دخلت الولايات المتحدة فصلاً جديداً في مواجهة مخدر الفنتانيل، أخطر المواد المخدرة على الإطلاق، بعد توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أمراً تنفيذياً، الاثنين، يقضي بتصنيفه كـ"سلاح دمار شامل".
ويأتي قرار ترمب عقب سلسلة من الإجراءات التصعيدية، التي بدأها بالرسوم الجمركية، ضد الدول التي يتسلل منها ذلك المخدر إلى شوارع المدن الكبرى، ليحصد الأرواح، ويُشعل حروباً سياسية وتجارية بين الدول.
واعتبر ترمب أن إغراق بلاده بمخدر الفنتانيل يمثل "تهديداً عسكرياً"، مشيراً إلى أن "ما بين 200 و300 ألف شخص يموتون سنوياً، بحسب ما نعلم، لذلك سنُصنّف الفنتانيل رسمياً كسلاح دمار شامل"، فما هو هذا المخدر؟
مخدر الفنتانيل
بجرعة لا تتجاوز حبة ملح، يستطيع الفنتانيل أن ينهي حياة إنسان ضخم الجثة، ومع اتساع رقعة تهريبه من معامل غير مرخصة في الصين، والمكسيك إلى الأسواق الأميركية، تصاعدت تداعياته الصحية والاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق.
وبينما تكافح الحكومات لإنقاذ أرواح مواطنيها، اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب موقفاً صارماً، بشكل تصاعدي، في مواجهة الدول التي تصدره.
فكيف انتقل هذا المخدر من غرف العمليات إلى قلب المعركة التجارية العالمية؟ ولماذا باتت مكافحته أولوية ملحة تتجاوز الحدود؟
1) ما هو الفنتانيل؟ ولماذا يُعتبر الأخطر بين المخدرات؟
الفنتانيل عقار أفيوني صناعي فائق القوة، ابتُكر للاستخدام الطبي كمُسكن للآلام الشديدة والتخدير، ويُصنف ضمن فئة المواد الخاضعة للرقابة (Schedule II) في الولايات المتحدة.
يتميز بفاعلية تفوق المورفين بـ50 إلى 100 مرة، والهيروين بـ50 مرة، وفقاً لإدارة مكافحة المخدرات الأميركية (DEA)، ما يجعل جرعات صغيرة جداً منه قاتلة، إذ يكفي كيلوجرام واحد لقتل نحو 500 ألف شخص.
وعلى الرغم من استخدامه المشروع تحت إشراف طبي صارم، إلا أن الفنتانيل تحول خلال العقدين الماضيين إلى أكثر مخدر قاتل، مع انتشار إنتاجه غير القانوني في معامل سرية لا تخضع للرقابة.
وغالباً ما يُخلط الفنتانيل المُهرب مع مخدرات مثل الهيروين، أو الكوكايين، أو يُضغط على هيئة أقراص مزيفة، ما يزيد احتمالات حدوث تفاعلات قاتلة، وتلجأ شبكات التهريب إلى هذا المزج لخفض التكاليف وزيادة الفاعلية، ما يضاعف خطر الوفاة، ويجعل الفنتانيل أخطر مخدر حالياً على الإطلاق.
2) أين تنتشر مادة الفنتانيل؟
ينتشر الفنتانيل بشكل واسع في أميركا الشمالية، حيث تُعد الولايات المتحدة السوق الأكثر تضرراً من هذا المخدر، سواء من حيث الاستهلاك، أو أعداد الوفيات الناتجة عن الجرعات الزائدة، أما من حيث الإنتاج والتهريب، فتُعتبر الصين والمكسيك المصدرين الرئيسيين للفنتانيل غير المشروع، وفقاً لتقارير إدارة مكافحة المخدرات الأميركية (DEA).
وتُعد الصين المورد الأساسي للمواد الكيميائية الأولية اللازمة لصناعة الفنتانيل، بحسب تقرير مكتب مدير الاستخبارات الوطني الأميركي لعام 2025.
وأفادت وثائق وزارة الخزانة الأميركية بأن الشركات الصينية تروج لتلك المواد عبر منصات التجارة الإلكترونية، رغم الإجراءات التنظيمية المشددة التي فرضتها بكين؛ ففي فبراير 2025، وجهت السلطات الأميركية اتهامات لشركة "هوبي أوكس بايو-تك" (Hubei Aoks Bio-Tech) الصينية ببيع 11 كيلوجراماً من مواد أولية للفنتانيل قادرة على إنتاج ملايين الجرعات المميتة.
المكسيك، هي مركز التصنيع الرئيسي للفنتانيل النهائي الذي يُهرب إلى الولايات المتحدة. وتسيطر كارتيلات مثل سينالوا، وخاليسكو نيو جينيراشين على غالبية هذه العمليات، باستخدام مختبرات صناعية متطورة لإنتاج الفنتانيل والأقراص المزيفة، وفقاً لإدارة مكافحة المخدرات الأميركية.
إضافة إلى ذلك، برزت الهند كمصدرٍ متنامٍ لمواد الفنتانيل الأولية، وإن كان دورها أقل حجماً. فوفقاً لتقرير إدارة مكافحة المخدرات، تعاون تجار هنود مع كارتيل سينالوا المكسيكي لتوريد مواد محظورة مثل NPP، وANPP، بعدما شددت الصين رقابتها عليها.
وأظهرت بيانات هيئة الجمارك وحماية الحدود الأميركية أن 98% من الفنتانيل المصادر على الحدود مصدره المكسيك، بينما لا تتجاوز النسبة القادمة من كندا 1%. ومع ذلك، تشير تقارير البيت الأبيض إلى أن كارتيلات مكسيكية تُشغل مختبرات لتصنيع الفنتانيل ومشتقاته في الأراضي الكندية.
واستجابت كندا لهذه التطورات بتخصيص 900 مليون دولار إضافية لأمن الحدود، وتعيين مسؤول خاص لمكافحة أزمة الفنتانيل، بحسب مجلس العلاقات الخارجية (CFR).
3) لماذا يستهدف ترمب الدول التي تصدر الفنتانيل؟
تبنى ترمب موقفاً صارماً تجاه أزمة الفنتانيل، معتبراً إياها تهديداً قومياً طارئاً يتطلب رداً حازماً، ورأى أن موجة الوفيات غير المسبوقة الناتجة عن الجرعات الزائدة تعود بدرجة كبيرة إلى تدفق الفنتانيل من الخارج، خاصة من الصين والمكسيك؛ وبناءً عليه، استخدم ترمب الرسوم الجمركية كأداة ضغط لمعاقبة الدول التي اتهمها بالتقاعس في وقف تصدير هذه المادة القاتلة، وفي خطاباته العلنية، ربط بين مكافحة الفنتانيل وتأمين الحدود، معتبراً الرسوم وسيلة مشروعة لحث الشركاء التجاريين على التعاون في وقف تهريب المخدرات.
وفي ولايته الثانية، اتخذ ترمب سلسلة خطوات غير معهودة باستخدام الرسوم الجمركية في سياق مكافحة المخدرات، إذ فرض في فبراير 2025 رسوماً بنسبة 20% على واردات الصين، متهماً إياها بالتقاعس عن وقف شحنات المواد الأولية لصناعة الفنتانيل، بحسب وكالة "رويترز".
كما صعد الضغط على كندا، معلناً عن رسوم بنسبة 35% على صادراتها إلى الولايات المتحدة؛ بسبب فشلها في كبح تهريب الفنتانيل عبر الحدود الجنوبية، أما المكسيك، فتلقت تهديدات مشابهة بفرض رسوم إضافية ما لم تشدد رقابتها على الحدود.
لم يُخفِ ترمب أهدافه من هذه الإجراءات، إذ أكد علناً أن الرسوم وسيلة ضغط مشروعة لدفع الدول إلى التعاون مع واشنطن في جهود وقف تدفق الفنتانيل؛ وأشار إلى أن أي دولة تُبدي التزاماً ملموساً بمكافحة هذه التجارة ستُكافأ بإعادة النظر في الرسوم المفروضة عليها، ووفي هذا السياق، وجه رسالة رسمية لرئيس الوزراء الكندي لمحاولة التفاوض بشأن تخفيف الرسوم مقابل تعزيز التعاون الحدودي لوقف تهريب المخدرات عبر حدودها.
في المقابل، اتهمت الصين إدارة ترمب باستخدام قضية الفنتانيل كذريعة ضمن حرب تجارية أوسع؛ ومع ذلك، أعلنت بكين في منتصف 2025 عن تشديد الرقابة على مادتين كيميائيتين رئيسيتين تدخلان في تصنيع الفنتانيل، فيما اعتُبر محاولة لاحتواء التوتر التجاري.
إجراءات ترمب ضد الفنتانيل
إلى جانب الرسوم الجمركية، شدد ترمب أيضاً الجبهة الداخلية ضد الفنتانيل، إذ وقع على قانون "وقف الفنتانيل" (HALT Fentanyl Act) في يوليو الماضي، والذي صنف جميع مشتقات الفنتانيل كمواد محظورة بشكل دائم، وشدد العقوبات على كل من "يحوزها أو يستوردها أو يوزعها أو يصنعها".
وقال ترمب أثناء توقيع القانون: "أي شخص يُضبط وهو يتاجر بهذه السموم غير القانونية سيُعاقب بعقوبة سجن إلزامية لا تقل عن 10 سنوات... لن نرتاح حتى نقضي على وباء الجرعات الزائدة من المخدرات".
وبعد تصنيفه كسلاح دمار شامل، الاثنين، قال ترمب إن الولايات المتحدة تحاول التصدي لـ"غزو" المخدرات بمساعدة القوات المسلحة، موضحاً: "إنهم يحاولون إغراق بلدنا بالمخدرات. ونحن نعكس هذا المسار بسرعة كبيرة، في الواقع، وبمساعدة أفراد قواتنا العظيمة، أوقفنا هذا الغزو في مساره، ونفكك الكارتلات (العصابات) بسرعة كبيرة، وجرى تصنيفها كأعداء للولايات المتحدة، وتم إعلان ذلك رسمياً وبشكل قانوني".
بهذه الخطوات، جسد ترمب استراتيجية مزدوجة تستهدف الفنتانيل تجارياً وقانونياً، ضمن معركة يعتبرها حاسمة لإنقاذ الأرواح واستعادة الأمن الداخلي.
4) ما أثر الفنتانيل اجتماعياً وصحياً واقتصادياً؟
أزمة الفنتانيل خلفت تداعيات صحية واجتماعية كارثية في الولايات المتحدة، حيث تجاوز عدد ضحايا الجرعات الزائدة 100 ألف حالة وفاة عام 2023، شكل الفنتانيل وحده نحو 74 ألفاً منها، أي ما يقارب ثلثي الوفيات.
ورغم تسجيل انخفاض طفيف في الأعداد مقارنة بالسنوات الماضية، إلا أن المعدل السنوي لا يزال يفوق 107 آلاف وفاة، وباتت الجرعات الزائدة السبب الأول للوفاة بين الأميركيين تحت سن الخمسين، مزهقة أرواحاً أكثر من أمراض القلب والسرطان وغيرهما.
وأفادت بيانات هيئة مكافحة المخدرات الأميركية، بأن 70% من هذه الوفيات بسبب الأفيونات الصناعية، وعلى رأسها الفنتانيل. ومنذ عام 2001، فقدت الولايات المتحدة أكثر من مليون شخص بسبب جرعات المخدرات الزائدة، بينها 450 ألف حالة في العقد الأخير نتيجة الفنتانيل ومشتقاته الصناعية.
وأدت أزمة الفنتانيل إلى إنهاك النظام الصحي، إذ تستقبل المستشفيات وغرف الطوارئ أعداداً متزايدة من حالات التسمم بالأفيونات، ما فرض ضغطاً كبيراً على العاملين في الطوارئ، ووسعت السلطات الصحية برامج توزيع عقار "نالوكسون" وتدريب المجتمعات على استخدامه لإنقاذ الضحايا ميدانياً، ووفق المعهد الوطني لتعاطي المخدرات، بلغ عدد الأميركيين المصابين باضطراب استخدام الأفيونات نحو 5.7 مليون شخص عام 2023، أي 3 أضعاف ما كان قبل سنوات، لكن واحداً فقط من كل خمسة يتلقى العلاج، ما يفاقم الأثر المجتمعي للإدمان من بطالة وتشرد وجرائم.
وبلغت التكلفة الاقتصادية لأزمة الفنتانيل في الولايات المتحدة نحو 2.7 تريليون دولار عام 2023، وفقاً لتقديرات البيت الأبيض، وهو ما يعادل 9.7% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يوضح العبء الاقتصادي الهائل للأزمة.
وتشمل هذه الخسائر أكثر من 1.1 تريليون دولار بسبب الوفيات المبكرة، و1.34 تريليون دولار نتيجة تدهور جودة الحياة لملايين المدمنين، إلى جانب 277 مليار دولار كنفقات مباشرة على الصحة وإنفاذ القانون والسجون.
ويشكل علاج الإدمان وحالات الطوارئ عبئاً بمئات المليارات على النظام الصحي، بينما يتكبد الاقتصاد خسائر فادحة في الإنتاج جراء غياب العاملين أو وفاتهم.
وتشير دراسة للكونجرس الأميركي إلى أن التكلفة السنوية لوباء الأفيونات بلغت 1.5 تريليون دولار في 2020، وواصلت الارتفاع بشكل حاد خلال السنوات الأخيرة.
ولا تقتصر آثار الفنتانيل على الأرقام، بل لها ارتدادات اجتماعية عميقة، إذ بات تعاطي أي مخدر غير مشروع مجازفة قاتلة لاحتمال احتوائه على الفنتانيل، كما أدت الأزمة إلى زيادة عدد الأطفال في دور الرعاية جراء وفاة ذويهم بالجرعة الزائدة، وفرضت ضغطاً متزايداً على النظام القضائي والسجون.
باختصار، تمثل أزمة الفنتانيل كارثة صحية واجتماعية واقتصادية شاملة، تُزهق الأرواح، وتفكك الأسر، وتستنزف الموازنات، بل وتؤثر على العلاقات التجارية الدولية، ما يجعل مكافحتها أولوية ملحة على مستوى العالم.










