
على مدى عقود ليست بالكثيرة، ساد مصطلح "الخصوصية" في أرجاء العالم، وسُنت لأجله القوانين حفاظاً على حق الفرد في خصوصية معلوماته وبياناته، أو حقه في "البقاء وحيداً" وفقاً لتعريف المحاميين الأميركيين صامويل وارين ولويس بارنديز في مقالهما الذي نُشر عام 1890 تحت عنوان "الحق في الخصوصية"، والذي وضع الأساس لـ"حق المرء في أن يترك وحيداً"، باعتباره تعريفاً لمفهوم الخصوصية.
وعلى الرغم من أن المصطلح كان فضفاضاً ومبهماً يحمل في طياته الكثير من المعاني، كالحق في الانعزال والابتعاد عن المجتمع المحيط والانتقادات وعدم الخضوع للمراقبة والملاحظة، إلا أنه عزز مفهوم الخصوصية، وأطلق نقاشاً واسعاً حول الحقوق والواجبات الفردية، وحق الشخص في حماية معلوماته وممتلكاته الخاصة.
ودفعت نشأة المصطلح الحديث إلى حد ما عدداً من البلدان في مختلف أنحاء العالم لسَنِّ قوانين لتعريف مفهوم الخصوصية الفردية وحمايتها، حتى بات لكل فرد القدرة على حجب كل أو جزء من معلوماته الشخصية عن المجتمع والدولة.
وعلى مدى ما يزيد على قرن، حملت الديمقراطيات المختلفة لواء الدفاع عن حق المرء في الخصوصية وحماية بياناته الشخصية، لكن يبدو أن فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" الذي ضرب العالم على مدى الأشهر الماضية، وتحول إلى جائحة عالمية، يهدد بتدمير إرث الدفاع عن الخصوصية الفردية تحت حجج حماية المجتمع من انتشار الفيروس بسبب حجب الأفراد بياناتهم الشخصية.
وما إن شرعت بعض الدول في اللجوء إلى تطبيقات التتبع الإلكتروني لتعقب المصابين بفيروس كورونا والمخالطين لهم، حتى بدأ الحديث على مستوى العالم عن قُرب نهاية عصر الخصوصية الشخصية بسبب كورونا، بداية من التعقب الأمني للمصابين والمخالطين حتى الإفصاح عن البيانات الطبية التي تتمتع بالحماية وفقاً لامتياز "الطبيب والمريض" الذي تحول إلى مصطلح قانوني ينص على السرية الطبية لحماية كل الاتصالات بين المريض وطبيبه، ومنع استخدامها في المحاكم ضد المرضى أو استخدام الدولة لها بأي شكل من الأشكال ضد أصحابها.
تطبيقات التعقب
مع تحوّل فيروس كورونا إلى وباء ينتشر كالنار في الهشيم بأنحاء مقاطعة "هوبي" الصينية، أطلقت الحكومة تطبيقاً إلكترونياً للكشف عن إمكانية التعرض لخطر الإصابة بفيروس كورونا تحت عنوان "كاشف الاتصال القريب"، ويعمل التطبيق على إبلاغ مستخدميه إذا ما كانوا على مسافة قريبة من شخص مصاب، أو مشكوك في إصابته بفيروس كورونا.
وبحسب وكالة "شينخوا" الرسمية الصينية، فإن هيئات حكومية ومجموعة شركات الصين للتقنية الإلكترونية تعاونت معاً، لتطوير التطبيق ودعمه ببيانات قطاعي الصحة والنقل الحكوميين، لتعقب المصابين بكورونا والمخالطين لهم وحصر نطاق الإصابات، وإجبارهم على التزام بالحجر المنزلي، أو الدخول إلى المستشفيات للسيطرة على المرض.
وعلى الرغم من أن الصين أثارت جدلاً في السابق بفعل قوانين المراقبة والتتبع التي تطبقها على مواطنيها، إلا أن استخدامها لتقنيات التعقب والمراقبة في تتبع مصابي كورونا والمخالطين لهم، دفعت دولاً أخرى إلى اتباع النهج ذاته رغم الانتقادات السابقة التي كانت تلك الدول نفسها توجهها إلى بكين بسبب تحركاتها.
وكشف استطلاع للرأي أجري مؤخراً أن حوالي ثلثي السويسريين يؤيدون استخدام تطبيقات تتبع وتحديد مكان المصابين بفيروس كورونا، للمساعدة في السيطرة على انتشار العدوى، حيث تعمل تلك التطبيقات على تنبيه المستخدمين حين يكونون على مقربة من المصابين.
وتقوم فكرة البرنامج الذي طبقت الحكومة السويسرية استخدامه على أن تجري الهواتف الذكية المزودة بالتطبيق نفسه مسحاً مستمراً للبحث عن الأجهزة التي تدعم التطبيق عبر تقنية بلوتوث، وعندما يحدث اتصال، يسجّله الهاتفان، إذا كانا قريبين جداً بما يكفي لانتقال العدوى، وإذا تعرض أحد الأشخاص للإصابة، يتم تسجيلها على التطبيق، الذي يقوم حينها بالبحث في البيانات المسجلة لديه بالفعل، وينبه أي شخص كان قريباً جداً من المستخدم المصاب.
إسرائيل.. جدل حول "الشاباك"
في إسرائيل، ساد جدل كبير حول السماح لجهاز الأمن العام "الشاباك" باستخدام تقنيات التتبع لتعقب المصابين بفيروس كورونا والمخالطين لهم، والتأكد من التزام المصابين بالحجر المنزلي.
وبدأت الأزمة عقب قرار حكومة تسيير الأعمال في مارس الماضي بمنح "الشاباك" صلاحيات تعقب تحركات مصابي كورونا عبر بيانات موقع الهواتف المحمولة، وبطاقات الائتمان ومعلومات أخرى لم يكن يُسمح باستخدامها إلا في "مكافحة الإرهاب".
وبعد نحو 3 أشهر من الجدل، قررت الحكومة الإسرائيلية الجديدة في جلستها الأولى تجنب حالة الغضب الشعبي ضدها بسبب دور "الشاباك"، وإمكانية استخدام المعلومات التي يتم جمعها ضد المواطنين، وحصر دور "الشاباك" في تعقب مصابي كورونا في "الحالات الحرجة" فقط دون أن تلغي القرار السابق الذي أثار جدلاً حول الخصوصية الفردية وانتهاك أجهزة الأمن لها.
ووفقاً لمحضر اجتماع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، فإن تلك الحالات الخاصة هي "الحالات التي لا يمكن فيها استكمال تحديد موقع الأشخاص الذين خالطوا مرضى كورونا عبر التحقيقات الوبائية"، أي عبر إقرار المصابين بالفيروس بالأشخاص الذين التقوا بهم.
الأميركيون يكررون التاريخ
في أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر عام 2001، تحولت السياسة الأميركية داخلياً وخارجياً إلى مهمة "الحفاظ على الأمن القومي ومكافحة الإرهاب"، ما استدعى سلسلة من التغييرات والتشريعات القانونية التي سمحت للأجهزة الأمنية بالاطلاع على بيانات المواطنين والمقيمين في الولايات المتحدة لـ"أسباب أمنية"، وسط اتهامات لتلك الأجهزة وعلى رأسها مكتب التحقيقات الاتحادي (الفيدرالي) ووكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إيه)، بانتهاك خصوصية المواطنين تحت ذرائع واهية بـ"حماية الأمن القومي".
وعلى الرغم من مرور نحو عقدين على تلك الأحداث التي لا يزال العالم يعاني آثارها، يبدو أن الأميركيين يعيدون تكرار التاريخ بالموافقة على انتهاك خصوصياتهم في سبيل مكافحة فيروس كورونا والحد من وتيرة انتشار العدوى.
وبحسب استطلاع رأي أُجري مؤخراً في الولايات المتحدة، فإن نصف عينة الاستطلاع تقريباً أكدت أنها على استعداد لاستخدام تطبيقات التتبع من أجل إعلان إصابتهم بالفيروس، وإخطار المخالطين لهم عبر التطبيق باحتمالات إصابتهم بالعدوى.
وبحسب الاستطلاع الذي أجرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية فإن الديمقراطيين أكثر قابلية لاستخدام التطبيقات الخاصة بتتبع مصابي كورونا والمخالطين لهم، في حين أن النسبة الكبرى من المعترضين كانت من نصيب الجمهوريين والمحافظين الذين لا يأبهون من الأساس إذا ما تعرضوا للإصابة بالفيروس أم لا.
وأشار موقع "سي نت" الأميركي إلى أن الوكالات الأميركية المختلفة قررت تخفيف القيود على حماية البيانات الشخصية، والبيانات الطبية، في سبيل مكافحة انتشار فيروس كورونا، متوقعاً أن تكون هناك تساهلات أخرى في قوانين حماية البيانات الشخصية داخل الولايات المتحدة خلال الفترة المقبلة.
ويقول الموقع: "لجأت الإدارة الأميركية بالفعل إلى شركات ضخمة تعمل في مجال صناعة التكنولوجيا من أجل ابتكار تطبيقات لتحديد الكثافة السكانية في مختلف المناطق داخل الولايات المتحدة، إضافة إلى الحصول على المزيد من البيانات عن السكان وفئاتهم العمرية، من خلال تتبع استخدامهم لوسائل التكنولوجيا المختلفة".
ونقل الموقع عن نائب رئيس الرابطة الدولية للخصوصية عمر تيني قوله: "هناك محاولات من جانب الدول والشركات المختلفة ومؤسسات الأبحاث، من أجل الموازنة بين استخدام البيانات الشخصية للأفراد مثل أماكن وجودهم وبياناتهم الطبية، والحفاظ على الخصوصية الفردية في الوقت ذاته، إلا أنه في ظل عدم وجود قانون فيدرالي لحماية البيانات الشخصية في الولايات المتحدة، تتزايد المخاوف بشأن المدى الذي يمكن أن تُستخدم فيه البيانات الشخصية للمواطنين في أغراض مختلفة".
بداية عصر جديد
على مدى العقود القليلة الماضية، تطور مصطلح جديد في الأوساط الطبية تحت عنوان "امتياز الطبيب والمريض"، والذي يُعد مفهوماً قانونياً تخضع بموجبه بيانات المريض إلى الحماية الكاملة لمنع استغلالها ضد المريض بأي شكل من الأشكال من جانب الدولة أو المحاكم.
ويُمنع على الطبيب المُعالج الإفصاح عن تلك البيانات نهائياً، إلا بموجب موافقة كتابية من المريض نفسه أو في حالة وفاة المريض.
وعلى الرغم من أن دولاً محدودة هي من أقرت ذلك المفهوم القانوني وحولته إلى تشريع بالمعنى الكامل، فإن بيانات المرضى في مختلف أنحاء العالم خضعت لقانون غير رسمي مشابه. إلا أن انتشار فيروس كورونا يهدد كذلك فكرة سرية بيانات المرضى، ويعرضها لإمكانية الإفصاح عنها في أي وقت للسلطات المختلفة داخل أي دولة، في إطار تبادل المعلومات من أجل الحد من انتشار فيروس كورونا.
وأدت التطورات المتلاحقة والانتشار الهائل لفيروس كورونا، في وقت تسعى فيه معظم الدول إلى إنهاء إجراءات الإغلاق سريعاً، إلى إثارة الجدل حول إمكانية تبادل المعلومات الطبية بين الدول، واشتراط الإفصاح عنها من أجل السماح بالتنقل بين الدول مستقبلاً.
وتقول مجلة "ستات" الأميركية الطبية إن الحديث عن الإفصاح عن البيانات الطبية، سيتضمن الإفصاح عن كل البيانات المتعلقة بالتاريخ المرضي للشخص، بداية من درجة حرارته حتى التغيرات الجسدية والأمراض غير المعدية التي يتعرض لها.
وبحسب المجلة الأميركية فإن مشاركة البيانات الطبية الخاصة بالمرضى، ستندرج تحت إطار تكوين ملف طبي عن الشخص وتاريخه المرضي من أجل مشاركته مع المستشفيات المختلفة ومقدمي خدمات الرعاية الطبية عند الضرورة.
وتضيف المجلة: "على الرغم من أن تخفيف القيود المتعلقة بالإفصاح عن بيانات المرضى قد يكون أمراً مبرراً في حالات الكوارث، فإن الأزمة التي يحذر منها الخبراء هي ما يمكن أن يحدث في أعقاب القضاء على كورونا، حيث إن العالم سيكون أمام سؤال ما إذا كان سيعود إلى ما قبل عهد كورونا، أم أننا سنشهد عصراً جديداً تماماً، تكون فيه بيانات المرضى متاحة أمام الجميع ليس داخل الدولة الواحدة، بل في إطار تبادل المعلومات بين مختلف دول العالم".
وقبل أسابيع عدة، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حوار مع شبكة "فوكس نيوز" الأميركية يؤكد أنه سيتم العثور على لقاح لفيروس كورونا بحلول نهاية العام الجاري، وأنه يضغط بكل الأشكال الممكنة لإتاحة العلاج سريعاً، ما أثار تساؤلات حول هوية من يمكن أن ينخرطوا في البرامج التجريبية والتجارب السريرية للعلاجات واللقاحات المحتملة.
وتقول صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" إن هناك خيارين فقط أمام العلماء لمتابعة التجارب والأبحاث للتوصل إلى لقاح، أولهما أن ينتظروا تطوع المرضى أو المتعافين للانخراط في التجارب، وإجراء فحوصات لمعرفة إن كانوا مناسبين للانخراط في التجارب السريرية أم لا، وثانيهما أن يلجؤوا إلى وسائل أخرى، وهو ما يثير تساؤلات عدة بشأن مدى سرية بيانات المرضى والمعلومات الطبية بشكل عام.
وتضيف الصحيفة: "لن تكون هناك وسيلة أسرع من الخوض في الملفات الطبية وبيانات مختلف المرضى من أجل البحث عن الأشخاص المناسبين للانخراط في التجارب".
وفي ما يبدو أنه اتباع للنهج الثاني بالفعل، يقول المواطن الأميركي جويل إنجيل، إنه تلقى مكالمتين من جامعة كاليفورنيا بالفعل للانخراط في تجربة سريرية لم يتم إبلاغه بماهيتها، مضيفاً: "كان المتصلون يعرفون جيداً عمري الحقيقي، وأنني لا أعاني من أي أمراض حالية، وحين سألتهم عن كيفية حصولهم على تلك المعلومات، لم أحصل على أي إجابة مباشرة".
التحاليل الطبية وانتهاك الخصوصية
ولا تتوقف مخاطر انتهاكات الخصوصية الطبية عند هذا الحد، حيث إن إعادة فتح المطارات وتشغيل الرحلات الدولية يتطلب قيوداً صارمة من أجل منع انتشار الفيروس عبر المسافرين مرة أخرى، ما يعني أن القيود ستتضمن إجراء تحاليل طبية تثبت عدم الإصابة بالفيروس، والخضوع لفترة الحجر الصحي، وغيرها من الإجراءات الوقائية. إلا أن إجراء الفحوص الطبية يُشكل انتهاكاً لقوانين سرية البيانات الطبية رغم أهميته، حيث ستمتلك الحكومات عبر مطاراتها ملفات كاملة بالتاريخ الطبي والحمض النووي لكل شخص يرغب في السفر إلى دول أخرى.
وبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، فإن بعض الدول لجأت بالفعل إلى استخدام بيانات مواطنيها وزائريها من أجل حصر إصابات فيروس كورونا، فعلى سبيل المثال، نشرت سنغافورة البيانات الطبية والشخصية الخاصة بالمواطنين مثل العمر والجنس وتاريخ السفر والتنقل وعناوين العمل والمنازل والمناطق التي يزورها الشخص باستمرار، فيما نشرت هونغ كونغ بيانات أخرى مثل الاختلاط مع أشخاص ثبتت إصابتهم بالفيروس ومناطق العلاج المحتملة. أما كوريا الجنوبية فسمحت بنشر البيانات المتعلقة بالأشخاص المخالطين لمواطنين بعد ثبوت إصاباتهم، إضافة إلى المناطق التي زارها المصاب قبل إصابته مباشرة.
قوانين جديدة
وفي أعقاب أحداث 11سبتمبر عام 2001، تغيرت خارطة الحريات المدنية ليس في الولايات المتحدة وحسب وإنما في العالم أجمع، ما استدعى سن قوانين جديدة للإفراج عن المعلومات الشخصية في حالات الضرورة بهدف "حماية الأمن القومي"، وهو ما يبدو أنه سيتكرر من جديد مع تفشي فيروس كورونا في أنحاء العالم، ورغبة الحكومات في إعادة تشغيل اقتصاداتها، ما دفع مجلة "فورين بوليسي" الأميركية إلى التأكيد على أنه حان الوقت لإقرار قوانين جديدة في أنحاء العالم للحفاظ على سرية معلومات المدنيين، وضمان عدم استخدامها في ما ينتهك حرياتهم، مع ضمان عدم اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع انتشار الفيروس في الوقت نفسه.
من غرب العالم إلى شرقه، بات الجميع يبحث عن حلول لإعادة فتح الاقتصادات والحدود مرة أخرى، ما يعني أن المزيد من القيود الصارمة في الطريق من أجل السيطرة على انتشار كورونا، وللحفاظ على مواثيق احترام الخصوصيات والحريات. ربما يجد قادة العالم حلاً في مبادرة الأمم المتحدة التي أطلقتها عبر منتدى حوكمة الإنترنت في 12 من نوفمبر 2018، والتي تدعو إلى فضاء إلكتروني مملوء بالثقة يتم فيه احترام الخصوصيات، وضمان سرية البيانات الشخصية، والمبادئ الأخلاقية وخصوصيات الأفراد.