"حرب خفية".. كيف تتفوق بكتيريا الكوليرا على فيروسات "العاثيات"؟

time reading iconدقائق القراءة - 6
أشخاص يتلقون العلاج بمنشأة طوارئ لعلاج الكوليرا في زامبيا. 18 يناير 2024 - Reuters
أشخاص يتلقون العلاج بمنشأة طوارئ لعلاج الكوليرا في زامبيا. 18 يناير 2024 - Reuters
القاهرة-محمد منصور

نجح باحثون من المدرسة الفيدرالية في لوزان بسويسرا في فك لغز نجاح سلالات وبائية خطيرة من بكتيريا الكوليرا في مقاومة الفيروسات التي تهاجمها.

وكشفت الدراسة المنشورة في مجلة "نيتشر ميكروبيولوجي" (Nature Microbiology)، عن آليات دفاع متطورة تمكّن بكتيريا الكوليرا من الصمود أمام هجمات الفيروسات البكتيرية "العاثيات"، ما قد يفسر سبب تفشي بعض الأوبئة على نطاق واسع.

وركز البحث على السلالة المسؤولة عن الوباء الذي ضرب أميركا اللاتينية في تسعينيات القرن الماضي، حيث كشف عن وجود "ترسانة دفاعية" جينية فريدة تمنح البكتيريا مناعة ضد أنواع متعددة من الفيروسات.

حرب مجهرية شرسة

ولا تسلط هذه النتائج الضوء فقط على التطور المستمر للبكتيريا، بل قد تغيّر أيضاً استراتيجيات مكافحة الأوبئة في المستقبل.

وعندما نسمع عن الكوليرا، تتبادر إلى أذهان معظمنا صور المياه الملوثة، والتفشيات المأساوية للمرض في المناطق الهشة. لكن خلف الكواليس، تخوض بكتيريا الكوليرا حرباً مجهرية شرسة قد تحدد مسار الأوبئة العالمية.

بكتيريا الكوليرا لا تواجه فقط المضادات الحيوية وإجراءات الصحة العامة، بل تتعرض باستمرار لهجمات من "العاثيات"، وهي فيروسات تصيب البكتيريا وتقضي عليها، وهذه الفيروسات لا تؤثر فقط على العدوى الفردية، بل قد تحدّد مسار تفشي الوباء بالكامل.

بكتيريا "ضمة الكوليرا"

ويُعتَقد أن بعض أنواع العاثيات تلعب دوراً في تقليص حجم ومدة فاشيات الكوليرا من خلال استهداف بكتيريا "ضمة الكوليرا" المسببة للمرض.

منذ ستينيات القرن الماضي، يقود سلالات "إل تور" من الموجة السابعة لوباء الكوليرا (7PET) انتشار المرض عالمياً في موجات متتالية. وفي هذا السباق التطوري للتسلح، طورت البكتيريا آليات دفاعية لمواجهة هذه العاثيات.

تجدر الإشارة إلى أن "إل تور" هي سلالة وبائية من بكتيريا الكوليرا، وتتسم بقدرتها على الانتشار السريع والبقاء لفترات أطول في البيئة مقارنة بالسلالات الكلاسيكية، حيث تسبب عدوى قد تكون أقل حدة سريرياً، لكنها أكثر عدوى، ما يسهم في تفشي الأوبئة على نطاق واسع.

كما تمتلك هذه السلالة خصائص جينية تمكّنها من مقاومة بعض العاثيات (الفيروسات التي تهاجم البكتيريا)، ما يزيد من قدرتها على الاستمرار والتوسع جغرافياً.

فكيف تتمكن سلالات معينة من الكوليرا من تجنب هجمات الفيروسات بنجاح؟ وهل يمكن أن يعزز ذلك تأثيرها المدمر على البشر؟

وباء الكوليرا الأكثر غموضاً

قال الباحثون إن واحدة من أكثر الفاشيات غموضاً حدثت في أوائل التسعينيات، عندما اجتاح وباء الكوليرا بيرو وأجزاء كبيرة من أميركا اللاتينية، ما أدى إلى إصابة أكثر من مليون شخص وتسبب في وفاة آلاف. كانت السلالات المسؤولة تنتمي إلى سلالة تُعرف باسم WASA من بكتيريا الكوليرا.

وحتى اليوم، لا يزال السبب وراء تفشي هذا الوباء على نطاق واسع في أميركا اللاتينية غير مفهوم تماماً.

وكشف البحث الجديد الذي أجراه علماء من المعهد العالمي للصحة، التابع للمدرسة الفيدرالية في لوزان، عن أحد أسرار هذه السلالة، وقال إن سلالة WASA اكتسبت عدة أنظمة مناعية بكتيرية متخصصة، مكّنتها من مقاومة أنواع متعددة من العاثيات، وربما ساعدتها هذه الدفاعات في الانتشار الواسع خلال الوباء في أميركا اللاتينية.

حلل الباحثون سلالات الكوليرا البيروفية من التسعينيات لمعرفة مقاومتها للعاثيات، وخاصة الفيروس المهيمن المعروف باسم ICP1، الذي يُعتقد أنه يلعب دوراً رئيسياً في الحد من تفشي الكوليرا في بنجلاديش.

وأظهرت الدراسة أن السلالات البيروفية أظهرت مناعة ضد ICP1، بينما لم تكن السلالات الأخرى الممثلة للموجة السابعة محصنة ضده.

من خلال حذف أجزاء محددة من الحمض النووي للسلالة، وإدخال جيناتها في سلالات بكتيرية أخرى لاختبار وظيفتها، حدد الفريق منطقتين دفاعيتين رئيسيتين في جينوم سلالة WASA داخل ما يُسمى بالعاثية الذاتية WASA-1، والجزيرة الجينومية المعروفة باسم VSP-II.

نظام مناعي بكتيري

وتحتوي هذه المناطق على أنظمة متخصصة مضادة للعاثيات تعمل معاً لإنشاء نظام مناعي بكتيري قادر على صد العدوى الفيروسية.

ويحفز أحد هذه الأنظمة المسمى بـWonAB استجابة "عدوى فاشلة" تقتل الخلايا المصابة قبل أن تتكاثر الفيروسات، ما يضحي بعدد قليل من البكتيريا لإنقاذ المجتمع البكتيري الأكبر.

وتختلف هذه الاستراتيجية عن الأنظمة المناعية البكتيرية الكلاسيكية، مثل أنظمة التعديل والقص التي تحطم الحمض النووي للفيروس عند دخوله الخلية.

واكتشف الباحثون كذلك نظامين آخرين هما، GrwAB وVcSduA، يقدمان حماية إضافية، إذ يستهدف GrwAB الفيروسات ذات الحمض النووي المعدل كيميائياً، وهي استراتيجية تستخدمها العاثيات للتمويه، بينما يعمل VcSduA ضد عائلات مختلفة من الفيروسات، مما يوفر طبقات متعددة من الحماية.

وتمتلك سلالة WASA من بكتيريا الكوليرا ترسانة موسعة من أنظمة الدفاع المضادة للعاثيات، ما يمكنها من مقاومة مجموعة واسعة من الفيروسات، بما في ذلك الفيروس الرئيسي ICP1.

وأشار الباحثون إلى أن فهم كيفية مقاومة البكتيريا الوبائية للفيروسات أمر بالغ الأهمية، خاصة مع عودة الاهتمام بـ"العلاج بالعاثيات" واستخدام الفيروسات لعلاج الالتهابات البكتيرية كبديل للمضادات الحيوية، فإذا كانت بكتيريا، مثل "ضمة الكوليرا"، قادرة على تعزيز قدرتها على الانتقال باكتساب دفاعات ضد الفيروسات، فقد يغير ذلك طريقة مكافحة المرض ومراقبته وعلاجه.

كما أكد البحث على أهمية دراسة التفاعلات بين الفيروسات والبكتيريا عند إدارة تفشي الأمراض المعدية.

تصنيفات

قصص قد تهمك