافكا، كان يعوّضه على ما يبدو بالكتابة التي كان يفضّلها على الحياة (بسبب مرضه ربما، وربما بسبب قلقه الوجودي).
مي زيادة: "عندما أجلس للكتابة، أنسى من أنت وأين أنت، وكثيراً ما أنسى أن هناك رجلاً أخاطبه، فأكلمك كما أكلم نفسي".
كتب كافكا: "لا تقولي بأن ساعتين من اللقاء أفضل حقاً من صفحتين من الكتابة. نعم الكتابة أفقر، لكنها صافية". قطع كافكا حبل المراسلة بعد أن رفضت ميلينا الانفصال عن زوجها، لكنه ترك كتاباً يشكّل إلى جانب مؤلفاته الكبرى، العالم الكافكاوي الذي سيعرفه القرّاء فيما بعد.
مي زيادة وجبران : كتاب الحب الوردي
حب "ورقي" آخر، ربط الكاتب والأديب جبران خليل جبران المقيم في نيويورك، بالكاتبة والشاعرة مي زيادة، التي كانت تعيش في القاهرة.
لم يلتقيا قط، لكنهما تبادلا رسائل طيلة عشرين عاماً، في بداية العشرية الثانية من القرن الماضي، تناولت آراؤهما الأدب والثقافة، وبثّ كل منهما في الرسائل حبه الذي كان روحياً خالصاً.
نُشرت الرسائل في كتاب "الشعلة الزرقاء"، وفي إحدى الرسائل يكتب جبران:"ما أجمل رسائلك يا مي وما أشهاها، فهي نهر من الرحيق يتدفّق من الأعالي، ويسير مترنّماً في وادي أحلامي، بل هي كقيثارة أورفيوس، تقرّب البعيد وتُبعد القريب، وتحوّل بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متّقدة، والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة".
يضيف: "إن اليوم الذي تصلني فيه رسالة واحدة منك، لهو من الأيام بمقام القمّة من الجبل، فما عسى أن أقول في يوم يجيئني بثلاث رسائل؟ ذلك يوم أتنحى فيه عن سبل الزمن، لأصرفه متجوّلاً في إرم ذات العماد".
كان جبران صوفي الهوى، يتعالى على ألم البعاد وتعذّر اللقاء، فكان شبيهاً لكافكا في التوسّل إلى الكتابة، كي تعوّض مرارة الفقد، وأنتج إحدى أجمل نصوص الحب في الأدب العربي. كتب ذات رسالة :"أفكّر فيك يا ماري كل يوم وليلة، أفكّر فيك دائماً وفي كل فكر شيء من اللذّة وشيء من الألم. والغريب أنني ما فكّرت فيك إلا وقلت لك في سرّي: تعالي واسكبي جميع همومك على صدري [...] وها أنا أضع قبلة في راحة يمينك، وقبلة ثانية في راحة شمالك، طالباً من الله أن يحرسك ويباركك ويملأ قلبك بأنواره، وأن يبقيك أحب الناس إليّ".
تردّ عليه مي غالباً بذات البوح : "عندما أجلس للكتابة، أنسى من أنت وأين أنت. وكثيراً ما أنسى أن هناك رجلاً أخاطبه، فأكلمك كما أكلم نفسي".
جبران خليل جبران: "اليوم الذي تصلني فيه رسالة منك، لهو من أيام القمّة من الجبل".
كان الحب حاضراً بقوّة، لكن اللقاء بين الحبيبين تعذّر، ولا أحد منهما حاول أن يزيل عائق الجغرافيا والمسافة من أجل اللقاء. وهو ما منح للقرّاء صفحات مليئة بالشجن حول الأسباب والمخاوف، التي رافقت علاقتهما وخصوصاً من جهة مي زيادة.
سكوت فيتزجرالد وزيلدا : الحب المدمّر
التقيا خلال حفل راقص عام 1918، وهي السنة نفسها التي شهدت أوّل مراسلاتهما، ودامت حتى عام 1940، عندما توفي سكوت فيتزجرالد. أثمرت السنوات الطويلة، كتاباً أدبياً، يحمل عنوان "عزيزي سكوت، عزيزتي زيلدا" (منشورات روشي، 2024 في الترجمة الفرنسية).
يتضمّن الكتاب إحدى أجمل تجليات قصص الحب المثيرة عبر المراسلة. كان سكوت يعيش حالات يأس قوية تجعله يبالغ في الشرب بشراهة، وكانت تنتاب زيلدا نوبات جنون تضطّرها إلى ارتياد المستشفيات مراراً.
كتب إليها:"كنت تُسمّين تهَوّرك عبقرية. وكنت أنا أتهاوى حتى الحضيض، فأُطلق عليك أي نعت وضيع أجده في الحين. أعتقد أنه لو كان هناك شخصاً قريباً بما فيه الكفاية لمراقبتنا من الخارج، فسيلاحظ الطريقة التي كنا نُعلن فيها عن أنفسنا، وكان لا محالة سيكتشف غرورك الذي يكاد يقارب جنون العظمة، ويتبيّن إدماني المجنون على الشراب".
لكن في الأيام الأخرى، كانا يكتبان ويستمتعان بمباهج الحياة في أميركا وفرنسا. وهو ما انعكس في الرسائل المليئة بالهيام والشعر، تعبّر عن الآلام والقلق الوجودي. أي المشاعر التي يعرفها أي كاتب، يتوق إلى إبداع النصّ الأدبي الأقوى والأروع والأقدر، على تحقيق النشوة والسعادة، وذاك جاء في صالح فيتزجرالد حين كتب رواياته، ومنها "كاتسبي الرائع"، موظفاً زيلدا وحياتهما في قصصه.
أما زيلدا فلم تنل كتاباتها الشهرة، وكان مصير علاقتهما حبّ دمّرهما معاً. كتبت مرّة في نوبة جنون: "الآن، أرى الأشياء بشكل غريب: أشخاص بأذرع طويلة أو ذوي وجوه كما لو كانت محشوة، تبدو صغيرة وبعيدة، أو غير متناسبة فجأة".
أشادت زيلدا بحبها لسكوت في كتاباتها قائلة: "أمر لا يطاق أن يتواجد دائماً شخص يتسلل إلى ذاتك كما أفعل أنا. ليلة سعيدة يا حبي الحنون".
ألبير كامو وماريا كازاريس : الحب السعيد
"منذ خمسة عشر عاماً لم تشاركيني حياتي فقط، أنتِ حياتي".. بهذه الكلمات حيث يتنفّس العشق بقوّة، كتب فيلسوف العبث واللاجدوى ألبير كامو إلى ماريا كازاريس، التي بادلته روح العشق نفسها قائلة: "أنتظر معجزةَ حضورك المتجدّد أبداً" .. وتكتب في رسالة أخرى: "بعيداً عنك، أظن أني سأعيش حياة سيئة.. بعيداً عنك، لا أعرف كيف أعيش على الإطلاق".
يعقّب كامو في تاريخ آخر: "لو كان لي أن أختار بين العالم كله وبينك، لفضلتك على الحياة والجنّة".
يقدّم هذان العاشقان، نموذجاً عن الحب الهادئ والنادر، القائم على تقدير الآخر، الذي استمرّ من سنة 1944 وحتى 1959. شكّلت رسائلهما عالماً متنوّعاً يصف كيفية تحقيق السعادة من دون تدمير الآخر، عبر الإنصات إليه وملاقاة روحه قبل جسده، أو الاثنين معاً.
كتاب "مراسلات" الصادر عن دار (غاليمار) عام 2020، يضمّ 865 رسالة تتضمّن معاني الحب كما يعيشها فيلسوف، يدرك ما تمنحه الكلمات من ألق، حين تتجرّد من ثوب المفاهيم المعقّدة، وتلبس ثوب كتابة العشق الشعري الباطني، كما يجب أن يُعاش وسط الفن والمسرح والمدينة، التي تضجّ بالمتع والأحلام والرغبة في تحقيق الذات.
يكتب كامو لمعشوقته: " أنا سعيد جداً يا ماريا. هل هذا ممكن؟ ما يرتجف بداخلي هو نوع من الفرح المجنون. ولكني في الوقت نفسه، أشعر بالمرارة بسبب رحيلك، وأرى الحزن في عينيك وأنت تغادرينني. صحيح أن ما أملكه منك دائماً له مذاق ممزوج بالسعادة والقلق. لكن إذا كنت تحبينني كما تكتبين، فلا بد أن نحقّق شيئاً آخر [...]
يضيف: "هناك نوع واحد فقط من البصيرة الصافية، وهو النوع الذي يمكن أن يؤدي إلى السعادة. وأنا أعلم أنه مهما كان قصيراً، ومهما كان مهدّداً وهشّاً، فهناك سعادة جاهزة لكلينا إذا مددنا أيدينا لبعض".