في دمياط تلك المدينة العتيقة التي تستلقي على ضفاف البحر المتوسط، تمشّينا أنا والكاتب سمير الفيل، تحيط بنا محال العطّارة والمقاهي والحلويات الدمياطية المعروفة. ثمّة دكاكين عتيقة كأنها هكذا منذ مئات السنين لتصليح الأشياء.
سمير الفيل الذي ظلّ مسكوناً بحارته الصغيرة، وظلت الحارة تسكنه، تراه يتحرّك من ميدان سرور بمحاذاة الكنيسة، وصولاً إلى مقهى "العيسوي" المفضّل لديه، أمام محل "عمر أفندي".
وبينما كنا نسير، استوقفنا أهل الحارة كي يباركوا له فوزه بـ "جائزة الملتقى للقصّة القصيرة"، عن مجموعته "دمى حزينة". أناس بسطاء كأنهم مازالوا عالقين في روايات نجيب محفوظ. كانوا يظهرون ويصافحون بحفاوة ابن حارتهم الذي رفع رأسهم، بينما نُجري معه هذا الحوار:
تعدّ جائزة الملتقى في الكويت أكبر جائزة عربية للقصّة القصيرة، وكنت أوّل مصري يفوز بها، هل توقّعت ذلك؟
هذه هي المرّة الأولى التي أتقدّم إليها، وعندما وصلت إلى القائمة الطويلة توقّعت الفوز بنسبة 50%، لكن مع وصولي للقائمة القصيرة تفاءلت بالفوز، لأن الخبر تزامن مع تاريخ ميلادي في يناير.
المصادفة تلعب دوراً، وكان من الممكن ألا أفوز، وكنت سأشعر بالحزن، لكن يبدو أن الله أراد أن ينصفني. شعرت بفرح كبير بسبب حرص أصدقاء كثيرين على حضور حفل إعلان الجائزة وتهنئتي، من السعودية والكويت وسلطنة عمان ومصر.
نصف قرن يفصل بين أول جائزة حصلت عليها وآخر جائزة؟
صحيح، فأول جائزة حصلت عليها كانت بعنوان "في البدء كانت طيبة"، وظّفت فيها البرديات الفرعونية، سلمني الجائزة الروائي يوسف السباعي، وفي العام التالي فزت بالمركز الأوّل على مستوى الجمهورية عن قصّة "كيف يحارب الجندي بلا خوذة"، والمسابقة نظّمتها الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة، كنا بعد حرب أكتوبر.
هل دفعتك جوائز القصّة القصيرة كي تهجر الشعر؟
أصدرت خمسة داوين شعرية بالعامية المصرية، وزاملت كبار الشعراء في مؤتمرات وندوات مثل صلاح جاهين والأبنودي وسيد حجاب. لكني تركت الشعر تدريجياً، لأني كنت أدخل مسابقات القصّة القصيرة فأفوز.
وحدث أنني كتبت قصّة بعنوان "ساتر"، وأعطيتها للروائي إبراهيم عبد المجيد، الذي سلّمها للراحل عبد القادر القط، رئيس تحرير مجلة "إبداع"، وفوجئت بنشرها. بعدها نشرت لي المجلة نحو 21 قصّة.
ولا أنسى موقف الراحل عبد القادر القط، عندما التقينا في مؤتمر العقّاد الدولي في أسوان، وكان يعرّفني على كبار النقّاد بأنني "أحد كُتّاب مجلة إبداع"، وذلك على الرغم من صغر سني.
بداياتك في القصّة ارتبطت بأدب الحرب على الرغم أنك لم تشارك في الحرب؟
فعلاً لم أشارك في الحرب لأني التحقت بالخدمة العسكرية بعدها بعام، وتمّ تجنيدي في الكتيبة 16 مشاة، وكان قائدها آنذاك المشير حسين طنطاوي.
كانت الكتيبة أبلت بلاء عظيماً في الحرب، ولحسن حظي التقيت بعض أبطالها، واطلعت على تجارب وشهادات مهمّة، سجّلتها في رواية "رجال وشظايا"، ثم رواية "وميض تلك الجبهة"، فضلاً عن أكثر من مجموعة قصصية، منها "خوذة ونورس وحيد"، و"شمال يمين".
هذه التجربة كانت محاولة لتدوين الحرب بطريقة غير تقليدية، حول معنى الشهادة وأشياء تخصّ الإنسان المصري، وبعض النقّاد كتب أنني أوّل كاتب مصري يكتب عن الحرب في ثوب إنساني.
غزارة الإنتاج
هناك من يتّهمك بغزارة الإنتاج القصصي، إذ صدر لك خلال عشرين سنة نحو 25 مجموعة قصصية؟
لا أستطيع تبرير غزارة الإنتاج، هناك كُتّاب لديهم طقوس محدّدة مثل نجيب محفوظ، كما أتذكر أن الكاتب الراحل صلاح عبد السيد قال لي إنه يستحم ويتعطّر قبل أن يجلس للكتابة.
أنا كاتب مزاجي، لا أحدّد أوقات للكتابة ولا للذهاب إلى المقهى، أحياناً أمتلك مادّة لكتابة أكثر من قصّة في جلسة واحدة. يكفي أن يكون بجواري كوب شاي ونجمة تلوح في الأفق وهدوء في البيت، كي أكتب.
ذات مرّة التقيت الشاعر العراقي سعدي يوسف فقال لي: "الفن لعبة وعليك أن تلعبها بمزاج". لذلك لا أكتب إلا وأنا محتشد، وربما تمرّ شهور لا أمسك فيها بالقلم. وأحياناً أكتب مجموعة في شهر.
من يسير في قلب دمياط يرى نسخة مكرّرة من أحياء الجمالية وخان الخليلي في القاهرة، هل تستلهم قصصك من هنا؟
أنا مدين للمقهى بمراقبة الحياة والناس، وبالفعل أغلب قصصي من المناطق الشعبية التي أعيش فيها وأتجوّل في شوارعها. الواقع يمدّنا كل يوم بأشياء لا تخطر على البال، لكني لا أستسلم للنقل الحرفي، بل أقوم بإزاحة جمالية وإعادة التعبير عن الأشخاص والأحداث.
هناك وجوه أعرفها جيداً حضرت في أعمالي، ولأن دمياط مشهورة بصناعة الأحذية، رصدتُ هذا العالم في مجموعتي "صندل أحمر"، ومجتمع الصيادين في "هوا بحري"، والبيئة الشعبية في "حمام يطير". عموماً تظهر دمياط في كل نصوصي، لأنني ألتقي أبطالي في الواقع وأعايشهم، وقد أسخر منهم لكن بحنو.
ألا تحب التجريب والتمرّد؟
أحياناً كنت أتمرّد على القصص الواقعية والاجتماعية. وأميل إلى التجريب كما في مجموعات "لمسات"، و"الأبواب"، و"قبلات مميتة"، حيث فضّلت التكثيف وإسقاط التفاصيل، واستفدت هنا من كُتّاب مثل ناتالي ساروت، ومحمد المخزنجي، وجار النبي الحلو.
ومن دمياط كاتب اسمه يوسف القط لا يفارق مخيلتي، حيث تعلمت منه أن الكاتب الذي يدرك جوهر الحياة، ويمتلك درجة عالية من الشفافية، قد يختبئ داخل ذاته ويصبح ضحية. وهو ما حدث معه حين عُثر عليه ميتاً في ريعان شبابه في حديقة عامة.
المرأة طيبة وشريرة
لو جاز لنا تلخيص عالمك القصصي في كلمات ستكون الحارة والبحر والحرب، ماذا عن المرأة في قصصك؟
لدي قصص كثيرة بطلاتها من النساء مثل "نرجس" و"مشيرة" و "تمر حنة". لا يهم إذا كانت طيبة أو شريرة. قصّة "أم إحسان" مثلاً وهي كانت جارة لنا، كنا نراها تضرب زوجها ضرباً عنيفاً إذا نسي إحضار الطلبات، أو تأخّر. كنا نسكن في بيت جدي حينها، ونسارع لتخليصه منها. وهكذا معظم النساء في النصوص، هي من واقع عايشته مهما بدت غريبة للقارئ الآن.
من يرى الحارة والمقهى الذي تجلس عليه، لابد أن يسألك عن علاقتك بنجيب محفوظ؟
أفادني نجيب محفوظ في انسيابية لغته، ووضوح أفكاره وتحقيق المتعة، وهو يملك عيناً ذكية قادرة على تصوير شخصيات نابضة بالحياة. ولا أجد كاتباً بهذا المستوى إلا كازنتزاكيس اليوناني.
لدى محفوظ نتاج قصصي عظيم، لكن الأضواء اتجهت أكثر إلى رواياته. ولا أنسى عندما دعيتُ من رئاسة الجمهورية لحضور حفل تكريمه بعد فوزه بجائزة نوبل، وأخذني صبري موسى وعرّفني على الرئيس مبارك، وقال له إنني من دمياط.. فسألت مبارك هل كان سيفرح لو فاز بجائزة كاتب عربي آخر غير محفوظ.. فضحك وقال لي "حتى لو فاز بها كاتب دمياطي كنت سأفرح".
هل هناك كُتّاب محدّدين تشعر أنك مدين لهم بالفضل؟
عبد الحكيم قاسم، هو من أفضل كُتّاب السرد في العالم العربي، والكاتب العظيم يحيى حقي، الذي التقيته في دمياط. أثناء السير معه بصحبة الكاتب والصديق محسن يونس، وجّه لنا نصائح أبوية لا أنساها.
كما أفادني بهاء طاهر وإبراهيم أصلان وصبري موسى. لكن يظل معلم القصّة الأوّل هو يوسف إدريس. أتذكر أنني سألت صبري موسى مرّة كيف تكتب قصصك؟ فقال إنه يأتي بخريطة مصر، ويضع يده على أية بقعة عشوائياً، ثم يقرّر السفر إليها، وهناك يجلس على أي مقهى ويخرج بقصّة.
تجربة في السعودية
كانت لك تجربة مهمّة في الصحافة الثقافية في السعودية، ما الذي تبقّى منها في ذاكرتك؟
تعلمت من تجربتي في السعودية أمور كثيرة، منها أن الواقع الصحفي غير الأدبي، كما تعوّدت على الكتابة في أي وقت، إذ لا يجب انتظار الإلهام والوحي. كما تعلمت أنك بالعرق والتعب والجهد تستطيع أن تحصل على مكانة ما.
لا أنسى أننا قدّمنا مع زميلي أحمد سماحة ورشة سرد طافت مناطق كثيرة في المملكة، في القطيف وسيهات والجبيل والإحساء. وقدّمت الورشة أسماء مهمّة للحركة الأدبية.
كما سعدتُ بالكتابة في مجلة "النص الجديد"، بتكليف من علي الدميني، وكانت تجربة في غاية النضج تدعو للحداثة. آنذاك كنت أعمل كمدرّس بين عامي 1991 و1995، لكني اندمجت في الوسط الثقافي وعملت في جريدة " اليوم" مع مبدعين كبار مثل، الدميني وأحمد الملا وحسن السبع وعبد الرؤوف غزال والفنان التشكيلي عبد الرحمن سلمان.
أكثر من نصف قرن وأنت تكتب هل ظلمتك الكتابة؟
من حسن حظي أنه لم يمر ّبي هذا الخاطر.. أكتب لأني أحب الكتابة، فهي تخرجني من مشاكلي وهمومي، أكتب لأعيد اكتشاف ذاتي، واكتشاف الآخر. والقصّة القصيرة فن نبيل، لأنها في حيّز محدود جداً تعبّر عن الحياة كلها بكل تعقيداتها.
لكن بعض الكُتّاب الذي يعيشون خارج القاهرة وأنت بعيد عنها بنحو 200 كم قد يشعرون بالتهميش؟
لم أشغل بالي إذا كنت أقيم في القاهرة أو في الأقاليم. وعلى الرغم من أني بعيد عن العاصمة، لكن الناس تعرفني وتنشر لي. والإحساس بالمظلومية يضرّ الكاتب ولا يفيده، لأنه سيجعله يشعر بالدونية وقلة القيمة.
أخذت حقي كما كتبت بلا زيادة ولا نقصان، وراض تماماً عن مسيرتي ولو لم أحصل على أي جائزة.