بينما تواجه وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون" صعوبات كبيرة في التجنيد، خفّض الجيش الأميركي مؤخراً عدد قواته بنحو 24 ألف جندي، في عملية إعادة هيكلة يُزعم أنها ستساعد على القتال في الحروب المستقبلية.
وأوضخ الجيش الأميركي أنه لا يطلب من الجنود الحاليين المغادرة، لافتاً إلى أنه من المرجح أن تشهد معظم المنشآت زيادة في عدد الجنود المتمركزين بالفعل، وفق ما أورد تقرير لشبكة "Fox News".
وترتبط معظم الوظائف التي تم إلغاؤها بمناصب مكافحة التمرد التي نمت خلال الحروب في العراق وأفغانستان، لكن الطلب عليها ليس مرتفعاً اليوم.
كما سيتم إلغاء حوالي 10 آلاف وظيفة من "أسراب الفرسان" وفرق ألوية "Stryker" القتالية، وفرق ألوية المشاة القتالية، وألوية مساعدة قوات الأمن، والتي تستخدم لتدريب القوات الأجنبية.
ويُعاني الجيش الأميركي حالياً من الإفراط في الهيكلة، ولا يوجد عدد كافٍ من الجنود لملء الوحدات الموجودة. ويتطلع أيضاً إلى تحسين قواته للعمليات القتالية واسعة النطاق أو متعددة المجالات، والابتعاد عن هيكل القتال المباشر ومكافحة التمرد.
وذكرت "Fox News"، أنه تم تصميم الجيش الأميركي ليضم ما يصل إلى 494 ألف جندي، لكن العدد الإجمالي للجنود في الخدمة الفعلية يبلغ حوالي 445 ألف.
وتجعل الخطة الجديدة قادة الجيش يتطلعون إلى تجنيد عدد كافٍ من القوات حتى عام 2029، للوصول إلى هدف 470 ألف جندي في الخدمة الفعلية.
وبالرغم من التخفيضات، قال الجيش الأميركي إنه يتطلع إلى إضافة 7500 جندي آخرين لمهام حاسمة أخرى، بما في ذلك وحدات الدفاع الجوي، ومكافحة الطائرات بدون طيار، و5 فرق عمل جديدة حول العالم تتمتع بقدرات معززة في مجال الإنترنت، والاستخبارات، والضربات بعيدة المدى.
واعترف مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية خلال ديسمبر الماضي، أن الجيش الأميركي أخفق في تحقيق أهدافه في التجنيد عام 2023 بمقدار 41 ألف جندي، ليواجه العام الجديد أزمة تجنيد.
وقال القادة العسكريون في جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس النواب خلال ديسمبر الماضي، إن سوق العمل التنافسي، وانخفاض الأهلية، وإغلاق المدارس بسبب جائحة كورونا، أثّر على قدرتهم على التجنيد، من بين أمور أخرى.
أزمة غير مسبوقة
في سياق متصل، أشار مجلس العلاقات الخارجية، وهو مركز بحثي أميركي شهير، إلى أن القوات المسلحة الأميركية تواجه أزمة تجنيد "غير مسبوقة".
وأضاف أن عجز الجيش الأميركي عن ملء صفوفه يُشكل قضية أمنية قومية واضحة، ينبغي على كل أميركي الاهتمام بها.
من جانبه، أخبر شيش وزيراني القائم بأعمال وكيل وزارة الدفاع الأميركية لشؤون الأفراد والاستعداد، لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب في ديسمبر الماضي، أن 77% من الشباب حالياً لن يتأهلوا للخدمة العسكرية، وأن 11% لن يتأهلوا لأنهم يعانون من زيادة الوزن، مؤكداً بحسب نص كلمته الافتتاحية، أن الشباب حالياً لا يرفضون الخدمة العسكرية فحسب، بل أنهم لا يفكرون فيها.
وأضاف أن الشباب لا ينظرون إلى ما لدى القوات المسلحة لتقديمه، ولا يعرفون ببساطة الكثير عن الخدمة العسكرية.
وذكرت صحيفة "The HILL"، أن المؤسسة العسكرية الأميركية في الوقت الحالي ليست قادرة على إيجاد أي علاج لتغيير أعداد التجنيد المنخفضة لديها.
وأضافت أنه كان من المعروف منذ فترة طويلة أن الولايات المتحدة ستكون في ورطة في حالة نشوب حرب تقليدية كبرى تتطلب التجنيد، لافتة إلى أنه وفقاً لأحدث الأرقام، فإن حوالي 77% من الأميركيين في سن القتال لن يكونوا مؤهلين للخدمة العسكرية.
ويبدو أن من بين العوامل التي أدت إلى تقليل عملية تطوع المزيد من الجنود في الجيش الأميركي، تأثر الناس في الولايات المتحدة بأيديولوجيات مثيرة للانقسام مثل "نظرية الجندر"، و"نظرية العرق الحرجة"، التي "تدمر الروح المعنوية، وتثبط عزيمة المتطوعين المحتملين".
ويُحاول الجيش الأميركي تصحيح المشكلة عن طريق ضخ المزيد من الأموال في شكل مكافآت.
فيما أوضحت مجلة "Foreign Affairs" أن هناك علاقة تكافلية بين جيش الدولة ومجتمعها، إذ يُوفر المجتمع رأس المال لتزويد الجيش، مقابل أن يحمي الجيش المجتمع.
إهمال لعقود
وحوّلت الولايات المتحدة في عام 1973 قواتها المسلحة إلى نموذج قائم على المتطوعين بالكامل، رداً على الاضطرابات المجتمعية الناجمة عن التجنيد الإجباري في حقبة حرب فيتنام.
وفي الوقت نفسه الذي ألغت فيه التجنيد الإجباري، بدأت الحكومة الأميركية في تقليص برامج الرعاية الاجتماعية الفيدرالية، ما تسبب في ندرة الأشخاص المؤهلين الراغبين في الانضمام إلى الجيش.
وأدى الفقر، وسوء التغذية في مرحلة الطفولة، والعلاقات المتدهورة بين الجيش الأميركي والمجتمع إلى استنفاد قاعدة التجنيد، وذلك وفقاً لـلتقرير الذي نشرته "Foreign Affairs".
وأصبح هذا "الإهمال المستمر" لعقود من الزمن واضحاً، في وقت تعمل المنافسة مع الصين وروسيا على زيادة الحاجة إلى جيش قوي، والذي يتعين عليه بدوره تجنيد المزيد من أفراد الخدمة ذوي المهارات العالية.
ووفق "Foreign Affairs"، يتعيّن على "البنتاجون" توسيع نطاق وصوله إلى طلاب المدارس الثانوية، لإعطاء المزيد من الشباب الأميركيين فهماً دقيقاً للحياة في القوات المسلحة.
ومن خلال توسيع صفوف الشباب المؤهلين للخدمة العسكرية، وتشجيعهم على خدمة بلادهم، تستطيع الولايات المتحدة إصلاح العلاقات العسكرية المدنية، وجذب المواهب من الدرجة الأولى.
بداية الأزمة في الجيش الأميركي
عندما دخلت الولايات المتحدة حرب فيتنام عام 1955، رفض الرئيس الأميركي حينها ليندون جونسون، تفعيل وحدات الاحتياط ووحدات الحرس الوطني، واعتمد بدلاً من ذلك على المجندين.
وأعرب جونسون آنذاك عن اعتقاده أنه من الأفضل تجنيد أشخاص من جميع أنحاء البلاد، بدلاً من استغلال مئات الرجال من وحدات الحرس الوطني، لكن عملية التجنيد تلك تعطّلت لبعض الوقت.
ومع تصاعد التدخل الأميركي في فيتنام، كشف الطلب المتزايد على القوات عن عدم المساواة في النظام، إذ كان من المرجح أن يكون المجندون فقراء أو من أصل إفريقي أو إسباني، ويتم إنزالهم إلى الأدوار القتالية، ويعانون من الخسائر.
وتم تجنيد 64% من الأميركيين الأفارقة المؤهلين، مقارنة بـ31% من الأميركيين البيض المؤهلين، وقد شكّلت الأميركيين الأفارقة 31% من الكتائب القتالية و24% من ضحايا الحرب، وذلك على الرغم من أنهم يشكلون 12% فقط من سكان الولايات المتحدة.
وأدت معارضة الحرب إلى زيادة الشكوك بشأن مشروع التجنيد التطوعي. وبفشل المحاولات التشريعية للإصلاح، أصبح التجنيد الإجباري "ساماً" من الناحية السياسية.
ووجدت دراسة أجراها "البنتاجون" عام 2020، أن 77% من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاماً غير مؤهلين للخدمة العسكرية، مقارنة بـ71% عام 2017.
وكانت الأسباب الأكثر شيوعاً لعدم الأهلية هي السمنة، وتعاطي المخدرات، والمشاكل العقلية، والظروف الصحية الجسدية، ما جعل نصف الشباب الأميركيين تقريباً غير مؤهلين لأسباب متعددة.
وذكرت "Foreign Affairs" أن القوة البشرية العسكرية للولايات المتحدة آخذة في الانحدار، لأن "صناع القرار السياسي فشلوا في الاستثمار في صحة وتغذية المجندين المحتملين" خلال سنوات نموهم.
وأصبحت القوات المسلحة الأميركية تعتمد بشكل مفرط على المجندين الذين هم على دراية بالخدمة العسكرية، من خلال الروابط العائلية أو الجغرافية.
وأصبح أكثر من 80% من المجندين الجدد لديهم أحد أفراد الأسرة الذين خدموا في الجيش، وحوالي نصفهم لديهم أحد الوالدين خدم بالجيش.
وتحول الجيش الأميركي إلى "شركة عائلية" بدلاً من واجب مدني، ما أدى إلى توسيع الفجوة بين القوات المسلحة وبقية المجتمع.
ووجدت استطلاعات أجرتها مؤسسة ومعهد رونالد ريجان الرئاسي، أن نسبة الأميركيين الذين يثقون في القوات المسلحة انخفضت من 70% إلى 48% بين عامي 2018 و2023.
وقد يكون الاعتماد على الروابط العائلية للتجنيد ثبت أيضاً أنها غير مستدامة، إذ أن عدداً متناقصاً من أفراد الخدمة وعائلاتهم يوصون الآخرين بالتجنيد.
ويتسبب الافتقار إلى الجنود المحتملين المتحمسين والمؤهلين بترك الولايات المتحدة وقواتها المسلحة في وضع محفوف بالمخاطر، بينما تطغى البيئة الجيوسياسية الأكثر تحدياً منذ نهاية الحرب الباردة.
ومع وجود عدد أقل من الأميركيين الراغبين أو القادرين على الخدمة، سيتعين على المؤسسة العسكرية الأميركية الاعتماد بشكل أكبر على حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، الذين لا تتوافق مصالحهم دائماً مع مصالح واشنطن.
استثمار في الجنود
تُعتبر الخطوة الأولى لإعادة بناء القوى العاملة في الولايات المتحدة هي استثمار الحكومة في مجنديها المستقبليين.
ويزيد الفقر في مرحلة الطفولة من الإصابة بالسمنة، والمشاكل الصحية، والسلوكيات المحفوفة بالمخاطر، وهي عوامل لا تجعل الشباب الأميركي غير مؤهل للخدمة فحسب، بل تُقوض أيضاً فرصهم في الازدهار في الحياة المدنية.
وأدرك قادة الجيش في الولايات المتحدة أن انخفاض الأهلية يرتبط بهذه الاتجاهات المجتمعية، وقدموا دورات تحضيرية لمساعدة المجندين المحتملين على التغلب على السمنة والقضايا الأكاديمية.
ولا يكفي هذا البرنامج لدعم عملية التجنيد في الولايات المتحدة، أو وقف عقود من الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة التي خلقت الأزمة في المقام الأول.
ويعاني نحو 22% من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين عامين و19 عاماً من السمنة، وفقاً لمجموعة "Mission: Readiness" غير الربحية.
وتعتمد القوات المسلحة الأميركية اليوم بشكل كبير على الخبرة الفنية والتفكير النقدي، ما يزيد من أهمية تعليم المجندين.
وللاستفادة من التكنولوجيات الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي، تحتاج المؤسسة العسكرية الأميركية إلى مرشحين ذوي مؤهلات عالية.
ويعتبر الجيش الأميركي في وضع غير جيد في ما يتعلق بتجنيد الأشخاص المتعلمين جيداً لعدة أسباب.
ويميل الذين أكملوا تعليمهم العالي بالفعل إلى أن يكونوا أقل اهتماماً بواحدة من عوامل الجذب الرئيسية للخدمة العسكرية، وهي الفوائد التعليمية.
وبينما تعمل القوات الأميركية على تعليم مجندين واعدين وتدربيهم، فإنهم غالباً ما يغادرون إلى القطاع الخاص الأعلى أجراً، وهو الصراع الذي تعاني منه القيادة السيبرانية الأميركية بشكل خاص.
وقالت دراسة أجرتها جامعة "Air University" عام 2016، إن محللي أمن المعلومات المدنيون حصلوا في المتوسط، على 130% مما حصل عليه نظراؤهم المجندون.
وبدلاً من الانخراط في حرب مزايدة مع الشركات الخاصة على مجموعة صغيرة من العمال المهرة، يحتاج صناع السياسات في الولايات المتحدة إلى المساعدة في تزويد المزيد من الشباب الأميركيين بالمهارات في تطوير البرمجيات، وعلوم البيانات، وهندسة البيانات، والأنظمة الفيزيائية السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي.
ويتعين على وزارة الدفاع الأميركية التعاون مع وزارة التعليم لإنشاء برامج للمدارس المتوسطة والثانوية لتعليم الشباب الأميركي هذه المهارات الحاسمة، والتي يحتاجها كل من القطاعين الخاص والعام ليظل قادراً على المنافسة في بيئة التكنولوجيا سريعة التطور.
وتدير وزارة الدفاع الأميركية 160 مدرسة، تضم أكثر من 66 ألف طالب، جميعهم أطفال من عائلات عسكرية، وهي المجموعة التي من المرجح أن تخدم في وقت لاحق.
هل من حلول للبنتاجون؟
بحسب استطلاع حديث، أبدى 9% فقط من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و21 عاماً اهتماماً بالانضمام إلى الجيش الأميركي.
وبالرغم من أن القوات الأميركية تحتاج إلى تجنيد جزء صغير فقط من هؤلاء السكان لملء صفوفها، فإن اللامبالاة واسعة النطاق تجاه الخدمة الوطنية تُشير إلى وجود انفصال بين المجتمع والجيش.
ولإعادة بناء العلاقات بين الجانبين، يتعين على الحكومة الأميركية توسيع نظام الخدمة الانتقائية ليشمل النساء، إذ تطلب الخدمة الانتقائية، وهي الوكالة الفيدرالية التي تحتفظ بسجل للمجندين المحتملين، من الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً فقط تسجيل معلومات الاتصال الخاصة بهم.
ولمنح الشباب فهماً أفضل للحياة في القوات المسلحة، يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تجعل نفس المزايا التعليمية والتوظيفية الفيدرالية مشروطة بالمشاركة في برنامج تدريبي تحت مسمى "JROTC"، وهو برنامج يهدف إلى غرس القيم العسكرية في طلاب المدارس الثانوية بشكل رئيسي، من خلال دورات في التاريخ العسكري واللياقة البدنية.
وتُقدم 3500 مدرسة للتعليم الثانوي حالياً من أصل 23 ألف و500 مدرسة في الولايات المتحدة برنامج الدورات التدريبية العسكرية "JROTC"، ويجب توسيع هذا البرنامج ليشمل جميع المدارس الثانوية؛ حتى يتم منح الشباب الأميركيين من كافة مناحي الحياة الفرصة للتفاعل مع المحاربين القدامى، الذين يمكنهم تقديم صورة واقعية للخدمة العسكرية.
ويمكن لمنهج "JROTC" المعاد تصوره أن يكمل الدورات الأكاديمية ودورات المهارات الحياتية في المدارس، بينما يعيد بناء العلاقات بين الجيش والمجتمع في الولايات المتحدة.