درس الكاتب دافيد لوبروطون في مؤلفاته القيّمة والشاملة، الإنسان بوصفه ظاهرة ثقافية شديدة التعقيد، وطرح نظريات "نفس اجتماعية" مهمة في أعماله، مثل "أنثروبولوجيا الألم"، "أنثروبولوجيا العواطف"، "أنثروبولوجيا الجسد والحداثة"، و"الصمت لغة المعنى والوجود".
الوجوه هبة ربّانية
يُقرأ الجسد الإنساني أنثروبولوجياً وسوسيولوجياً راهناً في أقسامه كلها شاملاً اليد، والإصبع، وراحة اليد، والإبهام الخطير في بصمته، التي تهتمّ بها التحقيقات الجنائية.
بينما اقتصرت القراءة القديمة على الوجوه وتعبيراتها حصراً، وأهمل باقي الجسد وملامحه، مثل دلالات اليد وعملها؛ إذ تختلف يد النجار عن يد الطالب، وتلك عن يد الكاتب والمؤلف.
إذاً يعبّر الجسد كلّه في وحدة تخادم متكاملة؛ وعليه، ثمّة ارتباط وإن لم يبد ظاهرياً وملحوظاً، بين الوجوه والأيدي وغمزة العين والقلب.
تلقي الابتسامة أو التقطيبة مظهرها على الجسد كله، هنا نتجاوز دلالة" المحيّا" أو سيماء الوجوه، إلى سيماء الجسد عموماً، للوجه الحزين أو المكتئب، تأثير على اليد والكبد والساق أيضاً، وهكذا، تتكوّن شخصية الإنسان العصابي في وحدة نفسية شاملة، وهذا ما يهتم به التحليل النفسي.
الوجه حمّال أوجه
يتناول الكاتب دافيد لوبروطون في كتابه "أنثروبولوجيا الوجوه"، ترجمة فريد الزاهي (ترجم للمؤلف ثلاثة كتاب) عن "المركز الثقافي للكتاب"، وجوه البشر أنثروبولوجياً، لجهة النحت ورسم البورتريه، والوجوه في السينما، وفي الصورة الفوتوغرافية: هي وجوه متعدّدة التأثيرات والانفعالات وإن كانت تعود لوجه واحد.
تسهم الحالة النفسية للإنسان بتغيير وجهه وتعبيراته، مثلما تؤثر وضعية جلوس الشخص على كرسي (الحكم)، أو على مقاعد الدراسة، في تغيير تعبيرات وجهه أيضاً.
يختلف وجه الإنسان في النحت عنه في البورتريه أو الفوتوغراف، هو متعدّد وإن كان يعود لشخص واحد. يستشهد لوبروطون في ذلك برأي الفيلسوف ديدرو، معلّقاً على بورتريه له من توقيع الفنان ميشال فان لو، لم يتعرّف فيه على نفسه قائلاً:
"كان لي في يوم واحد هيئات مختلفة بحسب ما يصيب مزاجي؛ وبحسب كوني مُفعماً بالسكينة أو الحزن، أو الحلم أو الوداعة، أو العنف أو الشغف، أو الحماسة. لكني لم أكن قط بالشكل الذي ترونه هنا في هذه الصورة ... لدى الفرد في كل لحظة هيئته التعبيرية".
يقول الرسام والشاعر البلجيكي هنري ميشو في هذا السياق: "أنا لا أعرف جيداً وجهي، بحيث إذا ما عُرض عليّ من النوع نفسه، لن أستطيع الوقوف على الاختلاف بينهما".
كيف سيتعامل التحقيق الجنائي مع وجوه المجرمين، إذا كان الوجه مستمراً في التغيير عند الرسم والنحت والصورة الفوتوغرافية، وعند الجريمة والحب؟
شعوب ووجوه
يعني الوجه (الغير) حبّاً أو نفوراً، هكذا من دون سبب معقول (أحياناً) سوى كيميائية الجذب والانخطاف، ومن أشكاله تُعرف الشعوب، عربية، آسيوية، أوروبية، وصينية.
كما يجذب الشرطة والمحقّقين الجنائيين، يتعلّق الأمر بالعنصرية القضائية التي تحكم على المرء من خلال الوجه.
هناك دراسات قضائية تشير إلى اختلاف أحكام القضاة، ما بين البراءة والإدانة بحسب أمزجتهم عند الصباح، وحال استيقاظهم من النوم، ومدى علاقتهم بالجو الأسري حينذاك، ونوعية فطورهم وعطورهم، بما نسمّيه التحييز النفسي القضائي، ونضيف إلى ذلك علاقتهم بالوجوه تفضيلاً أو كرهاً.
الوجه يسبق الفرد
يورد لوبروطون توصيفات أخلاقية، يكرّم فيها الوجوه حصراً، مقارنة بباقي أقسام الجسد، وكأن سيمائيات الجسد تعني الوجوه فحسب، والسلوكيات الأخلاقية والاعتبارية، تقتصر عليها.
لكن ثمّة مبالغة كبيرة جداً، أو إجحاف أخلاقي، يهمل اليد والرجل والكتف وسوى ذلك، لأن الإنسان يشتغل بوحدة جمالية ذات اعتبارات أخلاقية شاملة، إذن لماذا لا تكرّم أعضاء الجسد الأخرى أسوة بالوجوه؟
يقول الكاتب: "الوجه ليس جزءاً من الجسد كباقي الأجزاء، فهو يتميّز عنها بموقعه وقيمته ورفعته في التواصل، وبالأخص الشعور بالهوية التي يرتبط بها".
يتابع: "إنه يسبق الفرد، ويعيّن وجوده، ويشير مسبقاً إلى كونه معروفاً أو مجهولاً، مستشهداً بإيمانويل ليفيناس، الذي يجعل من الوجه "تجلياً" للشخص، باعتبار أنه ينفلت من كل سلطة وكل مقياس، "بلوغ الوجه يكون منذ البداية أخلاقياتياً.. الوجه معرفة وإدراك".
لكن ما هو توصيف الوجه القبيح أخلاقياً وما هو سلوكه مع السلطة أو المال؟
يكتب جورج باتاي واصفاً تعقيدات البشر من تعقيدات الوجوه، "ثمّة في الوجه تعقيد لا نهائي من المنعرجات والمنفلتات". وعلى هذا المنوال، ينبغي دراسة الوجوه في أشكالها وإحالاتها.
تقدير مفرط للوجه
يقول الكاتب والباحث المغربي في الفلسفة عبد الصمد الكباص لـ"الشرق": "لا يمكن اختزال الجسد في الوجه وحده. بالطبع هناك طاقة كامنة فيه باعتباره بنية تعبيرية، لكن هناك اعتبار أعمق وراء هذا التقدير المفرط للوجه، يتعلق بتقدير اللغة، فهو (أي الوجه) خلفية كل كلام، ومفترض ضمني لكل تواصل بشري (اللغة وجه يتكلم). لذلك التقط وجوده باعتباره تركّزاً للحظوة الأخلاقية، التي ينبغي للكائن البشري أن يُحترم على أساسها".
يضيف: "يبقى هذا التصوّر اختزالياً إلى أقصى حدّ للجسد، الذي هو نظام شامل للرغبة، وهي تتوجه إلى العالم وتعدّله، وتجعله حافلاً بإمكانات غير مسبوقة، حتى وهي تتلف موضوع إشباعها".
يعتبر الكباص أن "نظام الرغبة تشتغل لحسابه كل مكوّنات الجسم. يمكننا أن نقدّم مثالاً على اليد التي تتحوّل إلى أداء مفكّر، ليس فقط بتفعيل حاسة اللمس، وإنما كقوة محوّلة للذات والعالم أيضاً. ويمكننا أن نذكّر بالدرس الأنثروبولوجي الذي يقول: إن الحضارة الإنسانية هي الأصبع الكبير، الإبهام".
ويوضح أنه "لو حذفنا الإبهام من يد النوع البشري، لتغيّر وجه الحضارة الإنسانية. اليد، هي بنية للعالم، وقد تحوّل إلى عالم بشري. التعامل مع الوجه فقط باعتباره موطن الجسد الأرقى، اشتغل وظيفياً كحجاب لاستكشاف البناء الرمزي للجسد كنظام، يشمل العالم ويغلّف بحواسه ويعدّله بكل مكوّناته".
ويرى أن الغطرسة الثقافية للوجه ترتبط بغطرسة اللغة والصورة كمكان لتحصيل الحقيقة، مهملة باقي الإنتاجية الرمزية لباقي الحواس، كاللمس و الشمّ والتذوّق، وهي تتوقّف عند حدود التأثّر بالعالم، وإنما تخوّل الإنسان أن يعدّ بناءه جمالياً".
الوجوه في البلاغة
تحفل اللغة بعبارات معرفية وجمالية قدحية وذمية للعمى، مثل" وجهة نظري"، "منطق أعمى"، "نظرة عوراء"، لا تترك للأعمى فسحة الصواب، بل والعيش مع البشر سواسية. إن اشتغال الأعمى في الوجود، هو عبر اللمس، الحاسّة التي يقول عنها كانط "إنها أشرف وسيلة".
تثني اللغة السلفية في جانب منها على الوجوه ضدّاً من باقي الجسد، مثل عبارة "إلى الوجهة الصحيحة"، والمقصود الوجه تحديداً، في حين العفّة ترتبط باليدين والقلوب.
بل إن لوبروطون له كتاب بعنوان "الحياة مشياً على الأقدام؛ فن السعادة وإعادة بناء الذات"، ينتقد فيه سلوك الإنسان، بجعل جسده تقنية للسكون والثبات تسمرّاً أمام الشاشة والهاتف.
المرآة والقناع
على الرغم من قول لوبروطون بأن الوجه هو هبة ربّانية، امتياز بشري، يختلف عن الكائنات الأخرى؛ يمتاز بالرفعة والسموّ والكرامة، وهو ذو قيمة وفرادة، لكن الوجوه، هي من أكثر الأشكال استجابة للتأويل، مثل القناع، والتستر (وجه شرير، وجه طفولي، وجه طيب).
يقول لوبروطون مؤلف كتاب "أنثربولوجيا الحواس؛ العالم بمذاقات حسية": "إن مفهوم "الوجه" يتطلب تأويلاً وإبرازاً لمجموعة الملامح، التي تشدّد في الغالب على تثمين الفردية في المجتمع. الوجه يُترجم في شكل حيّ مطلق، الاختلاف الشخصي الذي يكون طفيفاً".
يتعلّق الأمر هنا بالمرآة في معادلة الذات- المجتمع، المرآة هي المجتمع للفرد وهي القناع معاً.
يرفض الإنسان أن يكون قناعاً (وهو بحق القناع ذاته)، يسعى إلى أن يكون صريحاً في مشاعره وأفكاره، صادق الوجه واللسان والإصبع، لكن لا وجه أمام المرآة تحديداً صادقاً، سوى وجه الإنسان المُكتئب، بينما الإنسان" المُعافى"، فهو مقنّع أو يسعى إلى القناع.
هكذا، تقبّلت الوجوه كمامات كورونا وتعايشت معها؛ كما قبِلت أن تحجب هكذا براءتها أو مروءتها، فأصبحت الكمامات جزءاً من التلقي الجمالي للوجوه، التي هي فردية وشخصية وحميمة بحت.
يقول لوبروطون: "يتحوّل الفرد إلى كائن مجهول الهوية بارتداء الكمامة. ورأينا أن القناع هو الالتباس بعينه، وأداة تنشر القلق واللامتوقّع في صلب الرابط الاجتماعي".
الأمان الأنطولوجي
إن وسيلة "التزييف أو المراءاة (اشتقّت الكلمة من المرآة)، وسيلة التجميل مهما كانت صادقة في عكسها للأشياء، ارتبطت بالوجوه مقارنة بباقي الجسد، وإلا لِمَ ينظر المرء في المرآة تحديداً؟
الجواب من أجل رؤية نفسه مقبولاً لدى ذاته تحديداً، المرآة هي المشترك ما بين البشر، يطلبون إرضاءها وهي تسعى إلى إرضائهم يومياً. وسيلة اطمئنانهم اليومي لوجودهم "الجميل"، مخاطبة منطقة الأمان الأنطولوجي لديهم مهما كانوا أشراراً.
الصورة الفوتوغرافية
"الوجه هو المكان ليتعرّف الواحد منا على الآخر، فهو يحظى بالقيمة في أوراقنا التعريفية، وفي مستوى آخر في مجتمعاتنا المعاصرة في انتشار ظاهرة "السيلفي"، التي جعلت الأنا حاضرة كالضوء، ما أكسبها شعوراً بالغطرسة.
هل يؤخذ السلفي للجسد أو لليد؟ طبعاً لا حتى وإن ظهر الجسد في "السيلفي"، فالمقصود هنا الوجه تحديداً. لكل وجه معنى وحكاية وسيرة، ومن هنا تأتي قيمة الصورة الذاتية، فالإنسان وحده من يحدّد صورته، وليس فنان البورتريه أو المصوّر كما في السابق.