يُعد تبادل الحزبين الديمقراطي والجمهوري الاتهامات بشأن مسؤولية كل منهما عن بدء الحروب أحد أكثر النقاشات السياسية المتكررة، خاصة في ظل الحروب المشتعلة حول العالم اليوم، وضلوع الولايات المتحدة فيها بشكل أو بآخر.
تدعم إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن إسرائيل في حربها على قطاع غزة وجنوب لبنان، وفي الوقت نفسه تمول الولايات المتحدة أوكرانيا في الحرب ضد روسيا.
وبينما يُشار سياسياً إلى أن الحزب الديمقراطي يعارض الحرب بشكل عام، فإن معظم الحروب الكبرى التي خاضتها الولايات المتحدة في القرن العشرين، كانت بقيادة إدارات ديمقراطية، كما يظل الرئيس الديمقراطي هاري ترومان الوحيد في العالم الذي استخدم السلاح النووي ضد شعب بأكمله.
لكن الخبير السياسي بيتر كوزنيك، مدير معهد الدراسات النووية بـ"الجامعة الأميركية في واشنطن"، يتحفّظ على فرضية أن الديمقراطيين هم الذين يبدؤون الحروب والجمهوريون هم الذين ينهونها، مشيراً في حديثه مع "الشرق" إلى أن لكل حرب ظروفها المختلفة، وأن "التاريخ أكثر تعقيداً من ذلك".
ومع ذلك، لا ينكر كوزنيك أن هناك ضغط هائل مستمر لتغذية آلة الحرب الأميركية سواء في الإدارات الجمهورية أو الديمقراطية، مع تفوق الأخيرة مؤخراً.
لسنوات عديدة، أنفقت الولايات المتحدة على الجيش أكثر مما أنفقته جميع دول العالم مجتمعة، وما زالت تنفق على جيشها أكثر من الدول العشر التي تأتي بعدها في الإنفاق العسكري. وحتى وقت قريب، كانت الزيادة السنوية في ميزانية الدفاع الأميركية تتجاوز الإنفاق السنوي الكامل لروسيا.
وإلى جانب الحاجة إلى تغذية آلة الحرب الأميركية "التي لا تشبع"، هناك غالباً اعتبارات داخلية أخرى تؤثر على القرارات العسكرية، كما قال كوزنيك، متابعاً: "كان الجمهوريون دائماً يتهمون الديمقراطيين بأنهم ضعفاء في السياسات الأمنية، والآن قلب الديمقراطيون الطاولة. وأصبحوا يتبعون استراتيجيات أكثر قوة لتغيير هذه الصورة، ناهيك عن وجود جماعات عرقية أو سياسية داخل الولايات المتحدة تدعم الأعمال العسكرية لأسباب خاصة بها".
في كثير من الأحيان يشار إلى أن الديمقراطيين والجمهوريين متفقون إلى حد كبير في السياسة الخارجية والعسكرية، رغم وجود اختلافات كبيرة في السياسة الداخلية. وهو رأي يؤيده كوزنيك واصفاً الحزبين بـ"حزب حربي مزدوج"، ويقول إن الديمقراطيين أصبحوا هم الأكثر ميلًا للتسلح بدلاً من الجمهوريين، "وهو أمر مؤسف".
وذكر كوزنيك أنه لفترة طويلة، كان الجمهوريون يسعون لزيادة الإنفاق العسكري، بينما كان الديمقراطيون يفضلون تخصيص المزيد من الأموال للبرامج الاجتماعية، "لكن، للأسف، لم يعد ذلك هو الوضع الحالي.. إذا كنت قد شاهدت مؤتمر الحزب الديمقراطي هذا العام، فقد لاحظت ظهوراً كبيراً للتسليح، ورفع الأعلام، والدعوة للحرب، عندما احتفلت هاريس بقدرة الجيش الأميركي على الفتك".
الحرب العالمية الأولى 1917-1918
استمرت الحرب العالمية الأولى 3 سنوات قبل أن تكسر الولايات المتحدة سياسة الحياد.
وكان الديمقراطي وودرو ويلسون رئيساً للولايات المتحدة في ذلك الحين، وأُعيد انتخابه بفارق ضئيل في عام 1916 تحت شعار "لقد أبقانا خارج الحرب"، لكن في غضون 5 أشهر من إعادة انتخابه، دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى.
وعلى الرغم من أن الدافع لدخول الولايات المتحدة الحرب هو حماية مصالحها المالية، كما أُشيع حينها، حيث قدمت بنوكها قروضاً ضخمة لدول الحلفاء فرنسا وبريطانيا وكانت تخشى خسارة هذه الأموال إذا خسر الحلفاء الحرب، فإن الباحث السياسي في مركز الدراسات السياسية التابع لجامعة فيرجينينا جون مايلز كولمان يلفت إلى الرغبة السياسية لويلسون للمشاركة في إعادة تشكيل العالم، والتي كانت المحرك الأكبر لدخول الحرب، خاصة أنه كان يريد أن يضمن أن يكون للولايات المتحدة دور كبير في تشكيل العالم بعد الحرب.
وقال كولمان، في حديثه مع "الشرق"، إن ويلسون أدرك أن الولايات المتحدة لن يكون لها يد في تشكيل عالم ما بعد الحرب إذا لم تكن واحدة من الأطراف المتحاربة، "وكان يريد ذلك بشدة".
وانتهت رسمياً الحرب العالمية الأولى بتوقيع معاهدة فرساي في عام 1919، وكان الديمقراطي ويلسون مازال رئيساً للولايات المتحدة، فشاركت إدارته في مفاوضات السلام وساهمت في إنهاء الحرب بشكل رسمي من خلال هذه المعاهدة، ولعب ويلسون دوراً رئيسياً في صياغة المعاهدة، وكان أحد أبرز مبادريها من خلال "النقاط الأربع عشرة" التي اقترحها كأساس للسلام الدائم.
الحرب العالمية الثانية 1941-1945
دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية بعد هجوم اليابان على بيرل هاربور في 1941، وأعلنت ألمانيا الحرب على الولايات المتحدة.
وحفز الحدثان الرئيس الديمقراطي، حينها، فرانكلين روزفلت على الدخول في الحرب، لكنه "كان حريصاً في كل الأحوال على محاربة ألمانيا واليابان"، بحسب كوزنيك.
وبينما لم تكن الحرب العالمية الأولى حرباً ذات دوافع نبيلة، بل كانت إلى حد كبير حرباً لإعادة توزيع المستعمرات، وكان يمكن تجنبها، كانت الحرب العالمية الثانية حرباً ضرورية، على حد قول كوزنيك، وكانت الولايات المتحدة تقف في الجانب الصحيح.
ومثل الحرب العالمية الأولى، التي بدأت وانتهت والولايات المتحدة تحت إدارة ديمقراطية، كانت الحرب العالمية الثانية أيضاً.
في عام 1945 استسلمت ألمانيا بعد سلسلة من الانتصارات التي حققها الحلفاء، وتوفي الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت في نفس العام، ليتولى الديمقراطي هاري ترومان الرئاسة، ويستمر في قيادة الولايات المتحدة حتى انتهاء الحرب.
قرر ترومان استخدام القنابل النووية كوسيلة لإنهاء الحرب مع اليابان بسرعة وتقليل الخسائر الأميركية.
وفي 6 أغسطس 1945، تم قصف هيروشيما بقنبلة نووية أطلق عليها اسم "الولد الصغير"، وبعد 3 أيام، تم قصف ناجازاكي بقنبلة أخرى أطلق عليها اسم "الرجل البدين".
ودفع ذلك اليابان إلى الاستسلام في 15 أغسطس 1945 لتنتهي الحرب العالمية الثانية.
الحرب الكورية 1950- 1953
في عام 1950، اجتاز حوالي 75 ألف جندي من جيش كوريا الشمالية خط العرض 38، الذي يفصل بين جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية المدعومة من الاتحاد السوفيتي في الشمال وجمهورية كوريا الجنوبية الموالية للولايات المتحدة. وكان هذا الغزو هو أول عمل عسكري خلال فترة الحرب الباردة.
أمر الرئيس الديمقراطي هاري ترومان بتدخل عسكري أميركي في شبه الجزيرة، معتبراً تلك الحرب معركة ضد القوى الشيوعية العالمية.
وأسفرت الحرب الكورية عن سقوط نحو 5 ملايين شخص من بينهم 40 ألف أميركي، ويُطلق عليها كثيرون في الولايات المتحدة "الحرب المنسية"، نظرا لقلة الاهتمام الذي نالته مقارنة بالحروب الأكثر شهرة مثل الحربين العالميتين وحرب فيتنام.
وفي يوليو 1953، خلال فترة رئاسة الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور، انتهت الحرب الكورية باتفاقية هدنة.
حرب فيتنام 1955-1975
امتدت حرب فيتنام طويلاً بين الشمال المدعوم من الاتحاد السوفيتي والصين، وجنوب فيتنام المدعوم من الولايات المتحدة وحلفائها.
وشاركت الولايات المتحدة في الحرب بشكل محدود تحت إدارة الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور، في عام 1955، ثم تسارعت وتيرة الحرب في عهد الرئيس الديمقراطي جون كينيدي، وعلى الرغم من ذلك يرى كوزنيك أن كينيدي كان عازماً على إنهائها قبيل اغتياله.
وجاء التصعيد الأكبر في عهد الرئيس ليندون جونسون بعد حادثة خليج تونكين عام 1964، حيث تعرضت المدمرة الأميركية يو إس إس مادوكس لهجوم من زوارق طوربيد فيتنامية، ورغم عدم تضرر السفينة الأميركية بشكل كبير فإن الولايات المتحدة اعتبرت الحدث عدوانا كبير، على إثره بدأ التدخل العسكري المباشر.
انتهت الحرب في عهد الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، الذي قاد مفاوضات اتفاقيات باريس للسلام عام 1973، تلاها سحب القوات الأميركية من فيتنام.
وذكر كولمان أن سياسة نيكسون كانت تركز على سحب القوات القتالية الأميركية وشن حرب جوية واسعة النطاق، "كان الرئيس ليندون جونسون على وشك التفاوض على تسوية كانت قريبة جداً؛ مما وافق عليه نيكسون في عام 1973، لكن نيكسون قام بتخريب تلك الاتفاقية من خلال إبلاغ القادة الفيتناميين بعدم التوقيع عليها، وأخبرهم بأنه سيحقق لهم نتائج أفضل عندما يصبح رئيساً".
حرب الخليج 1990-1991
كانت حرب الخليج أول حرب تدخلها الولايات المتحدة رسمياً منذ عهد الرئيس ليندون جونسون، وذلك تحت قيادة الرئيس الجمهوري جورج بوش الأب.
وجاءت الحرب تحت ذريعة حماية الكويت بعد غزو العراق للكويت بقيادة صدام حسين عام 1990. عندما رفض العراق الانسحاب من الكويت بحلول يناير 1991، أُطلقت عملية "عاصفة الصحراء"، حيث دخلت قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بحجة تحرير الكويت، واستمرت الحرب حوالي 6 أسابيع، وانتهت بانسحاب الجيش العراقي من الكويت في عهد بوش الأب مع بقاء القوات الأميركية في منطقة الخليج.
حرب أفغانستان 2001- 2021
بدأت الحرب في أفغانستان في أكتوبر 2001، عندما أطلق الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش عملية "الحرية الدائمة" بعد أقل من شهر من هجمات 11 سبتمبر. وكانت الحملة تستهدف تدمير القاعدة والإطاحة بنظام طالبان الذي كان سيطر على أفغانستان آنذاك.
خلال فترة رئاسة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، تم تعزيز القوات الأميركية في أفغانستان، وقرر أوباما لاحقاً تقليص حجمها تدريجياً، لتصل إلى حوالي 8400 جندي بحلول نهاية ولايته.
عندما تولى الرئيس الديمقراطي جو بايدن الحكم، قرر سحب جميع القوات الأميركية وإنهاء أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة، لكن الرئيس الجمهوري دونالد ترمب كان هو الذي تفاوض، بالأساس، على الخروج من أفغانستان، في حين أن بايدن هو الذي نفذ ذلك.
وفي أغسطس 2021، ومع اقتراب موعد الانسحاب النهائي، سيطرت حركة طالبان على معظم أفغانستان، بما في ذلك العاصمة كابول، وشهد انسحاب القوات الأميركية فوضى كبيرة، خاصة بعد التفجير الذي استهدف مطار كابول، وأسفر عن سقوط عشرات المدنيين الأفغان.
حرب العراق 2003- 2011
بدأت حرب العراق في عام 2003 عندما أطلق الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن عملية "حرية العراق"، بهدف الإطاحة بنظام صدام حسين. استمرت الحرب لعدة سنوات مع تصاعد العنف والصراع الداخلي.
انتهت الحرب رسمياً في عام 2011 خلال رئاسة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، الذي أشرف على سحب القوات الأميركية من العراق بعد 8 سنوات من التدخل العسكري.
قاتلت الولايات المتحدة في العراق لمدة 8 سنوات، وفي أفغانستان لمدة 20 سنة، وقد أُرهِق الأميركيون من الحروب في كلا الحالتين. حتى أن بعض صانعي السياسة أدركوا أنه لا يمكن الفوز بأي من الحربين عسكرياً.
وقال كوزنيك أن الولايات المتحدة كانت تنفق أموالاً هائلة لتمويل الحروب، بالإضافة إلى إمبراطوريتها المستمرة من القواعد العسكرية.
وأضاف أن الانسحاب من المنطقة كان جزءاً من "التحول" نحو آسيا الذي أعلنه أوباما وهيلاري كلينتون في عام 2011، "وما زالت هذه العملية جارية، وقد تم قطعها مرة أخرى بسبب الحرب في أوكرانيا وبسبب الحرب الإقليمية في جنوب غرب آسيا، لكن أوباما وترمب وبايدن جميعهم رأوا الصين كتهديد للهيمنة الأميركية".
ويتابع كوزنيك: "لم تقبل الولايات المتحدة واقع أنها تعيش في عالم متعدد الأقطاب، وحاولت التمسك بسيطرتها العالمية، ونتيجة جزئية لذلك، أصبحنا على حافة حرب نووية كما لم نكن منذ 62 عاماً.. وهذا أمر خطير ومخيف".
التشابه بين الحزبين أكبر من الاختلافات
عادة ما تنتهي الحرب بالنصر أو الهزيمة أو المفاوضات، لكن الولايات المتحدة لم تنتصر في حرب حقيقية على أرض المعركة منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب كوزنيك.
وشدد كوزنيك على أن الحروب الكبرى في الولايات المتحدة حظيت بدعم الحزبين في بداياتها ونهاياتها، حيث تتشكل السياسة الخارجية من خلال ما يُعرف بـ "الكتلة" أو المؤسسة، التي تضم المحافظين الجدد ومجلس العلاقات الخارجية والمجمع الصناعي العسكري، وهم يمثلون كلا الحزبين.
ولفت إلى أن الجمهوريين يميلون إلى تبني مواقف أكثر تشدداً، وغالباً ما يرون أنفسهم فوق السياسة الحزبية، التي يعتبرونها مجرد مسرحية لصرف انتباه الجمهور.
وذكر كوزنيك أن وسائل الإعلام الأميركية تشجع دعاة الحرب من الحزبين، ونادراً ما يتم دعوة منتقدي الإمبراطورية العسكرية للظهور في الشبكات الكبرى، "لذلك، يمكن القول إن أوجه التشابه بين الديمقراطيين والجمهوريين أكبر من اختلافاتهم".
واعتبر كوزنيك تبني ترمب لشعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددا" نوعاً من العودة إلى الانعزالية الجمهورية السابقة، مرجحا أن ترمب قد يسحب الدعم عن أوكرانيا في صراعها مع روسيا، لكنه سيكون أكثر تشددًا في الدفاع عن إسرائيل ومعارضة الصين، "إن تهور ترمب واندفاعه قد يكونان خطرين في العصر النووي".
من جهة أخرى، لفت كوزنيك إلى أن المرشحة الديمقراطية للرئاسة كامالا هاريس لم تطرح أي أفكار جديدة بشأن السياسة الخارجية، "ويبدو أنها مستعدة للاستمرار في العسكرة الجديدة التي ابتكرها الديمقراطيون، وهو ما يُعتبر خطيرًا في سياقات مثل أوكرانيا وجنوب غرب آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ".