لم يعُد الفنان الحروفي خطاطاً وإن استخدم الحروف في عمله، فهو ذهب بها إلى آفاق جمالية تختلف عن الخط العربي الكلاسيكي، وثمّة تفاوت بصري وجمالي ما بينهما.
تشتغل الحروفية على الأشكال والرموز والتعابير البصرية، ولم تبتعد يوماً "لوحة" الخط العربي الكلاسيكي عن مقوّمات اللوحة التشكيلية المعاصرة، وهذا كان عمل الورّاقين في العصر العباسي، عند نسخ الكتب وطباعتها، التي لم تخلُ من التذهيب والحواشي ذات الأشكال الهندسية والرموز البصرية.
وهناك نسخ من القرآن الكريم في المعرض التركي المقام في أمستردام "السلطان والمدينة"، بطريقة الكولاج، قبل أن يُعرف هذا الفن في الغرب في حدود منتصف القرن التاسع عشر، ويتم اعتماده.
خلاصة القول، يمكن استعمال الحروف العربية في إنجاز لوحة حديثة أو "كلاسيكية"، وهو ما جذب الفنان بول كلي، عندما استخدم الحرف العربي في لوحته، من دون أن يعرف معناه.
اللوحة الحروفية ما بعد الحداثة
في معرض"انبثاق" الذي يقام في جاليري "كيباري" في مراكش، يشارك الفنانون التشكيليون الحروفيون وهم:
أبو عبيدة محمد، مصطفى أمناين، محمد بستان، العربي الشرقاوي، لحسن الفرساوي، ويدة عبد الغني، يقدّم كل فنان تجربته الشخصية اعتماداً على التقنيات البصرية المعاصرة، وعلى مساند متنوّعة ما بين الورق، والكانفاس، والجلد، تناغماً مع الشعر والآيات القرآنية والحرف المجرّد من المعنى، إذ يطغى كشكل بصري فحسب.
"الشرق" حاورت بعض الفنانين حول الأسئلة الجمالية والتعبيرية للحروفية، ومحاولة إرساء اللوحة الحروفية في أفق فن ما بعد الحداثة.
يقول الفنان لحسن الفرساوي، الموشّح بالوسام الملكي المولوي عام 2023، "لم يعُد الحرف العربي مُقنّناً معيارياً ذا قياسات تقليدية لدى الفنان الحروفي المُعاصر، فمثلاً تعتمد لوحتي على قصائد شعرية، أقوم بدمجها في اللوحة عبر حروف ذات شخصية مكتملة بصرياً، وأخرى مكسّرة ومهشّمة".
يتابع: "أستخدم الخط المغربي الذي اشتغل عليه الفقهاء السوسييون (منطقة سوسة في المغرب)، وأحياناً أدمج خط الثُلث المغربي مع المغربي المجوهر".
أما الفنان الحروفي محمد بستان، فيقدّم الخط كأشكال بصرية تجمع ما بين التراثي والمعاصر؛ هندسية حروفية تشكيلية متقنة، تجمع ما بين المعيارية والحداثة. يقول عن تجربته لـ"الشرق": مرّت الحروفية بمراحل متنوّعة. أتعامل مع الحرف باعتباره كائناً مستقلاً ناطقاً بذاته من جهة، وبوصفه شكلاً ذا إيحاء تعبيري تشكيلي".
ويعتبر أن الفنان الحرفي، "يستطيع أن يوظّف نقطة واحدة أو حرف واحد في اللوحة، مراعياً المساحات الجاهزة وغير المستعملة وفقاً للمعايير الجمالية".
يقول: "نحن أمام فن تشكيلي ما بعد الحداثة، يستنطق الأشكال والصور والتعابير الكامنة في الأشياء، استعمالاً لمكنوناتها الخبيئة. يعتبر الفنان أن بستان الحروف عالماً منطوقاً من التعابير المرنة الانسيابية، مذكراً بتجربة الفنان الحروفي محمد سعيد الصكار، الذي درس الحروف واستفاد من انسيابيتها في اللوحة.
الحروفية رافداً لإثراء الفن التشكيلي العربي
إن تقديم تجارب كهذه، تسهم بجعل هذا النوع من الفن، رافداً يُثري التشكيل العربي، جاذِباً الغرب، في تنوّعه وأشكاله، من ناحية تقنيات الجرافيك ذات النتائج المختلفة والأساليب، وفي اتجاه الكولاج وصناعة الكتب الفنية، بل وفي صناعة الأثاث والآلات والمباني على شكل الحروف.
الحروفية في المغرب
يحدثنا الباحث والناقد الجمالي حسن لغدش قائلاً: "ونحن نجوب تاريخ الفن التشكيلي في المغرب، لدينا انطباع أن لا وجود للواقع أبداً إلا في الضبابي واللامحدود والمتسامي. باختصار، لا وجود له إلا في وَهم الواقع".
ويؤكد "أن المشهد الفني بالمغرب يعي الآن دوره الثقافي، لكن هناك الكثير مما يقال حول هذا النوع الفني الفريد "الحروفية".
يضيف" يوحي المعرض بفكرة الفناء من أجل امتلاك حقيقة الحرف. هنا يشتغل الفنانون بتقنيات ترتكز على شعرية في طور الاختمار. ضمن توجّه يمزج بين الخط والتشكيل، مشكّلاً اللوحة لاحقاً".
التجريد الحروفي
يوجز الفنان الحروفي أبو عبيدة تجربته قائلاً: "تتجه لوحتي الحروفية نحو التجريد الخطّي، وذلك يرجع إلى افتتاني بالخط بجميع أشكاله. هناك دور كبير للبحث والتجربة والتعلّم، تركيزاً على الجوهر والتحرّر من الزوائد".
ويوضح أن توجهه في الحروفية "هو احتفاظ الحرف بدوره الكامل في المجالات التقليدية، متجاوزاً هذا الدور إلى الفكرة الموحية فقط، من الحرف وعدم إشغال المتلقي بالتجريد المغلق، بل مشاركته التعبير وإنشاء حواره الذاتي مع العمل، بعيداً عن الخط الموزون".
أما الفنان أمناين، فيؤكد أنه لم يكن يوماً خطاطاً، لكن جماليات الحروف العربية، جذبته.
وأكد أنه على الفنان الحروفي أن يجيد توزيع الحروف في اللوحة. لقد استطعنا تكوين جيل من الحروفيين، لديه تقنيات رقمية جيدة".
الحروفية المراكشية
أنجزت مدينة مراكش منذ إنشائها ثقافة خاصة بها، من ناحية العمارة وطرق الري والفقه وصولاً إلى الحروفية.
يصف الفنان التشكيلي حبيب كيباري، مؤسس ومدير رواق "كيباري" المعرض بالحروفية المراكشية"، إذ ينتمي الفنانون المشاركون إلى مدينة مراكش، حيت تداخلت أساليب شتى، شملت الكتابة والخط والتشكيل، فأعطت تجربة حروفية لافتة".
يضيف: "يدخل معرض "انبثاق" ضمن الأنشطة المعتمدة لدى الرواق في تنشيط الحركة الفنية، ومرافقة الفنانين في مسيرتهم الإبداعية، فضلاً عن تنويع البرامج والأنشطة واللقاءات الثقافية".
زها حديد والحرف العربي
هناك رأي شائع يقول باستلهام الفنانة العراقية زها حديد الحروف العربية، كأشكال بصرية انسيابية، تخطّت بواسطتها الأنظمة المعمارية التقليدية والفيزيائية، كالأعمدة والجسور وقوانين الجاذبية، نحو الأشكال التعبيرية الجمالية.
وهكذا، يمكن تمييز عمارتها الخاصة بها وحدها، عن طريق الأشكال الانسيابية، فلا شيء مستقيم أو خطّي لديها.