اكتشاف دور جديد لبروتين قديم في حماية المادة الوراثية داخل الخلايا

time reading iconدقائق القراءة - 11
صورة توضح أن بروتين دايسر في خلايا الخميرة يحمي الحمض النووي (الأزرق الساطع) من خلال المساعدة في حل التعارضات بين النسخ والتضاعف - https://martienssenlab.labsites.cshl.edu
صورة توضح أن بروتين دايسر في خلايا الخميرة يحمي الحمض النووي (الأزرق الساطع) من خلال المساعدة في حل التعارضات بين النسخ والتضاعف - https://martienssenlab.labsites.cshl.edu
القاهرة -محمد منصور

أفادت دراسة حديثة بأن بروتيناً قديماً يعرف باسم Dicer يلعب دورا أساسياً في حماية المادة الوراثية داخل الخلايا، ليس فقط في الإنسان، بل في الكائنات البسيطة مثل الخميرة.

وتوصلت الدراسة، التي أجراها باحثون بمختبر Cold Spring Harbor في الولايات المتحدة، أن هذا البروتين القديم يساعد في منع تصادم العمليات الحيوية الأساسية داخل الخلية، الأمر الذي يحمي الحمض النووي من التلف والطفرات التي قد تؤدي إلى الإصابة بمرض السرطان.

وأوضحت الدراسة أن التشابه بين الإنسان والخميرة، رغم الاختلاف الهائل في الشكل والتعقيد، يعود إلى أصل مشترك يعرف باسم "آخر سلف مشترك لحقيقيات النوى"، وهو كائن وحيد الخلية عاش قبل نحو 2 مليار سنة، هذا السلف ترك وراءه إرثاً جزيئياً مهما تمثل في بروتين "دايسر" الذي لا يزال يؤدي وظائف حيوية في حفظ استقرار الجينوم لدى الإنسان وبعض أنواع الخميرة.

وأكد الباحث الرئيسي في الدراسة، روبرت مارتينسن، أستاذ علم الأحياء في المختبر، أن بروتين دايسر "قديم للغاية"، وأن العلماء يفهمون جيداً كيف يتفاعل هذا البروتين مباشرة مع الحمض النووي الريبي، لكن الطريقة التي ينفذ بها ذلك داخل سياق الجينوم الكامل، وتأثيره في استقرار المادة الوراثية، لا تزال قيد البحث.

وأوضح مارتينسن، أن "دايسر" يساعد في حل النزاعات التي تنشأ بين عمليتي النسخ؛ وهي عملية تحويل الحمض النووي الريبوزي منزوع الأكسجين DNA إلى الحمض النووي الريبوزي RNA، والتضاعف وهي عملية نسخ الحمض النووي ذاته. 

فعندما تتصادم هاتان العمليتان داخل الخلية، يمكن أن تتكون بنى هجينة تعرف باسم "حلقات R"، تتألف من الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي معا، ما يعطل عمل الإنزيمات المسؤولة عن النسخ والتضاعف، ويعرض المادة الوراثية لأضرار خطيرة.

وبينت الدراسة أن العلماء كانوا يعتقدون سابقاً أن الإنزيم المسمى "RNase H" هو وحده المسؤول عن إزالة تلك البنى المختلة وحل النزاعات بين النسخ والتضاعف. غير أن النتائج الجديدة أوضحت أن هذا الإنزيم لا يستطيع أداء مهمته دون مشاركة "دايسر" وأن الاثنين يعملان معاً للحفاظ على انسيابية العمليات الجينية الحيوية داخل الخلية.

وأكد الباحثون أن غياب دايسر لا يمنع عملية الإصلاح تماماً، لكنه يجعلها غير دقيقة، فتحدث طفرات في الحمض النووي يمكن أن تتراكم مع مرور الوقت، مسببة السرطان وأمراضاً أخرى مرتبطة بعدم استقرار الجينوم. 

وأظهرت التجارب التي أجراها الفريق على خلايا الخميرة أن إيقاف عمل دايسر يؤدي إلى تراكم هائل لتصادمات النسخ والتضاعف، ما يشير إلى الدور الجوهري الذي يؤديه هذا البروتين في ضبط إيقاع العمليات الحيوية داخل الخلية.

أوضحت الدراسة أن الإنسان لديه نظام أكثر تعقيداً للسيطرة على تلك التصادمات، إذ يتضمن تركيباً بروتينياً يعرف باسم "مركب الإنتجريتور"، يعمل على إبطاء الإنزيم المسؤول عن النسخ بشكل منسق عند الحاجة، أما في الخميرة، فيتولى دايسر وحده هذه المهمة الحساسة، وعندما عطل الباحثون عمل دايسر في الخلايا، لاحظوا أن البروتين المرتبط به والمسمى "أرجوناوت" (Ago) لم يعوض غيابه كما كان متوقعاً، بل فاقم المشكلة.

وبين روبرت مارتينسن أن فريق البحث كان يتوقع أن يؤدي أرجوناوت الدور نفسه الذي يؤديه دايسر، بسبب ارتباط البروتينين عادة في منظومة واحدة تعتمد على جزيئات الحمض النووي الريبوزي الصغيرة، لكن النتائج جاءت مختلفة تماماً.

وعلق مارتينسن على المفاجأة بقوله: "كنا نعتقد أن أرجوناوت سيكون شبيهاً بدايسر، لكننا وجدنا أنه يفعل العكس تماماً، وهذا أمر جنوني حرفياً".

وأضاف أن بروتين أرجوناوت يرتبط عادة بجزيئات الحمض النووي الريبوزي الصغيرة والتي ينتجها "دايسر" لتوجيه عمليات الدفاع الجزيئي داخل الخلية، لكن عند غياب "دايسر" لا تتكون تلك الجزيئات الصغيرة الطبيعية، فيبدأ أرجوناوت في الارتباط بجزيئات غير مناسبة ناتجة من حلقات R، ما يجعله جزءا من المشكلة بدلاً من أن يكون جزءاً من الحل، وتشير هذه النتيجة إلى أن النظام الخلوي في غياب دايسر يتحول من منظومة دفاعية إلى أخرى ذات تأثير مدمر.

واستنتج الباحثون أن وظيفة دايسر لا تقتصر على إنتاج جزيئات الحمض النووي الريبوزي منزوع الأكسجين الصغيرة، كما كان يعتقد سابقاً، بل تمتد إلى لعب دور تنظيمي أوسع يتعلق بالحفاظ على استقرار الجينوم نفسه ومنع تراكم الأخطاء أثناء عملية النسخ والتضاعف، ويعيد هذا الاكتشاف رسم الصورة الكاملة لدور هذا البروتين في الحياة الخلوية، ويغير الطريقة التي ينظر بها العلماء إلى جذور الأنظمة الوراثية.

وسعى فريق البحث إلى رسم خريطة شاملة لوظيفة دايسر داخل الجينوم، وأوضح مارتينسن أن دايسر طالما اعتبر جزءاً من "نظام مناعة جزيئي" يساعد الخلية على مقاومة الفيروسات وتنظيم الجينات، لكن الدلائل الجديدة تشير إلى أن هذا البروتين نشأ في الأصل من آليات أقدم تتعلق بتنظيم عمليتي النسخ والتضاعف في الكائنات الأولى.

وقال مارتينسن: "هذا له آثار عميقة على فهمنا لدايسر وعلى الطريقة التي نفكر بها في العمليات الأساسية للحياة نفسها".

وأشارت الدراسة إلى أن الفهم الجديد لوظيفة دايسر يربط بين مجالين كانا يعتقد أنهما منفصلان؛ فتنظيم الجينات عبر جزيئات الحمض النووي الريبوزي الصغيرة، والحفاظ على سلامة الحمض النووي أثناء العمليات الحيوية.

وتوضح هذه الصلة أن الدفاعات الجزيئية التي تطورت لاحقاً في الكائنات المعقدة ربما كانت في الأصل مجرد امتداد لآليات أقدم تهدف إلى حماية الجينوم من الفوضى الداخلية التي تسببها تصادمات النسخ والتضاعف.

وأكد الباحثون أن اكتشاف هذا الدور المزدوج لـ"دايسر" يعيد التفكير في كيفية تطور الأنظمة الخلوية القديمة، فبينما كانت النظريات السابقة ترى أن دايسر ظهر أولاً كجزء من نظام دفاعي لمواجهة الفيروسات، فإن الأدلة الحالية تشير إلى أن وظيفته الأصلية كانت داخلية بحتة، تتعلق بصيانة الجينوم وضمان دقته أثناء التكاثر الخلوي.

ومع مرور الزمن، تحولت تلك الوظيفة إلى أداة أكثر تخصصاً تستخدمها الخلايا في تنظيم نشاط الجينات والتفاعل مع البيئة.

ما هو البروتين دايسر؟

  • بروتين قديم جدًا يعود إلى آخر سلف مشترك لحقيقيات النوى (LECA) الذي عاش قبل نحو 2 مليار سنة.
  • يوجد في الإنسان وبعض أنواع الخميرة، ويعد من العناصر الأساسية في الحفاظ على استقرار الجينوم.
  • يعمل كأداة إصلاح جزيئية داخل الخلية، تساعد في منع التصادم بين عمليتي النسخ والتضاعف. 
  • يساعد في حل النزاعات بين النسخ والتضاعف عبر إبطاء إنزيم النسخ مؤقتاً، ما يمنح الخلية وقتا لإصلاح الأخطاء.
  • يمنع تكون البنى الهجينة المعروفة باسم حلقات (R-loops) التي قد تسبب تلف الحمض النووي والطفرات المؤدية إلى السرطان.
  • يعمل بالتعاون مع إنزيم RNase H لتنظيف تلك الحلقات ومنع تراكمها.
  • ينتج جزيئات RNA صغيرة (small RNAs) تلعب دورًا في تنظيم الجينات والدفاع ضد الفيروسات.
  • يتفاعل عادة مع بروتين آخر يسمى أرجوناوت  (Ago)؛ إذ يقوم دايسر بإنتاج الجزيئات الصغيرة التي يرتبط بها أرجوناوت لتوجيه النشاط الجيني.
  • عند غياب دايسر، يفقد أرجوناوت وظيفته الطبيعية، ويتحول إلى عامل مسبب للفوضى الجينية بارتباطه بجزيئات RNA خاطئة.
  • يعتبر جزءا من نظام المناعة الجزيئي للخلية، لكنه في الأصل تطوّر من آليات إصلاح النسخ والتضاعف القديمة.
  • يلعب دوراً محوريًا في منع الطفرات الوراثية، وفي حماية الخلايا من تراكم الأضرار التي قد تؤدي إلى السرطان.
  • يعد نموذجاً على كيفية احتفاظ الحياة الحديثة بأدواتها القديمة، إذ لا تزال الخلايا تستخدمه حتى اليوم للحفاظ على سلامة الجينوم وتنظيم التعبير الجيني.

اعتبر فريق البحث أن نتائج الدراسة تعطي لمحة عن أصول أقدم لما يحدث اليوم في خلايا الإنسان؛ فالكائنات وحيدة الخلية مثل الخميرة تمثل نموذجاً بدائياً لآليات الحياة التي تطورت لاحقاً في الكائنات الأعلى، ومن خلال دراسة تلك النماذج، يمكن للعلماء فهم كيفية نشوء العمليات الجزيئية التي تحافظ على استقرار الجينوم البشري، وتمنع تراكم الأخطاء المميتة.

ولفت مارتينسن إلى أن العلاقة بين دايسر وأرجوناوت تمثل لغزاً آخر في هذا السياق، إذ يبدوان كوجهين لعملة واحدة؛ أحدهما يضبط النظام والآخر يختل عند غياب شريكه؛ وهذا التفاعل بين البروتينين يكشف عن حساسية عالية داخل الآلة الجينية للخلية، إذ يمكن لأي خلل بسيط أن يقلب النظام رأساً على عقب.

وأوضحت الدراسة أن فهم تلك التفاعلات على مستوى الجزيئات يفتح الباب أمام أبحاث مستقبلية يمكن أن تساعد في تطوير طرق جديدة لعلاج السرطان وأمراض أخرى ناتجة عن اضطراب استقرار الجينوم، فإذا كان دايسر قادراً على ضبط عملية النسخ والتضاعف ومنع الطفرات في الخميرة، فمن المرجح أن يؤدي دوراً مشابهاً في خلايا الإنسان، وربما يمكن استغلال هذه الخاصية في تصميم أدوية أو تقنيات جينية تحافظ على سلامة الحمض النووي أثناء تعرضه للإجهاد أو العلاج الكيميائي.

وشدد مارتينسن على أن الفكرة الجوهرية وراء هذا البحث هي أن العمليات التي نحسبها اليوم "حديثة" أو "معقدة" في الخلايا البشرية تعود في الواقع إلى جذور بسيطة وقديمة للغاية.

وقال: "عندما ننظر إلى دايسر، نحن لا نرى مجرد بروتين موجود في الخلايا الحديثة، بل نرى قطعة أثرية بيولوجية من الماضي السحيق، بقيت تعمل لأن الحياة لم تجد وسيلة أفضل بعد لأداء هذه الوظيفة الحيوية".

أظهرت النتائج أيضا أن تصادم النسخ والتضاعف ليس مجرد ظاهرة نادرة، بل تحد يومي تواجهه كل خلية أثناء نموها وانقسامها. ولولا آليات مثل تلك التي ينفذها دايسر وRNase H، لكانت الجينومات عرضة لتدهور سريع وفوضى جينية لا يمكن السيطرة عليها.

وبينت التجارب أن الخلايا التي تفتقر إلى دايسر قادرة على البقاء لفترة، لكنها تصبح مع مرور الوقت أكثر عرضة للانقسام الخاطئ والطفرات، وهو ما يشبه ما يحدث في الخلايا السرطانية التي تفقد السيطرة على نظم الإصلاح الجزيئي. هذا التشابه يعزز فرضية أن دراسة الكائنات البسيطة يمكن أن تقدم مفاتيح لفهم أمراض الإنسان المعقدة.

وأكد الباحثون أن الخطوة التالية ستكون تحليل دور دايسر في أنواع مختلفة من الخلايا البشرية، خصوصاً تلك التي تتعرض لضغط تكاثري عال مثل خلايا الجلد والجهاز الهضمي. كما يعتزم الفريق دراسة كيفية تفاعل دايسر مع مركب الإنتجريتور في الإنسان، لمعرفة ما إذا كانت هناك آلية مشتركة بين النوعين أم أن كل نظام تطور بشكل مستقل.

وأشار مارتينسن إلى أن البحث لا يقتصر على فهم بروتين واحد، بل يسلط الضوء على القواعد العامة التي قامت عليها الحياة، موضحاً: "عندما نتحدث عن دايسر، نحن في الحقيقة نتحدث عن جذور التوازن داخل الخلية، وعن كيفية بقاء النظام قائماً، رغم الفوضى المحتملة التي تحيط به. هذا الفهم لا يساعدنا فقط في معرفة أصول الحياة، بل ربما يرشدنا أيضاً إلى طرق لحمايتها من الانهيار".

تصنيفات

قصص قد تهمك