يحب الأطفال "الدُمى"، يلاعبونها ويطلقون عليها الأسماء المحبّبة، يصنعونها من قماش وأخشاب وحشو وخيوط، يتوارثونها عبر مئات السنين، فمنها ما يشتهر ومنها ما يندثر.
لكل شعب دُمية أيقونية خاصة به. وإذا كانت أميركا تتباهى بدميتها "باربي" التي لم تُكمل عامها السبعين، فإن المصريين يعتزّون بدمية "الأراجوز"، ويقولون إنها تعود إلى عصر الفراعنة.
فهل مازالت "الأراجوز" محبوبة وقادرة على البقاء في عصر الهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية، أم أنها في طريقها إلى الزوال والاندثار، علماً أنه تمّ توثيق الأراجوز من قِبل اليونسكو في 28 نوفمبر 2018 كتراث لا مادي.
"الشرق" التقت المخرج وفنان العرائس ناصر عبد التواب، أحد لاعبي "الأراجوز" في مصر، وسألته عن أصل الكلمة فأجاب:
"هناك من يعتقد أنها ذات أصل تركي "قراقوز" وتعني "العين السوداء".. وهناك من يردّها إلى "قراقوش"، وهو اسم وزير من الدولة الأيوبية اشتهر بالشدّة. لكني أعتقد أن أصلها جاء من الكلمة القبطية "أراجويوس"، وتعني "فعل الكلام"، و"صانع الحكايات".
أضاف: "لا أعتقد أن الاسم جاء من تركيا بل العكس، انتقل من مصر إلى تركيا عقب الاحتلال العثماني. وهناك من يخلط بين فن الأراجوز و"خيال الظل"، علماً أن الاثنين ينتميان إلى مسرح الدُمى، ويقدّمان "تمثيلية" ذات طابع فكاهي".
ويشرح عبد التواب، أنه "إذا استعملنا "الأراجوز" نسميها "نمرة"، وفي خيال الظل نسميها "بابة". أما "خيال الظل" فجاءنا من العراق على يد شمس الدين بن دانيال الموصلي، في القرن الثالث عشر، وأوّل "بابة" يشاهدها السلطان سليم الأوّل كانت عن "شنق طومان باي" على باب زويلة، وحين نقل الصنّاع المهرة إلى الآستانة، كان ضمنهم من يلعبون "خيال الظل" والأراجوز".
نِمَر درامية
لكن لا يبدو الفرق واضحاً بين "الأراجوز" وخيال الظل، يجيب عبد التواب: "هناك لبس بينهما لدى الجمهور، لكن الدمية في "خيال الظل" مسطّحة وظلية ذات بُعدين فقط: طول وعرض، وتتحرك منعكسة على شاشة بفضل الإضاءة الخلفية. أما دمية "الأراجوز"، فهي قفازية، تلعب باليد ويراها الجمهور مباشرة، لأنها ثلاثية الأبعاد".
يوضح فنان الدمى أن كل "نمرة" تعتمد على "الأراجوز"، وهو رجل بسيط يحب المرح، ذو عينين واسعتين، ويرتدي جلباباً و"طرطوراً" أحمر على رأسه، وتنضم إليه بعض العرائس، مثل الزوجة المتسلطة، أو الشحاذ المحتال الكذاب".
لكن من يكتب هذه "النِمَر"؟ يقول عبد التواب: "هناك "نمر تراثية" جمعها نبيل بهجت في كتاب "الأراجوز"، وهي أقل من عشرين نمرة لكل منها عنوان خاص، والقصد أنها متوارثة شفاهياً من لاعب إلى لاعب، وليس لها مؤلف معيّن، منها "الأراجوز والبربري" و"الأراجوز وحرامي الشنطة"، و"الأراجوز ومراته"، و"الأراجوز والشحّات".
مدرسة لتعليم فن الأراجوز
ويلفت إلى أنه بعد اعتراف اليونسكو بهذا الفن، "أقمنا أوّل ملتقى للأراجوز والعرائس التقليدية، نظّمه المركز القومي لثقافة الطفل، بهدف إلقاء الضوء على هذا الفن المهدّد بالاندثار، ووعدتنا وزيرة الثقافة آنذاك بإنشاء مدرسة لتعليم فن "الأراجوز"، واعتمدنا على شعراء لكتابة نمر جديدة توجّه رسائل للأطفال، مثل تنظيم الوقت، والإشاعات، وممن كتبوا لنا، السيد لطفي، ومحمد ناصف، وأحمد جابر".
أزمة لاعبين
اشتهر لاعبون كبار بتقديم "نمر" الأراجوز، مثل الراحل "العم صابر"، وفي فيلم "الزوجة الثانية" لصلاح أبو سيف، وظّفت نمرة الأراجوز كي تُلهم البطلة سعاد حسني، بطريقة الانتصار على الخصم الأقوى منها.
كما أخرج هاني لاشين، فيلمه المعروف "الأراجوز"، من بطولة عمر الشريف، وهو فيلم فريد من نوعه، جسّد علاقة مهمّة بين الدمية واللاعب. فيما تضمّن الأوبريت الشهير "الليلة الكبيرة" لصلاح جاهين وسيد مكاوي، فقرة خاصة بالأراجوز.
ولا ننسى الفنان الراحل محمود شكوكو، الذي احتفظ طوال حياته بهيئة "الأراجوز" بالجلباب البلدي، و"الطرطور" فوق رأسه.
وعلى الرغم من كل هذا الاحتفاء، ثمّة نقص اليوم في أعداد اللاعبين، وهناك من انتقد وجود أدعياء لا يحفظون النمر، ما يهدّد بقاء هذا الفن.
رداً على تلك الأزمة يقول عبد التواب: "بدأنا منذ عام 2020 بإعداد أكثر من 65 لاعب أراجوز، ولم تعد المهنة قاصرة على الذكور، بل درّبنا السيدات والفتيات عليها، ووسّعنا الدائرة خارج القاهرة والإسكندرية، كي يصبح الفن موجوداً في كل مدينة مصرية".
وأكد أن هذا الفن يدافع عن الهوية المصرية، وهو أقرب الأشكال التراثية تواصلاً مع الناس، إذ يكفي أن أخرج إلى الشارع وألعب بالأراجوز في الساحات، حتى يتجمّع حولي الصغار والكبار".
عصا وصفّارة وضحكة
هذا ينقلنا إلى السؤال عن سر جاذبية هذا الفن الشعبي؟
يلخّص عبد التواب قوّة "الأراجوز" وخطورته، "في قابليته على حمل مضامين عدّة، تصل للناس بشكل سريع، وهو من فنون مسرح الشارع أيضاً، التي تذهب إلى الجمهور في أي مكان وتلتحم معه، ويتّسم بطبيعة مرحة وفكاهية، كما أن شكل "الأراجوز" يجذب الأطفال، وكذلك صوته النحاسي الساحر والمدهش".
يقول: "لدينا مثل شهير بأننا شعب تجمعه صفّارة وتفرّقه عصا، والأراجوز يحمل الأداتين معاً.. صفّارة مدهشة ساحرة يجمع بها الجمهور، والعصا لإقصاء كل ما هو فاسد عن المشهد حسب وجهة نظره.. إضافة إلى ذكاء ووعي اللاعب نفسه وماذا سيقدم للأطفال بعد جمعهم".
يضيف: "أنا كفنان عرائس، لا أحب تقديم مجرد حكاية، بل أفضّل المسرح التفاعلي مع الأولاد، فمثلاً "الأراجوز" يقوم بموقف سلوكي خاطئ، ثم آخذ الإجابة من الأطفال أنفسهم.. وكيف يقيّمون الموقف.. فالرسالة الأخلاقية تأتي من التفاعل وليس عبر الوعظ والتلقين".
ويشرح ذلك قائلاً: "أعتمد على الأراجوز الكبير بالشارب، والأراجوز الطفل بدون الشارب.. فمن وجهة نظري، لا أفضّل أن يخطئ الأراجوز الكبير ثم يأتي الصغير ويصحّح له، حتى لا نهزّ ثقة أولادنا في احترام الكبار.. لذلك لجأت إلى الأراجوز الطفل كي يخطىء، ثم يصحّح له جمهور الأطفال.. كما منعت وجود العصا مع الأراجوز الطفل، لتعظيم قيمة الاعتذار عن الخطأ".
الأمانة
يؤدي الممثلون "نمرة" الأراجوز عن طريق عربة، ذات عجلات سهلة التنقّل، ولها خارج مرئي أمام المتفرّجين، وداخل بمثابة كواليس للتحريك، وتغيير الدمى، المشاركة في التمثيلية. لكن من أين يأتي صوت الأراجوز النحاسي الغريب؟
يوضح عبد التواب، "نعتمد في سرسعة الصوت على أداة نسمّيها "الأمانة"، هي عبارة عن قطعتين من النحاس أو الستانلس، بينهما شريط مشدود من القطن كأنه وتر ، توضع "الأمانة" في سقف الحنك للاعب، وعند خروج الهواء، يُحدث اهتزازاً للشريط، فيظهر الصوت المعدني الذي يدهش الأولاد".
ويشير إلى أن تسمية الأداة بـ "الأمانة"، هي إشارة "إلى أن كل كلمة نقولها لأولادنا هي "أمانة" ومسؤولية عظيمة. فنحن نوجّه النقد لأي سلبيات في المجتمع، لكن بطريقة مرحة وبسيطة، تحقّق التعليم المغلف بالمتعة والسعادة".
ألعاب إلكترونية
هل حقاً يستطيع "الأراجوز" أن يصمد مع أطفال "التابلت" والألعاب الإلكترونية والشاشات الذكية؟
يؤكد عبد التواب لـ"الشرق"، "نحن نسعى حالياً لتدريب المزيد من اللاعبين، لكن التدريب لن ينجح إلا مع من يحب هذا النوع من الفن".
يضيف: "علينا أولاً تنمية الحب لدى اللاعب كي يجذب الأطفال بالحب، وعليه أيضاً أن يتميّز بالقراءة والثقافة والوعي، كي يحسن التفاعل ويخاطب الأولاد من عالمهم، وليس من خلال عالمه. ولكي يصمد "الأراجوز" أمام وسائل التكنولوجيا الحديثة، يجب أن يُعاد النظر في كيفية استثماره، بدءاً من تحسين أجور فناني الأراجوز، والإنفاق، بما يضمن ازدهاره".
يقول: "لو كان فناً أميركياً كنا سنجده مرسوماً على الحلوى والملابس والجدران. فلماذا لا تكون لدينا مدينة للعرائس مثل "ديزني"؟
ويعتبر أنه "يوجد نقص في الاهتمام والقدرة على المنافسة، وخصوصاً بعد تراجع الموالد الدينية والشعبية، التي كان "الأراجوز" من أبطالها، وكذلك الاستعانة به في حفلات أعياد الميلاد".
ويؤكد أنه وعلى الرغم من التراجع والتحديات، "مازال الصغار والكبار يحبّون نمر "الأراجوز" ويضحكون معها، وعلى الرغم من نجاح عرائس أخرى مثل "بقلظ"، و"بوجي وطماطم"، مازال "الأراجوز" يحتلّ صدارة الذاكرة الشعبية في مصر".