
خلال نحو 3 عقود فقط، تحولت كوريا الجنوبية من دولة تعتمد بشكل كامل تقريباً على السلاح المستورد، إلى واحدة من أبرز القوى الصاعدة في الصناعات الدفاعية، إذ تقدم شركاتها نفسها باعتبارها "مصنعاً مرناً للمعدات العسكرية، وناقلاً لتكنولوجيا الصناعات الدفاعية" أيضاً، وهو ما يشكل عاملاً حاسماً في المنافسة داخل سوق الشرق الأوسط المتجهة بقوة نحو توطين الصناعات الدفاعية.
هذا التحول اللافت، جعل دبابة K2-ME الكورية، التي تصنّعها شركة "هيونداي روتيم" Hyundai Rotem، أحد أبرز رموز تحول الصناعات الدفاعية الكورية، وقدرتها على توفير حلول دفاعية مرنة لأسواق الشرق الأوسط، خاصة أن ME هي نسخة معدلة خصيصاً لمسرح عمليات المنطقة.
ونالت النسخة الشرق أوسطية من الدبابة اهتماماً كبيراً خلال عرضها في معرض ADEX 2025 في العاصمة الكورية سول، كما أكدت اللجنة المنظمة للمعرض أن السعودية والعراق والإمارات أبدت اهتمامها بالدبابة الكورية.
لكن الأهمية الحقيقية للدبابة، ليست في قدراتها المتقدمة التي تنافس بقوة الدبابات الغربية الراسخة في الجيوش العربية مثل "أبرامز" Abrams الأميركية، و"لوكلير" Leclerc الفرنسية، و"تشالنجر" Challenger البريطانية، لكن في بناء شراكات تصنيع دفاعية بين الدول العربية والشركات الكورية بأقل قدر من قيود التصدير، وهو ما قد يمثّل "حلاً ثورياً" للجيوش العربية لتطوير قدراتها البرية وتوطين الصناعة في الوقت نفسه.
دبابة تتحدى الحرارة والرمال
وركزت الشركة الكورية على أن تكون النسخة المحسنة من دبابتها الموجهة للشرق الأوسط "أول منصة كورية مهيئة بالكامل للعمل في المناخات الصحراوية القاسية"، حيث ترتفع درجات الحرارة بشكلٍ كبير خاصة في فصل الصيف، كما تنتشر الرياح المحملة بالغبار والرمال.
وقال مصدر مسؤول في الشركة الكورية، فضّل عدم نشر اسمه، إن تطوير النسخة المحدثة من دبابة القتال الرئيسية والمخصصة للشرق الأوسط، "جاء لتلبية أو حتى تجاوز المتطلبات العملياتية في بيئات الشرق الأوسط القاسية".
وأوضح المصدر المطلع على مشروع التطوير: "قمنا بزيادة قدرة التبريد في منظومة الدفع، وتحسين نظام تبريد التعليق الهيدروليكي. كما أضفنا وحدة طاقة مساعدة APU مع تركيب نظام تكييف إضافي للبرج لدعم راحة الطاقم، كما تم تعديل مواد خزان الوقود واختيار مواد تتحمل درجات الحرارة القصوى".
وأضاف المصدر في تصريحات لـ"الشرق" على هامش معرض ADEX-2025، أن هذه التعديلات لم تستند لفكرة نظرية عن مسرح العمليات المحتمل، لكنها جاءت نتيجة تجارب ميدانية فعلية، وفي ظروف قصوى، إذ نفّذت الشركة تجارب في أغسطس 2018 بصحراء سلطنة عُمان، كما نفّذت في 2022 تجارب مماثلة في البيئة القطبية بالنرويج.
وبيّن المصدر: "لقد راكمنا نتيجة التجارب العملية بيانات دقيقة، وبفضل ما أظهرته تلك التجارب في البيئات القاسية، أصبحت دبابة K2-ME الخيار الأكثر ملائمة للدول التي تسعى لتحديث أساطيلها البرية وفق ظروف مناخية وعملياتية صعبة".
ثلاثية المرونة والقدرة والتكنولوجيا
تمتلك دبابة K2ME مزيجاً فريداً بين القدرة النيرانية العالية التي تنافس النماذج الأكثر شهرة عالمياً، مثل Abrams، مع تمتعها بمرونة فائقة للقتال في مسارح العمليات الصحراوية، إلى جانب قدرات تكنولوجية مدمجة تُعتبر من بين الأكثر تطوراً في صناعة دبابات القتال الرئيسية عالمياً.
وتعتمد الدبابة الكورية على مدفع أملس السبطانة عيار 120 ملم، لكنه بخلاف الدبابات الغربية، مزود بملقم آلي مما يخفض عدد الطاقم من 4 إلى 3، وتمتلك الدبابة كذلك نظام سيطرة على النيران مدمج معها.
وتتميز أنظمة Hyundai Rotem للتعليق الهيدروليكي بميزة فائقة خاصة في القتال في الميادين الصحراوية المفتوحة، إذ تمتلك الدبابة نظام تعليق متقدماً ISU يتوافق مع نظام شد ديناميكي للجنزير DTTS، يمنحانها قدرة عالية على التحرك بسلاسة تامة فوق التضاريس الوعرة، كما تمنح الدبابة قدرة فريدة على "الانحناء" ورفع أو خفض الهيكل لتحسين دقة الرمي فوق التضاريس الرملية.
وبحسب المصدر، فإن الدبابة الكورية "تقدم الرشاقة، بفضلها وزنها الأقل من منافسيها (تحت 60 طناً)، وتصل سرعتها إلى 70 كيلومتراً، وبمدى تشغيلي 450 كيلومتراً، ما يمنحها القدرة على تنفيذ ضربات استباقية قبل العدو".
وتابع: "لدينا مزيج من القدرة النيرانية العالية، ورشاقة الحركة والمناورة، بالإضافة إلى دعم لوجستي موثوق يعتمد على قاعدة صناعية محلية قوية، مع انفتاح كامل على التصنيع المشترك ونقل الخبرة الصناعية لدعم القدرات الوطنية للشركات".
أنظمة حماية نشطة متطورة
وبشأن توفير أنظمة حماية نشطة (Active protection system -APS) للدبابة، نوّه المصدر إلى أن النسخة الحالية مزودة بالفعل بنظام حماية نشط للقتل الناعم Soft kill، يعتمد على إعاقة المقذوفات المعادية وتشتيتها بعيداً عن جسم الدبابة.
وتتنوع أنظمة الحماية النشطة APS بين ثلاث فئات، منها أنظمة للإعاقة الكهروبصرية والإلكترونية لحماية الدبابة، وتسمى أنظمة "القتل الناعم"، فضلاً عن أنظمة إطلاق مقذوفات مضادة للعدائيات على مسافة أمتار من الدبابة، فيما يسمى بأنظمة "الحماية النشطة بالقتل الصلب" Hard kill APS، وكذلك أنظمة مستقبلية هجينة تمزج ما بين النوعين لتوفير مروحة خيارات دفاعية أكثر ذكاء.
ومضى المصدر قائلاً: "نحن نطور حالياً نظاماً كورياً خالصاً للحماية النشطة تم تخصيصه لدول الشرق الأوسط، بحيث يوفر لجيوش المنطقة حرية الاستخدام دون قيود تصديرية".
الذكاء الاصطناعي.. دبابة المستقبل
وبشأن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، لفت المصدر إلى أن النسخة الكورية من K2 تستخدم حالياً نظاماً آلياً لاكتشاف وتتبع الأهداف، مضيفاً أن "الشركة تعمل على تطوير وظائف جديدة قائمة على الذكاء الاصطناعي، لدمجها في الدبابة المخصصة للشرق الأوسط".
وأكمل حديثه: "نحن نختبر حالياً نسخة غير مأهولة من الدبابة K-1 -وهي النسخة السابقة على K-2 الحالية- سوف نستفيد من نتائجها لتطبيق تلك الوظائف المتقدمة على نسخة الدبابة الحالية".
وتشير هذه التصريحات إلى أن النسخة المحدثة من الدبابة قد تتحول إلى "دبابة قتال رئيسية مأهولة اختيارياً" Optionally Manned MBT، وهو ما يتيح إمكانية مفتوحة للجيوش لاستخدام الدبابة بطاقم أو دونه، حسب الحاجة العملياتية، مثل أعمال القتال في المناطق الخطرة والتدريب وإجراء الاختبارات مستقبلاً.
قاعدة صناعية واسعة
ظهرت دبابة القتال الرئيسية (MBT) الكورية من طراز K2 في 2013، مع بداية إنتاجها الكمي لصالح الجيش الكوري الذي بدأت قطاعاته بالفعل في استخدامها منذ 2014، مع تصميم مناسب لمواجهة التضاريس في شبه الجزيرة الكورية.
ورغم النجاح الكبير الذي حققته كوريا في تصدير الدبابة خاصة لأوروبا، بعد صفقة ضخمة من مرحلتين لنموذج مخصص للعمل في البيئات الباردة في بولندا، إذ أصبحت بمثابة "الحصان الرابح" في السوق الأوروبية المشغولة بتعزيز قدراتها المدرعة. ومع القدرة الكورية على الإنتاج الموسع، ونقْل تكنولوجيا التصنيع إلى بولندا تمكنت من إنتاج نسختها من الدبابة الكورية K2-PL.
وبحسب الوكالة الكورية الجنوبية للأنباء، فإن القاعدة الصناعية للشركة الكورية، تمكنها من تصدير ما يصل إلى 1000 دبابة من النسخة البولندية.
فرص نقل تكنولوجيا الدفاع
واستطرد المصدر الكوري قائلاً إن الشركة قدمت هذا النموذج بمواصفات متطابقة مع المتطلبات المحتملة لجيوش الشرق الأوسط، موضحاً: "وهي منفتحة تماماً على التعاون مع الدول العربية، ليس فقط لبيع المعدات، لكن لنقل التكنولوجيا وتطوير خطوط إنتاج مشتركة عربية – كورية".
وأكمل حديثه: "نستطيع تنفيذ عمليات التجميع المرخص، أو الإنتاج المشترك، وهذه لن تكون سابقة في ظل خبراتنا المتزايدة في مثل هذا النوع من الشراكات، فلدينا مشروع K2PL الموسع مع بولندا، والذي يشمل تجميعاً واسع النطاق للدبابة. كما شاركنا بقوة منذ 2008 في برنامج تركيا لتطوير دبابتها المحلية 'ألتاي' ALTAY، وقدمنا لهم دعمنا الفني والتقني لسنوات طويلة".
وتعتبر الشركة أن عملياتها في بولندا وتركيا، والإقبال المتزايد على الدبابة الكورية، تمثّل "نموذجاً عملياً لما يمكن أن نقدمه، خاصة في التعاون مع دول الخليج التي تمتلك حالياً بنية صناعية متنامية في قطاع الدفاع".
وبشأن ربط المنصات القتالية في نظام قيادة وسيطرة، قال المصدر: "الشركة تراعي منذ البداية مسألة التوافق مع أنظمة C4IRS للدول المستوردة. ونحن نستطيع تكييف أنظمتنا الإلكترونية للتوافق مع أجهزة الاتصال والقيادة في كل دولة. كما نتولى دعم عملية دمج وتوحيد الأنظمة الإلكترونية بشكل كامل في منظومة الدبابة".
اكتفاء صناعي واسع وحرية تصدير
نجحت Hyundai Rotem الكورية في رفع نسبة المكون المحلي للدبابة عبر مراحل متعددة، ليتجاوز حالياً نسبة 90%، خاصة بعد تركيز الشركة على توطين صناعة "قلب الدبابة" الميكانيكي نفسه في كوريا.
وشرح المصدر قائلاً: "منذ 2024 اعتمدنا خطوة كبيرة لدعم حرية التصدير، فلدينا حالياً منظومة دفع كورية بالكامل تشمل المحرك وناقل الحركة، وهو أمر قلل بصورة كبيرة من الاعتماد على الموردين الأجانب، وأتاح لنا مرونة تصدير غير مسبوقة".
ووفقاً للمصدر، فإن كوريا الجنوبية أصبحت "إحدى الدول القليلة التي تمتلك سلسلة إنتاج كاملة لدبابات القتال الرئيسية MBTs، بداية من تصميم الدبابة نفسها إلى التصنيع، ووصولاً إلى الدعم الفني، دون الحاجة إلى تراخيص من دول أخرى".
قرار استراتيجي متكامل
رغم المزايا الكبيرة التي تقدمها الدبابة الكورية، إلا أنها تفتقر إلى الاختبار العملياتي على أرض الميدان، فحتى الآن تبدو المواصفات الرئيسية التي تعلنها الشركة "حلاً ثورياً"، لكنها لم تُختبر ميدانياً بعد.
في المقابل تملك الدول العربية آلاف الدبابات المجرّبة عملياتياً، ورغم أنها تقل تقنياً في بعض الجوانب، وتفتقر للمرونة التشغيلية الكاملة في بعض النواحي مقارنة بالعرض الكوري، إلا أنها تتمتع ببنية تحتية قوية للدعم والإنقاذ والتأهيل والتدريب، أنشأته جيوش الشرق الأوسط على مدى سنوات.
ما تطرحه الدبابة الكورية هو مزيد فريد قد يحتاج لقرار استراتيجي كامل، للانتقال إلى دبابات ذات تكنولوجيا فائقة، ومرونة واسعة، وطاقم أقل عدداً، مع خطوط إنتاج محلية مشتركة، ما يتطلب تغييرات كبيرة في البنية التحتية للورش وقطع الغيار وبرامج التدريب عربياً.









