ليبيا الخوف واللجوء في "أصدقائي" لهشام مطر

time reading iconدقائق القراءة - 8
الكاتب الليبي هشام مطر - penguinrandomhouse.ca
الكاتب الليبي هشام مطر - penguinrandomhouse.ca
الدار البيضاء-مبارك حسني

لكل رواية نقطة انطلاق قوية أو مركز صلب، منه تتفرّع الأحداث وتتمدّد. وكلما ارتبط السرد ومنحاه الإبداعي بواقع سياسي خاص، لم يتطرّق إليه الأدب المقروء في الغرب، كلما ازدادت فرص نجاحه أكثر.

 نلاحظ ذلك بعد قراءة " أصدقائي" في ترجمتها الفرنسية (دار غاليمار، باريس، 2024)، المدرجة في القائمة الطويلة لجائزة "بوكر" العالمية، للكاتب الإنجليزي من أصول ليبية هشام مطر.

الكاتب المولود في نيويورك عام 1970، فائز بجائزة "بوليتزر" سنة 2017 عن كتابه "العودة" (دار غاليمار)، وهو تحقيق في اختطاف والده الدبلوماسي والمعارض السياسي، الذي كان يعيش منفياً في مصر عام 1990، قبل أن يُلقى به في السجن الليبي ويختفي، حين كان هشام يدرس في المملكة المتحدة. 

عاش الكاتب جزءاً يسيراً من طفولته في ليبيا، حيث كان والده جاب الله مطر يعمل مع الوفد الليبي في الأمم المتحدة. عادت الأسرة إلى طرابلس عام 1973، ثم انتقلت إلى القاهرة نهاية السبعينيات. وأصبح جاب الله، وهو ضابط سابق في الجيش الليبي، معارضاً عنيداً لنظام القذافي.

استخدم الوالد ثروته ونفوذه لتمويل الخلايا النائمة داخل ليبيا، وتنظيم المقاومة المسلحة في تشاد المجاورة. عام 1986، غادر هشام مصر إلى مدرسة داخلية في إنجلترا، حيث انتحل، مثل كاتب "أصدقائي"، هوية مزوّرة للحفاظ على حياته.

 عام 1990، بينما كان هشام طالباً في لندن، تمّ اختطاف والده من شقّة العائلة في القاهرة، وأخفته الدولة الأمنية الليبية. تعرف العائلة أن جاب الله قضى بعض الوقت في سجن "أبو سليم" المرعب في طرابلس، المعروف باسم "المحطة الأخيرة" أيضاً.

في منتصف التسعينيات، تمّ تهريب رسائل من الوالد يصف فيها، بسخرية "الصندوق الخرساني لزنزانته بأنه قصر نبيل، مؤثث على طراز لويس السادس عشر".

روح منقسمة

تستكشف الرواية الروح المنقسمة بين البلاد الأصلية ودول الاغتراب، فالكاتب مغترب ليبي في لندن، يكافح للبقاء في ظل ملاحقة المخابرات الليبية. يستعير مطر الخيال، وليس الكتابة التوثيقية.

 يبني مطر عالماً سردياً عن تأثير النظام السياسي السابق، من خلال حكاية خالد السارد، والبطل الرئيس حسام، وتقاطعها مع حكايات أصدقاء لعبوا دوراً حاسماً في حياته. 

خالد طالب حصل على منحة دراسية في مجال الأدب الإنجليزي من جامعة إدينبورغ، وصادف أن حضر بالصدفة، تظاهرة 17 أبريل 1984، بإيعاز من صديقه مصطفى، وشارك فيها الطلاب الليبيون أمام سفارتهم في لندن، وأصيب خالد بجروح خطرة في صدره، إثر إطلاق نار من سطح السفارة. وهذا الحدث كان حقيقياً وليس من ضرورات السرد. 

من هنا بدأ كل شيء. كان يجب أن يبقى اسمه سرياً، خوفاً من "الكُتّاب" أي الطلبة المدسوسين الذين "يكتبون" التقارير الاستخباراتية عن زملائهم المتمرّدين، أو الذين ينتقدون النظام، كي لا يتعرض هو أو أحد أفراد عائلته في بنغازي للأذى والملاحقة. 

ثانياً، كان ينبغي أن يتدبّر أمر معيشته في لندن، بلا موارد ولا مساعدة. لكن الأصدقاء يلعبون دوراً في دعمه. والصداقة هنا يجسّدها شخص مهيب يرافقه مساعد، يطمئن على أحواله الصحية، وعلى أحوال مصطفى الجريح في المستشفى.

يقدّم الشخص المجهول الهوية لهما ثياباً ومبلغاً محترماً من المال، كي يعيشا بأمان لأشهر في لندن. سنتعرّف بعد مئات الصفحات على أن "الداعم"، هو من قادة حزب معارض، وسيلعب دوراً في سقوط النظام السابق، وسيتم اغتياله لاحقاً. 

من ضمن ثلّة الأصدقاء، نجد رانا الطالبة في الهندسة المعمارية، الفتاة اللبنانية التي تربطه معها علاقة صداقة حقيقية، وهي ساعدته كي يستقرّ مؤقتاً في شقة عائلتها (تنام رانا على الكنبة وهو على السرير)، حتى يستقلّ ويجد عملاً.

 كما يفعل أستاذ مادة الإنجليزي المتخصّص بالترجمة، الذي مكّنه من العمل والتسجيل في الجامعة. وأخيراً دور بريطانيا وشرطتها تحديداً في حياته، إذ بفضلها تمكّن من الحصول على اللجوء السياسي بشكل سري. 

الواقع السياسي والصداقة

في خضم لقاءاته وبحثه الدائم عن التخفّي، والعيش كشاب في مقتبل العمر، محبّ للقراءة والأدب، ومحبّ لعائلته، لا يبدي تبرّماً ولا نزعة تمرّد، يظهر الواقع السياسي حاضراً في كل جزئية من أيامه.

يلعب صديقه مصطفى دوراً في تحريضه على الانخراط في النضال السياسي بداية، ثم العودة إلى البلاد للمشاركة في الثورة إلى جانبه، وهو الذي أصبح قائداً فيما بعد. 

أما الكاتب الذي يرتبط به من خلال عشقهما المشترك للكتابة والأدب، كان له وضعه الخاص، كمعارض، ووريث لعائلة ملكية في ليبيا، قبل أن يسيطر الرئيس الأسبق القذافي على السلطة عام 1969.

النزول نحو قعر الذاكرة 

حسام هو أصل الحكاية، وبه تبتدئ الرواية. يتأمله في محطة لندنية (في الصفحات الأولى)، في آخر لقاء لهما. ثم حالما يفترقا، يذرع مدينة لندن المضمّخة بالحنين، في طريق عودته إلى شقته، يفكّر فيه، هو الذي عاد بدوره إلى البلاد خلال الثورة، وأخذ السلاح برفقة مصطفى.

 لكنه على عكس صديقه، غادر ليبيا بعد حلول الفوضى السياسية. حسام هو كاتب قصّة قصيرة قرأؤها بدلاً من الأخبار، في إذاعة هنا لندن الشهيرة القسم العربي لـ BBC، من قِبل صحفي ليبي اغتيل بسبب ذلك.

 سمع خالد القصة، وبقي اسم كاتبها في ذاكرته حتى لقائه الأول معه، عندما سمع اسمه صدفة، في مكتب الاستقبال في فندق باريسي، تداعت الذكريات تباعاً، وأسست نسيج الرواية بالكامل.

 مسيرة تذكّر شخصية ذاتية بكل هواجسها، وجماعية تتناول الحياة في ليبيا الخاضعة لنظام سياسي، فرض نظرة واحدة على كل مواطنيه. تذكّر يدوم لساعات من المشي في لندن، منحته نحو 500 صفحة من رواية "أصدقائي ". 

غرب وشرق وتصالح 

يأتي في الرواية على ذكر الروائي السوداني الطيب صالح، صاحب الرواية الشهيرة "موسم الهجرة الى الشمال"، التي تجسّد الصدمة الحضارية للعربي أمام الحداثة الغربية في أوروبا، ولندن خاصة، التي تأتي كحدث مؤسس لعلاقة صدامية لم تعد قائمة، بعد أن ركز العربي حضوره في الغرب وخبِره، ولم يعد الانبهار به يسيطر عليه.

يبدو خالد متصالحاً مع لندن، ثقافياً واجتماعياً، ترفده بما يلزم، لكي يقاوم الاغتراب في ظل الخوف، وتبدو ملجأ آمناً، حيث الصداقات تمنحه ما يحتاجه من وسائل البقاء، وحيث المكتبات العمومية تعطيه المعرفة، والمقاهي، وأماكن السهر توفّر له المتعة والحب العابر، والشوارع والحدائق، هي بمثابة محطات للتفكير والتأمل.

كلها كانت ملهاة له بانتظار تحسّن الأوضاع هناك، في الجنوب الليبي. لكن الرسائل الهاتفية والإيميلات الآتية من هناك، لا تبشّر بما كان متوقّعاً ومنتظراً، وفي النهاية يهاجر حسام إلى كاليفورنيا برفقة زوجته وابنته، حيث اشترى والده الغني مسكناً في السابق، تحسباً لتقلبات الزمن؛ أما مصطفى فيتزوج في ليبيا، ويستمر في قيادة كتيبته المقاتلة. 

في حين يبقى خالد في لندن، حبيس ذكرياته، مثل أبي العلاء المعري الذي يرد مراراً ذكر كتابه "رسالة الغفران"، على أساس أنه سابق على الكوميديا الإلهية لدانتي، أحد مؤسسي النهضة الأوروبية. 

المنطقة الرمادية 

اعتمد هشام مطر السرد العاطفي العميق، واللغة البسيطة، كما جاء في اختيار لجنة "بوكر" لهذه السنة. وقدّم نظرة مثالية للصداقات، وهو يتأمل ما جرى ويجري في بلده الأصلي، باعتماده التسجيل والتوثيق في الكثير من الأحيان. 

 جاء في التعليق الأدبي لصحيفة "لودوفوار" الكندية :" قوّة هشام مطر تكمن في جعل القراء يتقدّمون معه في رمادية الحياة، رمادية المنفى، ورمادية لندن". 

تصنيفات

قصص قد تهمك