ليس بالأمر المفاجىء أن تكون الصين، بلاد الفلسفة والحِكَم الشهيرة، التي تروم تحقيق الاستقرار والسعادة في الحياة، وذلك في ظل وجود حكماء، مثل كونفوشيوس ولاو تزو، وآخرين دبّجوا كتباً بهذا الصدد.
وما يثير الدهشة، وجود كتاب يعدّ أهم أطروحة عسكرية منذ القرن السادس للميلاد، ألّفه حكيم صيني، ووضع فيه حِكَماً ونصائح ذات طبيعة حربية، كما استطاع أن يُقنع جنوده بأن الحرب فكرٌ وفن، وليست قتالاً ودماء.
إنه الجنرال الصيني صن تزو، أو صون وو، بحسب الموسوعة الصينية "بيدو"، الذي قام بتحليل عميق لكيفية إدارة الحرب والانتصار فيها.
كان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، أي قبل 2500 سنة. وهو أوّل كتاب في الاستراتيجية الحربية عرفته البشرية. كتاب ألهم مؤسّس الصين الحديثة ماو تسي تونغ. وما تزال تُطبّق تعاليمه إلى اليوم، وعلى نطاق واسع، ليس في الميدان الحربي وحسب، بل في مجال التسيير والإدارة أيضاً.
قوّة الصين
يعتقد الباحثون، أن قوّة استراتيجية الصين الحالية مستوحاة من هذا الكتاب، ومنهم المحلل السياسي الفرنسي باسكال بونيفاس. تجدر الإشارة، إلى أن أول ترجمة معروفة للكتاب، قام بها الراهب اليسوعي الفرنسي جان ماري أميو، الذي عاش في الصين في منتصف القرن الثامن عشر.
سرّ الانتصار
هكذا يعلمنا "فن الحرب" بأن سرّ الانتصار، هو معرفة الذات ومعرفة الخصم قبل كل شيء. لم يكن صن تزو إنساناً حالما ولا غارقاً في النظريات، بل كان جنرالاً وعسكرياً، ومن تجربته استقى مبادئ وصاياه الحربية.
لقد طبّق مقولة الطاوية، ومفادها أن "سيولة الماء تدكّ صلابة الحجر". والمنتصر هو من لا يستقر ولا ينتظر، بل الذي يتحرّك باستمرار، عبر تحصين الدفاع، الذي يعدّ أفضل طريقة للهجوم.
فِكر الحرب
فكرة الكتاب الأساسية أن الحرب أمر جاد يجب التجهيز له، ليس بالتزوّد بأعتى العتاد وأشجع الجيوش فقط، بل بالإعداد النفسي والعقلي والتنظيمي أيضاً، أي إعمال الفكر قبل كل شيء. فالمعارك وحدها لا تحقّق الانتصار.
نقتطف من الترجمة الفرنسية ما يلي: "إن عدم التفكير بجدية في كل ما يتعلق بالحرب، هو لامبالاة مذنبة تجاه الحفاظ على أعز ما نملكه، وتجاه أهمية ما يمكن أن نفقده، وهذا ما لا يجب أن يحدث إطلاقاً. وإذا أمكن تجنّب الحرب، فذلك أفضل. الانتصار في جميع المعارك ليس هو أفضل شيء؛ التميّز الأسمى يكمن في الانتصار من دون قتال".
مجيء كالريح وذهاب كالبرق
يشرح صن تزو نظريته المعتمِدة على الاستراتيجية وليس على التكتيك وحده، وذلك في 13 فصلاً، تفسّر تدريجياً ما يتوجب فعله قبيل وأثناء وبعد المعركة الحربية، عن طريق وضع مبدأ أساسي أمام الأنظار عشية بداية المعركة، مفاده تجنّب إطالة أمدها ما أمكن:،الهجوم بسرعة مفاجئة لا تبقي ولا تدر، وإدارة القتال في أقل وقت ممكن، بمعنى الاقتداء بخصوصيات الريح والبرق لجهة السرعة.
وللوصول إلى هذا المبتغى، يتطلب الأمر استحضار خمسة أمور. العقيدة، أي وحدة الفكر والمصير تجاه الموت والحياة بالنسبة للضباط والجنود على السواء. الزمان، ويعني به المناخ وحالة السماء، وإدراك تأثير البرودة والحرارة، وتواتر الظلام والنور.
المكان، ويقصد به الأرض حيث ستجري المعركة، بالوقوف على أهمية الأبعاد، والاتساع والضيق، وما يبقى وما يتلاشى بسرعة. ثم القيادة، وتتعلق بالقائد الذي ينبغي أن يكون شجاعاً وحازماً، وويحب مرؤوسيه ويساوي بينهم.
أخيراً الانضباط، وهو معرفة كيفية تقسيم وحدات الجنود وتنظيم الأدوار، بشكل يفرض تناغماً لا يتعرّض مع الخضوع للأوامر لأي اختلال. كما يحقّق "الرضى بالتنفيذ واحترام الواجب المفروض".
الانتصار في الحرب
بعد التأكّد من ضبط هذه العوامل الأساسية، يجب التحلي بفضيلة التستّر، بهدف خداع العدو بمباغتته. وذلك بإيهامه بالعجز، والتواجد بعيداً في حالة القرب، وقريباً في حالة البعد، وعدم الانكشاف أمامه، والتحلي بالسرية التامة بما يضمن أفضل فرص النصر.
هذا الأمر يصبح أكثر فائدة، حين يتوفّر لدى من يخوض الحرب، حسن تقييم للذات وللآخر المواجه. وهذا يتأتّى بدقة المعرفة بخصوص توقيت الدخول في القتال أو الإحجام عنه، وكيفية قيادة الجنود بغض النظر عن عددهم، وتوخّي الحصول على الإمدادات الكافية للمواجهة.
كل هذه العوامل والمعارف، هي الكفيلة بالوصول إلى ما يودّ صن تزو أن يُفهمنا إياه، والكفيل بجعل "القائد الجيد يربح الحرب حتى قبل أن يخوضها".
إنها بصورة أخرى، استراتيجية المعلَن والمخفي، وتملّك القدرة على الموازنة بين إعلان ما يمتلكه القائد من قوى لردع العدو، وإخفاء القوى التي تسمح له بهزيمته.
وكم تتجلى هذه النظرة للحرب، جد راهنة، مع ما نشاهده اليوم من صراعات بين القوى الكبرى. إن الأمر يعتمد على الشك، الذي يصير حليف المحارب حين يزرعه في ذهن عدوه. الشك يجعله يضطرب، مما سيسهّل اختراقه.
ما العمل عند نشوب الحرب؟
يوصي صن تزو بالتواجد قبل العدو في ساحة الوغى. وبالتالي، اختيار الأرض المناسبة لجهة التضاريس والمناخ والموقع، واختيار التوقيت المناسب، وحساب كل ممكنات الكسب والخسارة على المستوى النفسي والسلوكي.
حينها يسهل فرض شروط المعركة، تفاديا للوصول المتأخّر، الذي يفرض بالضرورة التعجّل والتسرع، وتجنّب انعدام الثبات الذهني والعملي. كي لا تتضاءل فرص النصر.
بعدها، يأتي توظيف المناورة كتكتيك، عبر تفادي ارتكاب الخطأ لتفادي التسبّب في الهزيمة. يجب انتظار خطأ العدو أولاً، وتوفير السبل كي يرتكب ذلك، حينها "سيكون مهزوماً بالفعل".
الخطأ فجوة يتسلل منها الجيش "كقوة مائية متفجّرة من الأعالي نحو الأعماق السحيقة". ويأتي هذا الهجوم المباشر إثر الهجوم غير المباشر الذي اعتمد سابقاً، على الخداع والمداراة والتخفّي، وإظهار الوجه غير الحقيقي.
الذكاء العملي والتجسّس
ولأن القصد ليس كسب معركة واحدة، بل الحرب، يحضر الذكاء العملي بقوّة. ويخصّ تقوية الجبهة الداخلية، واختراق الجبهة الخارجية حيث يوجد العدو. وذلك بعدم نسيان العدل في تقسيم الغنائم والمكافآت، والتقليل من المعارك مخافة الاستنزاف، وعدم إذلال العدو، بل استمالته وجعله مطواعاً كي يكون جزءاً من خطة النصر.
لكن الأهم هنا هو حتمية الانتصار النهائي، بالنسبة لصن تزو، وبقدر كبير في القدرة على التواجد في معقل العدو، عبر توزيع العيون وتقصّي الأخبار، من خلال آلية التجسس، التي خصّص لها الفصل الثالث عشر والأخير من كتابه.
يقول في كتابه: "إن العنصر الذي يُعيّن الحاكم الحكيم، والقائد العسكري المحنّك، على تنفيذ الضربات القوية وتحقيق النصر، التي لا يمكن للرجال التقليديين تحقيقها، هو المعرفة المسبقة بأمور العدو".
والمثير للانتباه هو مدى صحة ما يقوله صن تزو عن الجاسوسية والجواسيس، حتى لكأن الأمر يتعلق بعصرنا الحالي.
وبقدر ما يجب مكافآتهم بسخاء ومصادقتهم حد الحميمية، بقدر ما يجب الاحتراس منهم. فهم وبحكم طبيعتهم، دائماً ما يتعاونون مع من يدفع أكثر، لذا لا يجب أن يعرفوا أكثر مما ينبغي، إذ يمكن أن يكونوا عملاء مزدوجين أو ينشقوا عليك".