المدّاحون الشعبيون في مصر من الازدهار إلى الاندثار

time reading iconدقائق القراءة - 13
حفل إنشاد ديني في قلعة صلاح الدين في مصر. 2021 (تصوير : فادي فرنسيس) - الشرق
حفل إنشاد ديني في قلعة صلاح الدين في مصر. 2021 (تصوير : فادي فرنسيس) - الشرق
القاهرة -شريف صالح

بينما يؤدي نحو مليوني مسلم مناسك الحج، تتردّد الأغاني والمدائح الدينية، تحتفي بالأماكن المقدّسة وتمدح تراثاً عريقاً يعود إلى 1500 عام، بدأ مع شعر حسان بن ثابت وكعب بن زهير، ثم بردة الإمام البوصيري، وصولاً إلى أشعار أحمد شوقي.

وبعيداً عن كلاسيكيات المديح، اشتهر في الدلتا والصعيد المصري مغنّون ومنشدون، يمثّلون مدرستين كبيرتين:

في الدلتا اشتهر المغني الشعبي محمد طه برغم أصوله الصعيدية، وعبد المعبود الطنطاوي، والعربي فرحان البلبيسي، وشرف التمادي، وفي الصعيد ياسين التهامي، وأحمد التوني وأحمد برين، وعبد النبي الرنان.

يميل مدّاحو الدلتا والوجه البحري، إلى رواية القصص الشعبية، التي لا تخلو من عظات، على طريقة الحكواتية والقوّالين قديماً. كما يسهل العثور على مدّاحات في الدلتا، مثل خضرة محمد خضر، وفاطمة سرحان، لكن الصعيد غالباً لا يسمح بذلك.

 ولعل التجربة الرسمية الوحيدة لتوثيق تجارب هؤلاء، قام بها الراحل زكريا الحجاوي (1915 ـ 1975).

الإنشاد طبقات

نحن إزاء خلطة فريدة على ثلاثة مستويات، الأول: مزج ما بين الفصحى والعامية، فتجد كلمات ابن الفارض والحلاج مع تعبيرات عامية وأمثال دارجة.

الثاني: يختصّ بحضور أو غياب الموسيقى، إذ يعتمد المدّاح على آلات شرقية بسيطة، مثل الإيقاعات عند برين، أو المزمار البلدي مع محمد طه.. بعضهم ينشد من دون موسيقى مكتفياً بالصوت البشري، مثل نصر الدين طوبار. في حين تمرّد النقشبندي وأنشد بمصاحبة الموسيقى كما في "مولاي إني ببابك" لحن بليغ حمدي، ومحمد الطوخي في "ماشي بنور الله".

هناك عدد من المطربين ليسوا مدّاحين، لكنهم برعوا في الأغنية الدينية، مثل أم كلثوم في قصائد شوقي و"القلب يعشق"، وعبد الحليم في أدعيته، وليلى مراد صاحبة "يا رايحين للنبي الغالي"، وبعضهم تخلى عن الغناء العاطفي، واكتفى بالديني مثل ياسمين الخيام مغنية "أم النبي"، والكحلاوي مغني "لأجل النبي".

أما المستوى الثالث فيتمثل في المزج بين أغاني دنيوية ودينية. تجربة محمد طه مثلاً، لم تنفصل عن الأحداث الاجتماعية والسياسية، ونجد من لديه مواويل للعمّال والوطن والقضية الفلسطينية، إلى جانب المديح الديني ورواية القصص الشعبية، وكذلك محمد العجوز في الصعيد الذي قدّم المدائح والأغاني العاطفية الشعبية.

وبينما تبثّ القنوات أغاني المطربين المشاهير، كان رأسمال المدّاحين هو جمهورهم ومحبّيهم، يذهبون إليهم في القرى والنجوع.. وكانت الناس تتبرّك بالمدح الديني في مناسباتهم المختلفة، كالأعراس والإنجاب، ولا يتطلب سرادق الحفل أي تكاليف مُبالغ فيها.

"شيخ المدّاحين"

خلال الأيام الماضية، بثّت قناة الوثائقية فيلماً عن أحمد برين بعنوان "شيخ المدّاحين"، كتابة الشاعر محمد المتيم، سيناريو وإخراج محسن عبد الغني.

هي المرّة الأولى التي توثّق فيها تجربة أحد المدّاحين الكبار، والتطرّق إلى محطات حياته، منذ أن اكتشف أنه كفيف البصر، وأصغى إلى الإيقاعات حوله، ثم التحاقه بـ "الكُتّاب" لحفظ القرآن الكريم، والخط الإنشادي الذي اختاره لنفسه، فهو يمزج ما بين الغناء الشعبي والديني، وأحياناً الموشّحات، لكنه احتفظ بروحانيته، واعتمد بشكل أساسي على فرقة محدودة تضرب على الدفوف والإيقاعات. 

استضاف الفيلم مجموعة من الكُتّاب والباحثين وتلامذته، وكذلك ابنه وابنته، لكن اللافت مشاركة المنتج الفني آلن فوبير، الذي التقى برين بالصدفة، في مولد أبي الحجاج الأقصري في أقصى صعيد مصر، وكان مهتماً بالموسيقى العربية، والتجارب النوعية، وأعجبه أسلوب برين، فنشأت بينهما صداقة وتعاون فني منذ عام 1980. 

كان فوبير سبب وصول برين إلى العالمية، وأنتج له أسطوانات عدّة، واستضافه في مهرجانات غنائية في فرنسا والمغرب وعديد البلدان. وتحدث عن إعجابه الشديد بأسلوب برين، الذي يتميّز بالسلطنة والمشاعر العميقة التي تلمس أي مستمع.

سألنا الشاعر محمد المتميم كاتب الفيلم: لماذا برين؟ فأجاب: "إنه أحد سادة الإنشاد الديني في صعيد مصر، حقّق حضوراً ساطعاً في دول أوروبية عدّة، واستضافه التلفزيون الفرنسي قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وأعمل على إصدار كتاب يتتبّع مسيرته الفنية وتجربته الفريدة منذ أربع سنوات".

أضاف: "أذهلني أن الرجل الذي أحيا مئات الحفلات في فرنسا وإيطاليا وهولندا والمغرب وغينيا بيساو، لم تحفل المؤسسة الفنية والثقافية الرسمية بتوثيق منجزه أو أرشفته، لم أعثر على حوار صحفي واحد أجرته معه صحيفة مصرية، والمقالات التي كُتِبَت عنه أغلبها يحمل معلومات مغلوطة ومضللة.

تابع: "تخيل إلى أي مدى نحن مقصّرون بحق المادة الخام للإبداع المصري. من هنا كانت ضرورة فنية وإنسانية بالنسبة لي، الانكباب على تجربة الرجل وإعادة تقديمها بالشكل اللائق".

أسباب التراجع

هل دولة الإنشاد والمديح ما زالت مزدهرة أم في طريقها إلى التلاشي والاندثار؟ ليس تعبير "دولة" من قبيل المجاز، لأننا نتحدث عن فن وتراث وثقافة أثّرت في الملايين على مرّ السنين.

يجيب المتيم: "إذا كان النقّاد القدامى أجمعوا على أن الشعر هو ديوان العرب، فالإنشاد الديني بمختلف تجلياته في مصر هو ديوان الوجدان الشعبي. عرف المصريون الإنشاد منذ أجدادهم القدماء، وطوّروه مع تطوّر العصور، عبر دمجه بالثقافات الوافدة عليهم مسيحية وإسلامية، وأدخلوا على هذا النسيج الديني قيمهم الخاصّة وتوقيعاتهم الحضارية، وخرجوا بالإنشاد الديني من المعبد/ الكنيسة/ الساحة، ليُصبح طقساً في الأعراس، وفي استقبال العائدين من موسم الحج، وعند وفاء النذور وتحقّق الأماني ونجاح الطالب وعودة المجنّد من على الحدود (نعمل ليلة لأهل الله)".

لكن لماذا يشعر من يتابع تلك الفنون الفطرية أنها تكاد تندثر، يجيب: "بكل أسف، هذه الظواهر الفنية الحضارية آخذة في الانحسار، في ظل التوغل التكنولوجي على القرية المصرية، الذي لسنا ضده بحال من الأحوال، إلا حين يسلب تلك القرية أو هذا المجتمع زخمهما الفني لصالح اختراع لقيط، اسمه "دي چي"، يفتقر لأبجديات الفنون من التلقائية والتفاعل اللحظي، ويتحكّم فيه عبر الضغط على لوحة مفاتيح خرساء".

ويؤكد أن "شمس الفنون السماعية الشعبية المصرية في مجملها آخذة في الأفول، من جهة بسبب أن البيئة التي أنتجت برين والتوني وياسين التهامي وغيرهم لم تعد هي البيئة، ومن جهة أخرى لأن المؤسسة الرسمية غير معنية بالأمر على الإطلاق، ومن جهة ثالثة لأن قيمة الإخلاص للفن، التي تكرّس الزهد كثيمة رئيسة في شخصية الفنان الشعبي، تآكلت بفعل الضغط الاقتصادي والتطلعات الطبقية".

يقول: "هذا مشروع لكل فنان، فأنت من زاوية لا تستطيع أن تضمن له دخلاً محترماً عن إحياء الحفلات في القرى، ومن زاوية أخرى لا تستطيع أن تطلب من كل فنان شعبي أن يتبنى الموقف النفسي لأحمد برين، الذي تمرّد على البوفيه المفتوح في باريس، طالباً منهم "حتة جبنة وكِسرة عيش" (خبز).

"فين طريقك فين"

من يتابع أغاني المدّاحين، يكتشف أن بعضهم يخرج على نسق الإنشاد، فيؤدي أغنية شعبية أو عاطفية، مثلاً للشيخ شرف التمادي، تسجيل يغني "فين طريقك فين" لعبد الوهاب، ولأحمد برين، أداء لافت لموشّح "يا غصن نقا مكللًا بالذهب"، وهناك سجالات غنائية بين برين وتلميذه محمد العجوز، الذي خلع جلباب الإنشاد الديني، واتجه لأغاني عاطفية شعبية مثل "أشكرِك".

كان برين منزعجاً ظناً منه أن العجوز يطلب الشهرة والمال والدنيا وليس الزهد. ويومها قال له "عايزينك" كما يقول لـ "الشرق" الروائي أحمد أبو خنيجر، أحد الباحثين القلائل المهتمين بتراث الإنشاد.

يضيف أبو خنيجر: "هذه الجملة التى قالها برين لتلميذه محمد العجوز، في واحدة من المساجلات الغنائية بينهما، معبّرة بشكل واضح عن قلق الشيخ من تحوّل تلميذه نحو الغناء الشعبي، تاركاً ساحة الإنشاد الديني".

ان الشيخ يأمل كثيراً في امتداد هذا الفن عبر تلاميذه، ومن سوف يأتون بعده ممن تربّوا في بطانته؛ هذا القلق الذى يحسّه الشيخ، كان سببه تراجع الإقبال على مشايخ الإنشاد الديني في التسعينيات من القرن الماضى، وتزايد التيارات الدينية المتشددة في ربوع مصر، وتراجع إقبال الجماعة الشعبية على إحضار الموالدية أو أهل الحصير/ الذكر.

وكذلك الاكتفاء في ليلة الفرح أو الاحتفالات الدينية بقارئ القرآن الكريم، فضلاً عن التكلفة المادية العالية التى تتطلبها تلك الليالي، مع الأخذ في الحسبان السماوات المفتوحة التى غزت كل ربوع مصر، ما أدى إلى تحوّل الذائقة لدي الأجيال الطالعة".

لعلّ الاندثار النسبي لدولة الإنشاد، يشبه تراجع المهن اليدوية، وتبدّل قيم الحياة البسيطة ذاتها.. فمن لديه الوقت الآن كي يجلس في حلقة منشد بالساعات؟ لذلك يبدو أبو خنيجر متعاطفاً مع موقف العجوز قائلاً: "ربما كان التلميذ أكثر إحساساً بوقع خطوات التغيّر تلك، حتى وإن لم يغادر حقل الإنشاد تماماً، ويبقى يراوح بينه وبين حقول الغناء الشعبي الأخرى.

ومع التغيّرات في نهايات القرن الماضي، وزحف العولمة التي قضت أو كادت على غالبية الفنون القولية الشعبية، القائمة في معظمها على الارتجال، ربما كان هذا إيذاناً بالبحث عن نوع من الإنشاد الديني العالمي، أقصد ذلك اللون الصوفي المتخلص من الهموم الشعبية، ونظرة الجماعة لنفسها وقيمها.

 هنا كان الاتجاه نحو القصائد الشعرية لكبار المتصوّفة، أمثال ابن الفارض وابن عربي، أي نوع يتوافق مع كل الأزمنة والأمكنة، من دون خصوصية تحدّه حسب مقتضيات العولمة".

الهوية والتراث

لعلّ الفكرة التي يلمح إليها أبو خنيجر، تخصّ مفهوم "الهوية"، فالغناء العربي بات أقرب إلى اللهجة البيضاء التي لا تستغرق في مفردات وصور شديدة المحلية.. كذلك فرق المديح الآن مثل "الأخوة أبو شعر" أو "الحضرة"، تميل لإنشاد فصيح بعيد عن الانغلاق المحلي، والارتجال، وتقدّم عروضاً برّاقة ومتقنة.

فهل انتقلنا من المديح بوصفه "حال" عفوية وعاطفية إلى اعتباره مهنة؟ طرحنا السؤال على هادي الطحّان، حفيد الشيخ شرف التمادي، المهتم بجمع تراث جده فقال: "المديح بالنسبة لجدي كان تعبيراً عن الحب والزهد، وليس من أجل التكسب والشهرة. عاصرته في طفولتي لسنوات، وأرى أنه كان درويشاً بسيطاً ومخلصاً، لدرجة أنه كان يعمل يومياً مهما بلغ شعوره بالتعب والإرهاق، ويسهر وسط محبيه لساعات طويلة".

 يضيف: "في الليالي الكبيرة، كان يصلّي الفجر ثم يكمل حفلته. ومهما نصحناه بالراحة، كان يرفض لأنه يحب الناس ويراعي خاطرهم. وكثيراً ما شارك البسطاء مناسباتهم من دون أن يهتم بأخذ أجر. أذكر في إحدى المرات فشلت المسكّنات في تخفيف آلامه، فاستعانوا بمنشد آخر يقلّده لإحياء فرح، لكن الناس حزنت لعدم وجوده، فاضطر للذهاب متحاملاً على نفسه. حتى عندما أصيب بجلطات في القلب ومشاكل في الرئة استمر بالعمل".

لعل السؤال الأخير المطروح، إذا كانت المؤسسات الثقافية الرسمية لا تهتم بتراث هؤلاء المدّاحين الفطريين ولا توثّقه.. فهل تفعل عائلاتهم شيئاً بهذا الخصوص؟

يجيب الطحان: "توجد عائلات كثيرة تنتمي للمدّاحين الكبار تواصل الطريق نفسه.. حتى وإن لم يحقّقوا شهرتهم ونجاحهم. في عائلتنا مثلاً استمرّ خالي سعيد على خطى جدي، وكذلك ابن خالي المنشد ناصر التمادي.. لكن تبقى إمكانيات الأسر محدودة في حفظ هذا التراث، خصوصاً وأن معظم المدّاحين الكبار رحلوا قبل أن يشهدوا هذا التطوّر التكنولوجي، الذي يمكن بسهولة من تصوير الحفلات وبثّها. ومزاج الجمهور نفسه تغيّر منذ مطلع الألفية الجديدة".

تصنيفات

قصص قد تهمك