
يتسابق الغرب للحاق بتوسع روسيا والصين في القطب الشمالي، أحد أكثر المناطق تنازعاً في العالم، في ظل حقبة جديدة من الصراع الجيوسياسي، بينما يسعى في الوقت نفسه لتحديد أولوياته هناك، وفق "وول ستريت جورنال".
الصحيفة الأميركية قالت، الأحد، إن الدفاع عن القطب الشمالي، الذي أعاق طموحات المستكشفين والحكومات لقرون، يتطلب ميزانيات ضخمة، وموارد، وعزيمة غير مسبوقة.
وأشارت إلى أن أبسط جوانب تشغيل أي قاعدة عسكرية في أقصى الشمال تُعد معقدة للغاية.
القطب الشمالي
كانت جزيرة جرينلاند تلوح في الأفق بينما اندفع القبطان دونالد جيبسون نحو جسر القيادة في سفينته التجارية، وسط عاصفة قطبية مفاجئة.
في عنبر السفينة كانت شحنة من مواد البناء الضرورية لتطوير القاعدة العسكرية الأقرب إلى القطب الشمالي، وهي محطة تجسس كندية، توفر معلومات استخباراتية حيوية عن الجيش الروسي.
وبعد تسعة أيام من الإبحار لمسافة 2500 ميل بحري، وسط أمواج تلاطمت بفعل إعصار إيرين، وصلت السفينة الكندية "نوناليك" إلى وجهتها متأخرة بثلاثين دقيقة. كان يوم جمعة، وكان عمال الميناء في قاعدة بيتوفيك الفضائية الأميركية قد غادروا لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في أغسطس الماضي، ما أجبر السفينة على الانتظار لتفريغ حمولتها.
وقالت "وول ستريت جورنال" إن أحد مراسليها كان على متن السفينة "نوناليك" خلال رحلة استغرقت ثلاثة أسابيع.
يبلغ طول السفينة 450 قدماً، وتملكها شركة الشحن الكندية NEAS، وقد أبحرت من ميناء بيكانكور قرب مونتريال في رحلتها السنوية إلى جرينلاند خلال فترة الصيف القصيرة التي تسمح فيها الظروف المناخية بنقل الإمدادات البحرية في القطب الشمالي.
وخلال معظم الرحلة، لم تلتقِ السفينة أي سفينة أخرى في الأفق، وكانت الرفقة الوحيدة للطاقم المكون من 20 فرداً، أسراباً من الدلافين والحيتان، وجبالاً جليدية متفرقة، وشفقاً قطبياً يرقص عبر السماء ليلاً.
وبعد أن رُفض السماح لها بالرسو في جرينلاند، ألقت السفينة مرساها على مقربة من الشاطئ حتى إن ثكنات الجنود الأميركيين الـ150 في القاعدة كانت واضحة للعيان. ثم ساءت الأمور بعد أن ارتفعت سرعة الرياح فجأةً إلى 50 عقدة، وبدأت السفينة بالانجراف، وسقطت المرساة على منحدر بحري حاد، وتشابكت سلاسله.
وظلت السفينة تنجرف لأربع ساعات، بينما يتدلى مرساها البالغ وزنه 2.5 طن في نهاية سلسلة بطول 590 قدماً، وسط جبال جليدية وبالقرب من كابل ألياف ضوئية تحت الماء. وبعد عطلة نهاية أسبوع من العواصف الثلجية وظروف الرؤية المنعدمة، تمكن الطاقم صباح الاثنين من تفريغ الحمولة.
طقس قاسٍ
في مؤشر على مدى صعوبة العمليات في القطب الشمالي، لم تكن شحنة السفينة "نوناليك" متجهة إلى جرينلاند أساساً، إذ كان من المقرر نقلها من قاعدة بيتوفيك بطائرة إلى منطقة "أليرت"، وهي محطة استخبارات كندية لجمع الإشارات تقع على بُعد نحو 500 ميل فقط من القطب الشمالي، أي ما يعادل المسافة تقريباً بين نيويورك وديترويت، ولا يمكن الوصول إليها عبر السفن.
وقال مسؤول كندي إن فقدان أي جزء من الشحنة قد يؤخر أعمال البناء في القاعدة لمدة عام كامل حتى موعد الإمداد البحري التالي.
ودائماً ما يواجه البحارة صعوبات في هذه المنطقة. ففي عام 1830، تحطمت سفن صيد الحيتان البريطانية في خليج ميلفيل المجاور، مما ترك ألف رجل عالقين على الجليد لأسابيع حتى تم إنقاذهم.
وإذا شنّت روسيا حرباً شاملة ضد حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فسيكون القطب الشمالي في صلب المواجهة؛ فقد استعدت كل من فنلندا، والسويد، والنرويج، التي تتشارك الحدود مع روسيا، منذ زمن لخوض حرب برية في درجات حرارة دون الصفر، بينما يُرجح أن يتخذ الصراع في أميركا الشمالية طابعاً جوياً وبحرياً.
وتحتضن شبه جزيرة كولا القطبية أسطول الشمال الروسي، الذي يضم قدرات متقدمة برية، وجوية، وبحرية، بينها جزء من الترسانة النووية الروسية، كما أن أقصر طريق محتمل لشن هجوم صاروخي روسي على الولايات المتحدة يمر فوق القطب الشمالي.
وبسبب تفوق روسيا الجغرافي وإهمال الغرب في المقابل، يتراجع نفوذ "الناتو" بشكل حاد في القطب الشمالي، وفقاً لتروي بوفار، مدير مركز الأمن القطبي والقدرة على التكيف في جامعة ألاسكا في فيربانكس.
وقال بوفار: "هذا أحد المجالات القليلة التي لا نستطيع فيها مجاراة خصومنا"، لكنه أضاف أن تراجع القوة البرية الروسية بسبب حرب أوكرانيا يمنح الغرب فرصة للحاق بالركب، رغم أن جيوش الغرب لا تزال تركز على التحول من عقدين من حروب مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، وأفغانستان، وهي خبرات لا تنطبق على بيئة الشمال المتجمدة.
وأكد أن بناء وجود عسكري فعال في القطب الشمالي "يجب أن يبدأ من الصفر تقريباً"، مضيفاً: "نحن في بداية أحد أصعب التحديات على الإطلاق، لا يقل صعوبة عن استكشاف الفضاء، ولا أعلم أيهما أصعب".
القبة الذهبية
وفي يناير الماضي، وصف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في أمر تنفيذي، الصواريخ بأنها "التهديد الأكثر كارثية الذي تواجهه الولايات المتحدة"، معلناً عن خطط لنشر درع صاروخي من الجيل الجديد (القبة الذهبية) الأميركية. كما دعا الحلفاء إلى تعزيز التعاون في تكنولوجيا الدفاع الصاروخي.
ويعتمد رصد الصواريخ في القطب الشمالي حالياً لدى الغرب على أنظمة الإنذار المبكر المتمركزة في قاعدة بيتوفيك، وعدد من مواقع الرادار المنتشرة في ألاسكا وشمال كندا.
وتعهدت كندا بتخصيص 6 مليارات دولار كندي (4.3 مليار دولار أميركي) بالشراكة مع أستراليا، لتطوير رادار بعيد المدى، وتحديث قدرات قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية، كما التزم رئيس الوزراء الكندي مارك كارني بنشر قوات بشكل دائم تقريباً على مدار العام في القطب الشمالي.
في المقابل، واصلت روسيا على مدى عقود توسيع قواعدها في المنطقة، فيما أعلنت الصين نفسها "دولة شبه قطبية"، ونشرت كاسحات جليد وسفناً بحثية، وقد عبرت سفينة الأبحاث الصينية "شيوي لونج 2" بالقرب من المياه الإقليمية الكندية هذا الصيف للعام الثاني على التوالي.
واعترضت طائرات كندية وأميركية، العام الماضي، قاذفات روسية وصينية في الأجواء الدولية قرب ألاسكا، في أول دورية مشتركة بين الدولتين في مداخل أميركا الشمالية.
حرب أوكرانيا
وسلطت الحرب في أوكرانيا الضوء على مشكلات أخرى تواجه الغرب في القطب الشمالي، أبرزها صعوبة إعادة تزويد القوات بالإمدادات في تلك المنطقة، كما كشفت عن استعداد روسيا لاستخدام صواريخ كروز تفوق سرعتها سرعة الصوت، وهي فئة لا يمتلك الغرب دفاعات كافية ضدها.
وتحلق هذه الصواريخ بسرعات تفوق سرعة الصوت بخمس مرات على الأقل، وتسلك مسارات غير متوقعة وعلى ارتفاع منخفض، ما يجعل رصدها بالرادار أمراً صعباً، وتقول روسيا إنها استخدمتها في أوكرانيا، رغم أن بعضها تم اعتراضه، فيما بدأت الصين تطويرها واختبارها منذ عام 2017.
وتعمل الولايات المتحدة على إنشاء أجهزة استشعار فضائية لتعقب الصواريخ الباليستية، وتلك الأسرع من الصوت من المدار، بينما تهدف منظومة الرادار الكندية الجديدة إلى كشف الصواريخ منخفضة التحليق فوق القطب الشمالي، وهو ما يعتبره محللون خطوة أساسية نحو بناء قدرة ردع فعالة.
قاعدة بيتوفيك
وتُعد سفينة "نوناليك" واحدة من قلة من سفن الشحن الغربية القادرة على الإبحار في القطب الشمالي، وهي تنقل عادة البضائع إلى مجتمعات الإينويت الكندية النائية التي تعتمد كلياً على الإمدادات الخارجية، وقال القبطان جيبسون إنه يتوقع أن تحصل شركات الشحن العاملة في القطب الشمالي على مزيد من الأعمال من الجيوش الغربية.
وشُيدت قاعدة بيتوفيك، المعروفة سابقاً باسم قاعدة ثول الجوية، عام 1951، وهي آخر ما تبقى من أكثر من 12 قاعدة أميركية أُقيمت في جرينلاند خلال الحرب الباردة بموجب اتفاق مع الدنمارك، التي تتولى إدارة الجزيرة ذات الحكم الذاتي، وقد تسببت محاولات ترمب لشراء الجزيرة في توتر داخل "الناتو".
وتعيش في محيط القاعدة ثيران المسك، وأرانب الثلوج، فيما فرضت السلطات العام الماضي حظر تجوال على الجنود بعدما شوهد دب قطبي يتجول قرب مدرج الطيران.
وخلف القاعدة، تمتد طبقة الجليد الهائلة على مساحة تزيد على 600 ألف ميل مربع، وعلى هضبة خرسانية فوق جبل يطل على خليج تنتشر فيه الجبال الجليدية، يقف مبنى الرادار الرئيسي، وهو هيكل ضخم من الخرسانة والفولاذ على شكل شبه منحرف.
أما قاعدة "أليرت" في أقصى شمال كندا، فالوصول إليها أكثر صعوبة. وتوفر هذه المواقع الاستخباراتية معلومات حول أسطول الشمال الروسي، وقاذفاته بعيدة المدى ووحداته الصاروخية وغواصاته النووية.
وتتلقى القاعدة إمدادات أسبوعية من سلاح الجو الكندي، إضافة إلى عمليتي نقل جوي موسعتين للوقود والبضائع سنوياً، بينما لا يمكن إيصال الشحنات عبر البحر إلا لمدة تتراوح بين أربعة وخمسة أشهر كل عام.
وفي عام 1991، تحطمت طائرة نقل من طراز "هيركوليس" أثناء اقترابها من القاعدة، ما أدى إلى سقوط خمسة أشخاص، واستغرقت فرق الإنقاذ أكثر من 30 ساعة للوصول إلى الموقع وسط عاصفة ثلجية، وظلام دامس على مدار الساعة، ويومين إضافيين لإنقاذ آخر الناجين.