يقول المثل الهولندي الشهير "مَن يكتب سيبقى"، ومن أجل البقاء نشأ الأدب والأساطير. أشاد القرآن الكريم بالقلم والدواة."أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النون وهو الدواة، ثم العقل وقال: ما خلقتُ خلقاً أعجبَ إليّ منك".
ينشغل المواطن الهولندي على خلاف الأوروبي بالتوثيق كلياً، معتبراً ذلك هويته الثقافية والشخصية، وأيضاً تعبيراً عن الصداقة والتضامن.
فلو احتفظت مثلاً كمهاجر بأرشيفك الشخصي، ومسودّاتك الأدبية ومستنداتك المالية لدى صديق هولندي، ثم بعد عشرين عاماً احتجت إلى شيء منها، فستجد أنها محفوظة بعناية ووضع جيد، فهو لا يرمي الأمانة ولا يتخلى عنها.
الأجندة.. الأكثر مبيعاً في هولندا
قبل نهاية العام، يشتري الهولنديون "الأجندة"، وهذا عُرف لا بدّ منه، وأكاد أجزم أنه لا يوجد هولندي لا أجندةَ لديه، يكتب فيها كل شيء، حدثاً أم مناسبة عزيزة، أم قائمة اللوازم التي سوف يشتريها غداً.
لا يعطيك الهولندي موعداً مباشراً عندما تتصل به، حتى وهو يعرف أن لا مواعيد لديه في الفترة المعنية، مُردّداً الجملة الهولندية الشهيرة "سأراجع أجندتي وأخبرك"، وهو يُبقيك على الخط منتظراً، بينما يذهب ليقلّب الأجندة.
يبدو ذلك أسلوباً نمطياً، وأحياناً يجده الآخر مملاً (سيستماتك)، ولكن هذه هي الحياة الثقافية والاجتماعية والرسمية في هولندا: الدّقة، الأرشفة، النظام.
الشخصية الهولندية: هي الدّقة القصوى، الالتزام بالمواعيد، الرجوع إلى الأجندة وفقاً للمثل "مَن يكتب، سيبقى".
يقول المواطن الهولندي بيتر فان دايك للـ "الشرق": لم أعطِ في حياتي موعداً قط من دون الرجوع إلى الأجندة، ولم أتخلَ يوماً عن شرائها، وهي كالقهوة بالنسبة لي، لا غنى عنها".
يضيف: "نحن لا نتكلّم عن بلدنا بوصفه هوية شعارات وعقائد، هويتنا الوطنية هي نتاج ثقافي لا سياسي، وعليه، نعبّر عن هويته ثقافياً، والأجندة والأرشيف والتوثيق من هويتنا".
رقيب على شارعه
لم أر هولندياً يتشدّق بالوطنية متفاخِراً ببلده على عادة الشرقيين، ولكن في الجانب الآخر، لديه حرص وأمانة وذود عن وطنه لا مثيل له، باعتبارها رقيباً على الشارع وتطبيق القوانين.
ثمّة شيء لافت في بيوت الهولنديين، إنهم يخصّصون مكاناً أو جداراً يحتفظون به برسائل أصدقائهم، وخصوصاً بطاقات الأعياد والمناسبات، كمكانٍ يعتزّون به.
أهلاً بك في بلد ثقافة الورق
أوّل عبارة يسمعها القادم إلى هولندا هي: "أهلاً بك في بلد ثقافة الورق"، هي ليست جملة تُقال فحسب، إنما هي طريقة عيش ونظام حكومي وشعبي لإدارة شؤون البلد والمجتمع عبر الورق: إرسال الرسائل، طباعة الفولدرات والتعليمات، يسير كل شيء هنا مكتوباً ومؤرّخاً، لا شيء شفاهياً.
عندما تتحدث مع أحدهم هاتفياً عن مشروع ما، يقول لك "حسناً اكتبه"، فعند الكتابة ستقوم بالتأكيد بمراجعته وتطويره، فتبدو جادّاً بعملك.
لا يولي المجتمع اهتماماً إلّا لِمن يكتب مشاريعه ويقدّمها على الورق. وعندما تقدّم فكرة، وبعض الأجانب لدية مَلكة الحفظ، أي يشرح موضوعه شفهياً. لا يُقبل هذا، عليك أن تقرأ من الورق إذاً، وإن كنت تجيد تقديم المواضيع من دون مسودة.
هكذا، نتعرّف على الشخصية الهولندية، بناءً على دراسة معطيات الاهتمام بالكتابة والتعلّق بالورق؛ وهي الدّقة القصوى، الالتزام بالمواعيد، الرجوع إلى الأجندة وفقاً للمثل "مَن يكتب، سيبقى".
لا لثقافة الصدام
لا يشاكس الهولندي مقرّرات الدولة عصياناً وإن لم يتفق معها. وعليه تَندُر وتقلّ الاضطرابات والاحتجاجات في هولندا، مقارنة ببلجيكا وفرنسا. نعم، يتظاهر الهولنديون معبّرين عن آرائهم، ثم ينتهي الأمر فلا يتطوّر إلى حركة احتجاج وصدام، مثل حركة "السترات الصفر" في فرنسا مثلاً.
استطلاعات الرأي عن كل شيء
شكّلت ثقافة الورق حياة المجتمع الهولندي، نحن من الورق وإليه. تعلّم عقلية الورق التفكير وتطوير الذات والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية.
تقوم الصحف الهولندية الوطنية والمحلية والمنظمات الشعبية، بحملات استطلاع الرأي، وهي تكاد أن تكون أسبوعية، وعن كل شيء، عن موضوعات لا تخطر على بال أحد، مثل الأكل، والملبس، وحالة الجو، وغيرها الكثير.
مم يخاف الهولندي؟
كان أشهر استطلاع وطني هولندي هو: مِمّ يخاف الهولندي؟ وجاء الجواب، ليس الخوف من الإرهاب أو التفجيرات أو الدهس أو حتى الموت، بل من الغرق أوّلاً..
نستشرف من الاستطلاع فوراً، أن هولندا مهدّدة بالغرق، وهي كذلك، ويقال ستختفي الأجزاء الشمالية منها تحت البحر، مقاطعة "خروننكن".
تذكّر نتيجة الاستطلاع بكارثة الفيضان الوطنية عام 1954، حيث تعرضت هولندا إلى فيضان راح ضحيته البشر والحيوانات والزرع، بسب انهيار سدّ "أوترخت".
اللافت أيضاً، أن الإرهاب والتفجيرات جاء في المرتبة العاشرة في الاستطلاع الهولندي، وكان ذلك صادِماً لأحزاب اليمين، لجهة محاولة استثمار الخوف من الأجنبي والمهاجرين.
إذا كان تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام، فتاريخ هولندا برمته، هو السيطرة على الفيضانات ودرء الخوف من الغرق، ما أكسب هولندا خبرة ممتازة في تجفيف المستنقعات وبناء السدود والقناطر.
وعليه، قامت الشركات الهولندية بمشروعات بناء السدود والقناطر، وهي الأفضل في العالم في ذلك، ومن مشاريعهم الكبيرة في المنطقة العربية: النهر الهولندي في الناصرية- العراق، ولديهم فيديوهات ملوّنة وصور عن الناصرية، لا يمتلكها أبناؤها، كذلك خرائط تفتقر إليها بلدية المدينة.
صور وذكريات مع الراحل زايد آل نهيان
قامت شركة "زانن فرستوب"، ببناء كورنيش أبوظبي عام 1966، ولديها صور وذكريات مع الراحل الشيخ زايد، وسلايدات وصور عن الحياة الاجتماعية في دبي وأبوظبي، كذلك عن معالم جغرافية، أزيلت الآن.
قام الهولنديون بتأهيل ميناء مدينة أغادير المغربية بعد زلزال 1960. وهكذا، حوّل الهولنديون الخوف من الغرق، إلى خبرة وشهرة دولية. مع العلم أن الهولنديين استخدموا الغرق الذي يخافون منه، وسيلة لطرد الاستعمار الإسباني من بلادهم، وعندما أغرقوا البلد انسحب الإسبان بسبب الفيضان.
القصيدة الجميلة هي بيت واحد جميل
استطلاع ثقافي قام به الهولنديون، يشي بذائقتهم الشعرية، وهو السؤال التالي: كيف نعتبر المجموعة الشعرية جميلة؟ كذلك القصيدة الشعرية؟
نتيجة الاستطلاع جاءت طريفة على هذا النحو: "تُعتبر المجموعة الشعرية جميلة وإن ضمّت قصيدة واحدة جميلة، أما القصيدة الجميلة، فهي ذات بيت واحد جميل".
هناك رأي شائع أن هولندا ليست بلد الشعر، إنما بلد الفن. وبالمناسبة، فإن شعراء الحداثة، مثل لوسي بيرث، وباول فان أوستاين وسواهما، انضمّوا في وقت ما إلى جماعة "كوبرا" الهولندية الشهيرة، بوصفهم شعراء رسامين، وانجذاباً إلى سمعة ومركزية الحركة في المجتمع، بمعنى أن الرسم طغى على الشعر الهولندي، مقارنة بفرنسا وألمانيا.
ماضٍ لا ينبغي التنصّل منه
لا يخجل الهولنديون من ماضيهم الاستعماري، بل قام رئيس الوزراء "روته"، بالاعتذار عما أسهمت به هولندا لجهة "تجارة العبيد". هناك استطلاع عن "الشارع الأحمر" الذي شيّده البحّارة في منطقة وسط أمستردام "دي فال"، أي "الجرف" في القرن السادس عشر.
اختلفت الآراء فيه ما بين اعتباره عاراً على مدينة أمستردام وينبغي إزالته، وبين مَن وصفه تاريخاً شاهداً على حقبة زمنية انقضت، مطالباً بالاحتفاظ به، قائلاً: لماذا لا نحتفظ بشيء كان مخجِلاً في تاريخنا؟ إنه يذكرنا كم كان التاريخ ظالماً ومهيناً لنا، لكي لا نصاب بالغرور، والتشدّق بالوطنية".
شغف بالبحوث والصيانة
فضلاً عن استطلاعات الرأي، يقوم الهولنديون بشكل دوري بالبحث عن حالة الجسور والأنهار والشوارع والإنارة، هم من أكثر الشعوب الأوروبية حباً وتعلقاً بالبحث والتقصّي، والصيانة الدورية.
في هذا السياق، أجرت بلدية أمستردام بحثاً عن وسط المدينة، خلص إلى أنه سينخسف جراء جولات السياح. وعليه، كلّفت البلدية جمعيات باستطلاع رأي المواطنين لمعرفة آرائهم حول الموافقة من عدمها، فيما يتعلّق بتأجير الغرف والمنازل، وجاءت النتيجة مثيرة بممانعة الغالبية من استقطاب السياحة، ما أجبر بلدية أمستردام على الالتزام بذلك.
المُهاجر والأجندة والتوثيق
يضيق المُهاجر بشكل عام ذرعاً بأسلوب المخاطبة بالرسائل، كما لا يحتفظ بالأرشيف، وذلك ربما بسبب ضيق مساحة بيته، أو نتيجة إحساس التنقّل والهجرة، أو لعله لا يحبّذ ثقافة الورق بشكل عام، بينما هناك مَن يوثّق ويكتب في الأجندة حتى مشترياته المنزلية، أسوة بالهولنديين، ولكن لم يصل ذلك إلى اعتباره ثقافة والتزاماً.
يبقى السؤال: كيف سيكون مزاج المواطن الهولندي وشعوره العاطفي تجاه ثقافة الورق في زمن الديجيتال؟ وكأنّي بلسان حالهم يقول، وداعاً لفروسية الورق.