بغداد .. حاضرة الإمبراطورية العباسية رقمياً

time reading iconدقائق القراءة - 8
معرض "بغداد رحلة العودة إلى مدينة السلام" في معهد العالم العربي باريس. 15 يوليو 2024 - imarabe.org
معرض "بغداد رحلة العودة إلى مدينة السلام" في معهد العالم العربي باريس. 15 يوليو 2024 - imarabe.org
باريس -علي عباس

يشهد معهد العالم العربي في باريس، معرضاً حول مدينة بغداد، يعيد تشكيل المدينة التاريخية منذ القرن التاسع هجري، اعتماداً على المسح التصويري الشامل للمدن القديمة، في إطار تقنية فن التحريك.

ترتكز هذه التقنية على برنامج (Assassin's Creed Mirage)، وهو آخر ما أنتجته شركة (Ubisoft) الفرنسية، المتخصّصة بألعاب الفيديو، ولديها استوديوهات تطوير في جميع أنحاء العالم. 

 معرض "بغداد رحلة العودة إلى مدينة السلام"، هو دعوة للعودة بالزمن إلى الوراء، وإثارة اهتمام الزوار وتعريفهم بثروات بغداد المذهلة، من خلال محاور خمسة رئيسة: المدينة المستديرة، الأديان، الإدارة والسياسة، الفنون والثقافة، العلوم والمعرفة. 

يقارن المعرض بين المهارات المختلفة التي جعلت بغداد مدينة مجيدة لقرون عدّة، وتلك المستخدمة في إعادة بناء المدينة المفقودة رقمياً، بعد أكثر من 700 عام من تدميرها على يد المغول.

دجلة العراق

حكم العباسيون الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة منذ عام 750. وعندما قرّر المنصور، الخليفة الثاني في الأسرة، إنشاء عاصمة جديدة عام 762، اختار الموقع على الضفة الغربية لنهر دجلة، فيما يُعرف الآن بالعراق.

تمّ بناء مدينة مستديرة مهيبة، وفي وسطها قصر الخليفة، اختار المنصور أن يطلق عليها "مدينة السلام". لقرون عدّة، بقيت هذه المدينة العالمية بمثابة قوّة سياسية وعلمية وثقافية وتجارية، قبل أن يدمّرها المغول عام 1258.

لكن كيف كانت تبدو هذه المدينة المفقودة؟

يقدّم المعرض إجابة عن هذا السؤال، من خلال ربط الحقائق والأشياء التاريخية، وعرضها ضمن مقتطفات الفيديو والصوت، وصور الشخصيات التاريخية، والأماكن التي ميّزتها.

تتولى المعرض 4 مجموعات تقنية وفنية، مؤلفة من فنانين كل بحسب اختصاصه، وتجري أحداث أفلام التحريك ضمن موضوعات مختلفة، إذ تمّت إعادة بناء الأحداث بدقة تاريخية، وبعناية فنية وبصرية.

 هكذا، لم يعد الديكور عبارة عن بناء من خشب وحديد وتركيب فحسب، بل تحوّل إلى مشهد بصري حيوي، كذلك هي الإنارة ومشاهد المساجد والأسواق، إذ انتقلت بغداد من الموضوع التاريخي إلى البصري.

شوقي عبد الأمير

مدير معهد العالم العربي الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير، تحدّث لـ "الشرق" عن المعرض قائلاً:

إنّها المرة الأولى التي يستخدم فيها معهد العالم العربي في باريس، تقنية "3 دي" في إنجاز معارضه، من خلال تقنية التحريك، لنشر تاريخ عواصم عربية ذات تاريخ حضاري ورمزي مثل بغداد".

أضاف: "نستطيع القول إن بغداد ألف ليلة وليلة، تنبعث رقمياً من جديد، وقد حظي المعرض بزيارات متنوّعة، وهناك مبيعات كثيرة لبعض الصور، يمكن أن تجيب عنها الشركة المطوّرة والمنفّذة للمشروع".

الفنانون الفرنسيون وبغداد 

درس الفنانون المشاركون تاريخ بغداد الحضاري، وما كُتب عنها، واستقوا معلوماتهم من مصادر موثّقة، مثل كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، فحوّلوا النصّ الأدبي التاريخي إلى فيلم تحريك من دقيقتين أو ثلاث، موجّهاً إلى الكبار والصغار معاً.

"الشرق" زارت المعرض في باريس، والتقت الزائرين من طلاب المدارس، الذين انجذبوا بالعروض البصرية،  وتصميم المدينة الدائري الفريد، متضمناً تاريخ شخصياتها، مثل الجاحظ والأخوة بني موسى (ثلاثة أخوة علماء من ألمع مَن عملوا في بلاط الخلفاء العباسيين)، فضلاً عن الخطّاطة والعازفة عُريب.

 كما تضمنت العروض البصرية المهن والحرف الشعبية، وأساليب الزراعة والتعدين واللوازم، وقصور الخلفاء العباسيين، والتجارة النهرية حيث السفن وطرق التحميل.

التاريخ بطل

الفنانون المنفذون  للمعرض، هم رواة بصريون للتاريخ، اعتمدوا الصورة والموسيقى، والألوان والأشكال، وكل ما يُناسب مخيّلة الأطفال، وما يقتضيه فيلم التحريك من شروط فنية جمالية.

التاريخ في الفيديو هو "بطل حقيقي جرى تمثيله هنا، وفقاً للأصالة  والحرية الإبداعية في الآن ذاته، بفنية عالية جداً، وهي واحدة من الإنجازات العظيمة لفريق التطوير في شركة "أوبيسوفت" الفرنسية، الذي اختبر تحدياً، منحَ  بغداد مدينة السلام شكلاً وحياة"، بحسب ما جاء في العرض.

الحياة تقلّد الفن

تقول السيدة الفرنسية ماري كلير دوبوا، المسؤولة عن المشروع: "استخدمنا تقنيات ثلاثية الأبعاد متطوّرة  لإنجاز العمل، توفّر للمشاهدين تجربة التعايش مع الواقع التاريخي من خلال الصورة، وكأنهم يعيشون الأحداث بأنفسهم، وإن كان ذلك من خلال واقع افتراضي، لكنه تفاعلي إلى حدّ بعيد".

وقال الفنان الفرنسي جان بيير لافوا: "كانت تجربة العمل على المشروع مثيرة، استفدت منها في إنجاز أعمالي المستقبلية". وتشاركه زميلته الفنانة إيزابيل لوران، التي رأت "أن التقنية المستعملة، جعلت اللوحات كما المآثر التاريخية تنبض بالحياة".

حاضرة إسلامية

يوفّر المعرض فرصة للزوّار لاكتشاف أعظم حاضرة إسلامية حينذاك، ويمكن للمُتفرّج رؤية تفاصيل إعادة بناء المدينة من خلال شاشة رقمية، تتجسد فيها الحياة الثقافية والسياسية والعمرانية لمدينة بغداد.

يسعى المعرض لتقديم تجربة تعليمية وثقافية فنية للزوار من خلال موضوعات أساسية هي:

  المدينة الدائرية: عُرفت بغداد بتصميمها المدوّر، لغرض سهولة الحماية، وثمّة رأي يقول، إن بعض مستشاري الخليفة أبو جعفر المنصور، وهم من أسيا الوسطى (هناك يحتفون بالعدد 5 المحاكي للدائرة باعتباره حافزاً للخصب والنماء)، واجه التصميم الدائري لاحقاً مشكلة توسّع بغداد عمرانياً، وهكذا بنيت الرصافة خارج أسوار المدينة القديمة. 

الأديان ودُور العبادة: مثل جامع  الخلفاء والمتوكّل، اشتهرت بغداد بتنوّعها الديني والإثني.

الإدارة والحكم: قصور خلفاء بني العباس، وحكم الإمبراطورية الإسلامية.

الفنون والثقافة: بيت الحكمة والمكتبات، الترجمة والتنظير. علاوة على العلوم والاكتشافات في زمن الدولة العباسية، مثل الأسطرلاب، والمراصد الفلكية، ودور الصباغة.

أفلام التحريك والذكاء الاصطناعي

نادرة هي أفلام التحريك في العالم العربي، بسبب الحاجة إلى فريق عمل تقني بحت، وفنانين محترفين يشتغلون لساعات طويلة كي ينجزوا صورة واحدة، ما يجعل التكاليف باهظة جداً. 

نذكر في هذا السياق فيلم التحريك "ابن الغابة" للمخرج العراقي ثامر الزيدي، في مستوى جيد يضاهي التقنيات العالمية حينذاك، وهو عبارة عن تحويل قصّة رحلة "حي بن يقظان" لابن طفيل، إلى فيلم تحريك موجّه للأطفال.

اشتهرت عالمياً أفلام كرتون "والت دزني"، لكن تبقى فرنسا هي الرائدة أوروبياً في فن التحريك، كما لا يمكن تجاهل، إنجازات "بوليوود" الهندية، لما تقدّمه من خبرة وتقنيات وبنى أساسية تحتية لا غنى عنها.

نُشر حديثاً فيلم من إعداد الذكاء الاصطناعي عن مدينة بابل التاريخية وبوابة عشتار، بتقنية سينمائية رائعة وواضحة، ومستوى أفضل من تقنية التحريك. وعليه، تواجه أفلام التحريك منافسة، وتهديد تجاري وتقني من قبل الذكاء الاصطناعي.

هذا الأمر عبّر عنه الفنان العراقي الفرنسي فرات ليث لـ الشرق"، الحاصل على شهادة في الإخراج من الشركة "أوبيسوفت" نفسها قائلاً ": على الرغم من جمالية أفلام التحريك التي تحتاج إلى فريق عمل تقني وفني ماهر، حيث يتناغم الفن مع التقنية، لكن عالم الذكاء الاصطناعي يخترق راهناً سوق هذا الفن، محقّقاً جودة عالية بتكاليف أقلّ، ما يثير مخاوف جدّية لدى المشتغلين فيها من فقدان وظائفهم مستقبلاً". 

تصنيفات

قصص قد تهمك