سعيد بنكراد: "السميائيات" نمط عيش وإنتاج مفاهيم

time reading iconدقائق القراءة - 10
الكاتب المغربي سعيد بنكراد مكرماً في معرض الكتاب في مكناس. 27 ديسمبر 2022 - region-fes-meknes.ma
الكاتب المغربي سعيد بنكراد مكرماً في معرض الكتاب في مكناس. 27 ديسمبر 2022 - region-fes-meknes.ma
مراكش-علي عباس

سعيد بنكراد أكاديمي وكاتب  مغربي، وباحث في السميائيات ومروّجها عربياً، اشتغل عليها، ترجمة وتنظيراً وتأليفاً، إيماناً منه بأنها ستصبح من جماليات المستقبل. وهي الحقل المعرفي والجمالي الجديد الوافد إلى الثقافة العربية، وهو مَن جعلها حاضرة في المكتبة العربية، التي تفتقر إليها.

ما هي السميائيات؟

علم يهتم بالطريقة التي يُنتج من خلالها الإنسان معانيه، إنها بذلك بحث في أصول المعنى وحجمه، وأشكال حضوره في الذهن. إنها نمط في العيش والحياة، فحيث يرى الناس الأشياء والوقائع، يتأمّل السميائي العلامات الدالة عليها. 

 لذلك كان الأمر عند مؤسسي هذا العلم، يتعلق بمعنى الأشياء في اللغة، لا الأشياء ذاتها. فالتمثيل الرمزي في كل تجلياته، ليس استنساخاً حرفياً للعالم، بل هو في الأصل تقليص لكل أشكال التعدّد والتنوّع، للاحتفاظ بما يمكن أن يشكّل صورة ذهنية عامة، تستوعب كل النسخ الممكنة.

"الشرق"  التقت بنكراد في الرباط المغربية وأجرت معه هذا الحوار:                                                                    

النفس البشرية تحكمها الأهواء وتُسيّر تصرفاتها، كيف تلعب الأهواء في تنظيم العلاقات الأسرية في المجتمعات العربية؟ 

الأهواء ثابت من ثوابت النفس البشرية، وجزء لا يستهان به من سلوك الإنسان، يدار وفق ما تأتي به حاجاتنا إلى الحب والمودّة، وحاجاتنا في الغبطة والغيرة والتنافس. إنها مضافات دلالية تنمو على هامش أحكام العقل، لكنها هي الشرط الإنساني فينا. 

إن كل ما يصنّف ضمن حالات الفرح والاحتفال والذهاب بالجسد إلى أبعد ما يقوله الضابِط الاجتماعي فيه، يندرج ضمن أهواء هي ملاذنا الرئيس، حين تحاصرنا الحياة بوجهها النفعي البشع. 

من هذه الزاوية، كانت الأهواء في الكثير من الحالات أساس تماسك الأسر والمجتمعات، لأنها تتجاوز حدود المألوف في حياة الناس، لكي تستثير فيهم ما يوحدهم في الإنسانية، أي ما يوحدهم في "مشاعر" لا يحكمها العقل دائماً.

فالقرابة ليست شيئاً آخر غير طريقة في توزيع الحب. والتسميات تتضمن حكماً، وتتضمن قدراً من الأهواء، أقرب الناس إلي أمي ثم أبي ويأتي أخي وجدّي وهكذا.

هل يمكن أن تسهم السميائيات في تعزيز الهوية الوطنية في المجتمعات العربية؟  

السميائيات علم نظري يهتم بما ينتج الناس في حياتهم من معاني. إنها طريقة في الكشف عن الأنساق التي تحكم سلوكهم وطريقتهم في تنظيم معيشهم، وفي تدبير شأن أهوائهم كما أشرنا. 

لذلك لن تكون أيديولوجيا نعتمدها في التعبئة والتحريض، أو في "رص الصفوف"، إنها تنظر إلى عالم السلوك من فوق، أي من خارجه، فذاك هو السبيل المركزي لتأمله، واستخراج القواعد التي تتحكم فيه. 

إن قوة الهوية لا تكمن في الاستغراق الكلي في محدّدات أولية تصنّف الكائنات حسب القسم أو الفصيلة، إنها على العكس من ذلك، مستمدّة من قدرتها على النمو والتطوّر داخل المتاح الحضاري الإنساني، وذاك ما يشكّل غناها. إن الهوية هي الحدّ والاستمرارية، هي الواحد والتعدّد، هي الكلي وفروعه.

الحرب والخراب والتدمير في كل مكان وخصوصاً في فلسطين، ما هي سميائيات القتل والخراب؟ 

القتل الهمجي عبث يعيد النظر في كل شيء في الحياة، إنه يمسّ النفس البشرية ويمسّ محيطها في الوقت نفسه. إنه لا يضع حدّاً للحياة فقط، بل يجتثّ شرط وجودها. لذلك تساوى القتل في كل النظريات.

 ما يحدث الآن في غزة فاق كل ما تصوّره الناس قديماً عن الصراع والاقتتال، بل كشف عن آخر ورقة توت كانت الرأسمالية تخفي من خلالها وحشيتها. إن ما يحدث أخطر من التطهير العرقي والقتل الطائفي، إنها محاولة للتخلص من الإنسان، واستبداله بكائنات طيّعة تعيش خارج السياسة والإيديولوجيا. 

في الحقيقة سقطت المشاريع الإنسانية الكبرى التي كان الناس يحلمون فيها، ببناء مجتمع إنساني خال من الاضطهاد والقتل والتنكيل بالناس. ومع هذا السقوط استعادت الرأسمالية في وجهها الرقمي البشع كل إمكانات التنكيل بالإنساني في الإنسان.

كيف يمكن للسميائيات أن تسهم في تحسين التواصل الفعّال في المجتمع؟

نحن نحتاج إلى السميائيات لمناهضة التشدّد والتعصب، ونحن في حاجة إليها كي نرى العالم عبر كل واجهاته، من دون أن يمنعنا ذلك من الانحياز إلى هذه الواجهة أو تلك. إن السمائيات نمط في العيش والحياة، فحيث يرى الناس الأشياء والوقائع، يتأمّل السيميائي العلامات الدالة عليها.

 إنها تمنح فرصة رؤية الأشياء كما تتسلّل إلى الرموز، لا كما تبدو في ظاهرها: إن الطبيعة جميلة في الفن، أما في ذاتها فهي واجهة صامتة.

كان كاندينسكي يقول إن "الفن يغطي على جوانب النقص في الطبيعة". والسميائيات تؤكد أن الرمزي في الوجود كان دائماً أقوى من الحضور الحرفي للأشياء في الذاكرة. إن إدراك مضمونها معناه الانحياز إلى جهة نظر تقبل التعدّد والتنوّع في كل شيء.

ما أهمية السميائيات في تحليل النصوص الأدبية والفنية وفي تفسير المعاني والدلالات الخفية؟ 

أسهمت السميائيات بقدر كبير في تجديد الوعي النقدي، من خلال إعادة النظر في طريقة التعاطي مع قضايا النصوص في جميع تجلياتها. وهي قدّمت في هذا المجال مقترحات هامّة، عملت على نقل القراءة النقدية للظواهر الأدبية والفنية من وضع الانطباع والانفعال العرضي الزائل والكلام الإنشائي الذي يقف عند الوصف المباشر للوقائع النصية، إلى التحليل المؤسس معرفياً وجمالياً.

 فهي في المقام الأوّل لا تبحث عن معاني في النص، بل تبحث في السيرورة التي تقود إلى تشكّله، فذاك هو الغاية من قراءة الظاهرة الفنية. النصوص، كل النصوص كيفما كانت مواد تعبيرها، يجب النظر إليها باعتبارها إجراءً دلالياً لا تجميعاً لعلامات متنافرة. والسميائيات صريحة في هذا المجال، فهي تسلّم بوحدة الظاهرة الدلالية، كيفما كانت لغتها وكيفما كان شكل تجليها.

هل ثمّة حاجة قصوى لوجود الخطاب السميائي في الواقع الحياتي؟ 

- بالتأكيد، فالسميائيات معنية بحضور الإنسان في المجتمع، أي في الثقافة. الإنسان يخبّئ في مظاهر "العادي" و"المألوف" و"المتعارف عليه"، مجموعة كبيرة من المواقف والأحكام والتصنيفات، كما يُضمنها انفعالاته وأهواءه وسيلاً من الرغبات التي لم تجد طريقها إلى الإشباع.

ذاك ما تقتضيه "تجارة العلامات" تُسوّق كل شيء، اللغة والمعتقدات واللباس والألعاب، بل قد تسوّق أفعال الإنسان وجسده، كما هو الحال في الرياضات.

تلتقط السميائيات الظاهرة الإنسانية ضمن السيرورة الزمنية في المجتمع، فداخلها تبلورت كل التصوّرات الخاصة بالثقافة. وكانت خروجاً عن طوع الطبيعة أولاً، ونمطاً في العيش ثانياً، وحالة من حالات السلوك المُهذّب والراقي ثالثاً.

 إنها تشير، بحكم هذه الزمنية ذاتها، إلى سيرورة، إذ قادت الكائن البشري بشكل تصاعدي من الإنساني إلى الاجتماعي.

ما هي الآفاق التي يفتحها التحليل السميائي في مناهضة العنصرية والتعصّب؟  

السمة الرئيسة للسميائيات أنها لا تقدّم للباحثين حقائق ثابتة، بل تقوم على تأمّل شروط بنائها، فلا شيء كلي ولا شيء جاهز ولا شيء معطى بشكل سابق على السلوك الإنساني.  

وبذلك لا تهتم السميائيات كثيراً بمضمون هذه الحقائق، إنها تحدّد فقط القواعد التي تُبنى عليها الأنساق. تحدث إيكو عن وصفة طريفة لمناهضة العنصرية هي من صلب الرؤية السيمائية للغة والثقافة عندما قال:

"علينا أن نعلّم الطفل أن تسمية الأشياء أو الكائنات، ليست سوى كلمات يستعمل الآخرون غيرها للغاية ذاتها". 

تشير هذه الوصفة إلى تصوّر شامل لسيرورات التدليل وتداول الأشياء في الوقت ذاته. فنحن لا نستلهم من وجودنا المادي سوى الواجهات التي تغطيها المعاني، وهي وحدها ما يستوطن الذاكرة، أما ما يتبقى بعد ذلك، فتتكفل به الطبيعة وتعيد إنتاجه ضمن دورتها اللامتناهية.

 واستناداً إلى هذه الذاكرة، تتناسل دلالات جديدة لا يربطها في غالب الأحيان أيّ رابط بما نسميه العالم "الواقعي"، قد يتعلق الأمر برموز صريحة استودعها الإنسان قيماً وأحكاماً، أو هو لاشعور عميق تشكّل في غفلة من الإنسان نفسِه، فاستنسخ منه كُتلاً انفعالية استبطنتها الأساطير والطقوس والرغبات الغامضة.

مؤلفات الكاتب

"سميائيات الصورة الإشهارية"، "السميائيات السردية (مدخل نظري)"، السميائيات والتأويل"،  "السميائيات، مفاهيمها وتطبيقاتها، " وتحملني حيرتي وظنوني (سيرة التكوين)"، "السرد الديني والتجربة الوجودية". يرأس تحرير مجلة "علامات" الفصلية.

ترجم إلى العربية: "سميائيات الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس"،  غريماس، "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، ميشيل فوكو، "التأويل بين السميائيات والتفكيكية"، أمبرتو إيكو، "أنا أو سِيلفي إذن أنا موجود"،  إلزا غودار .

تصنيفات

قصص قد تهمك