أبرز الجدل بشأن السماح لأوكرانيا بتوجيه ضربات صاروخية بعيدة المدى إلى عمق الأراضي الروسية، مدى الخلاف القائم بين أعضاء الناتو بشأن قضية تسليح كييف، خاصة مع تصاعد تهديدات موسكو ضد أي دولة قد تساهم في تلك الخطوة حتى لو كانت بصواريخ تقليدية.
ولم يقتصر الصراع في أوكرانيا على تعميق الهوة بين الغرب وروسيا، إذ فاقم الانقسامات داخل الناتو بشأن طبيعة الدعم الذي يجب تقديمه لكييف، وما إذا كان يجب أن يمتد إلى تزويدها بأسلحة بعيدة المدى أو الاكتفاء بالأسلحة الدفاعية.
ويأتي هذا الانقسام، في وقت تمر فيه وحدة حلف شمال الأطلسي بأصعب مراحلها، حيث يمثل تحدياً لوحدة الحلف وتماسكه، وترتب اختباراً صعباً لقيادته الجديدة المتمثلة في مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي السابق، وذلك بعد أن تولى أمانة الناتو العامة خلفاً للنرويجي ينس ستولتنبرج الذي يتولى قيادة التحالف العسكري الأكبر في الغرب، إن لم يكن في العالم، منذ عام 2014.
وينبع الجدل، في هذا التحالف، من المخاوف بشأن تداعيات السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحة بعيدة المدى، تصل إلى عُمق روسيا، مع ما قد يخلفه ذلك من انعكاسات عسكرية وسياسية وإنسانية، والتي يتوقع أن تتجاوز حدود الصراع الروسي-الأوكراني، الذي يؤثر على النظام الدولي برمته.
دعم أوكرانيا بين الاندفاع والحذر
في خطاب ألقاه خلال مراسم تسلمه لمنصب الأمين، في مقر الحلف في بروكسل، أكد روته، الأربعاء الماضي، دعم الحلف لحق أوكرانيا في الدفاع عن النفس، معتبراً أن القانون الدولي يبرر هذا الحق، حتى لو تطلب الأمر ضرب أهداف عسكرية مشروعة داخل الأراضي الروسية". جاء هذا التأكيد في ظل التطورات المتسارعة في الحرب الأوكرانية، مما يضع الحلف أمام تحديات جديدة.
وأضاف روته، أن "قرار كل دولة عضو بشأن مستوى دعمها أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى يمكن أن تصل إلى الأراضي الروسية هو قرار سيادي، إلا أن الحلف يعمل بشكل جماعي لتقديم المساعدات العسكرية والإنسانية اللازمة لأوكرانيا".
ويرى الخبير في الشؤون الأطلسية، إدواردو دجا، من معهد CFI للشؤون الدولية في بروكسل لـ"الشرق"، إن روته، بصفته الأمين العام الجديد للحلف، يواجه تحدياً كبيراً في إيجاد توافق في الآراء بشأن توفير الأسلحة بعيدة المدى لأوكرانيا، مشيراً إلى عوامل عدة تزيد من تعقيدات هذه المهمة، من بينها الاختلافات الجيوسياسية بين الحلفاء. فبينما تؤيد دول مثل الولايات المتحدة وبولندا ودول البلطيق الثلاثة (ليتونيا وإستونيا ولاتفيا) زيادة المساعدات العسكرية، تتخذ دول أخرى مثل ألمانيا وفرنسا موقفاً أكثر حذراً، خشية التصعيد إذا ضربت أوكرانيا أهدافاً داخل روسيا.
ولفت إلى أن الأنظار ستبقى مركزة على القيادة التي تبني الإجماع، وقد يشجع روته على اتباع نهج تدريجي، يبدأ بتعزيز دفاعات أوكرانيا قبل النظر في توفير الأسلحة بعيدة المدى. ويمكن أن يلعب مارك روته بخبرته السياسية كرئيس وزراء هولندا في السابق، دوراً رئيسياً كوسيط بين دول الأعضاء في حلف الناتو.
مخاوف انتقال الصراع إلى أراضي روسيا
خلال زيارته إلى بروكسل، اعتبر، وزير الدفاع الإيطالي، جويدو كروسيتو، في تصريحات للصحافيين، الخميس الماضي، أنه "لا ينبغي لأي دولة أن تغزو دولة أخرى، فهذا مبدأ عام لا ينطبق فقط على الحرب في أوكرانيا. يجب أن يكون الهدف هو وقف إطلاق النار واستعادة قواعد القانون الدولي".
وأعرب كروسيتو عن مخاوفه من انتقال الصراع إلى الأراضي الروسية، مشيراً إلى أن ذلك قد يؤدي إلى تفاقم الوضع على الجبهة الأوكرانية. وأضاف: "إذا كنا نسعى لتحقيق السلام، فلا يمكننا تشجيع المزيد من الخطوات الحربية التي تؤدي إلى صراع أكثر تعقيداً".
وأكد كروسيتو، أن بلاده تزود أوكرانيا بأسلحة دفاعية فقط، وأنه "في أي هجوم أوكراني، لا توجد أسلحة إيطالية قد تزيد من تعقيد المشهد أكثر مما هو عليه".
وتشمل الصواريخ بعيدة المدى أنظمة مثل "ستورم شادو" البريطانية و"سكالب" الفرنسية ونظام الصواريخ التكتيكية "أتاكمز" الأميركية الصنع.
وتستخدم كييف بالفعل صواريخ "ستورم شادو"، التي تطلق من الجو، وصواريخ أرض- أرض من نوع "أتاكمز"، ومهمتها الاستهداف الدقيق لمنشآت العسكرية والبنية التحتية الاستراتيجية داخل الأراضي التي "تسيطر عليها روسيا"، بعدما كانت يوم ما جزءاً من أوكرانيا، ولكن ليس على الأراضي الروسية السيادية نفسها، في إشارة إلى المقاطعات التي ضمتها روسيا، مثل دونيتسك وخيرسون ولوغانسك وزابوروجيا، عندما شنت هجومها على أوكرانيا في عام 2022، بعدما كانت شنت حملة مماثلة، في عام 2014، استحوذت خلالها على شبه جزيرة القرم.
التهديد الروسي بالأسلحة النووية
وبالتوازي مع تزايد النقاش بشأن الأسلحة البعيدة المدى، عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي، اجتماعاً طارئاً مع مجلس الأمن القومي الروسي، أكد بعده ضرورة تعديل العقيدة النووية الروسية لتتناسب مع التهديدات المتزايدة، محذراً، من أنه، بموجب التعديلات المقترحة، سيكون بإمكان موسكو أن تستخدم الأسلحة النووية، في حال تعرضها لضربات صاروخية تقليدية، محذراً من أنها ستعتبر أي قوة نووية تدعم هذا الهجوم الصاروخي، على بلاده، شريكة في هذا الهجوم.
كان ذلك تهديداً واضحاً من بوتين للغرب، ليلجمه عن الدعم، موضع الجدل، لأوكرانيا، وهو ما عاد وأكد عليه المتحدث باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف، بعدها بأيام، معتبراً أن الحديث عن تغيير العقيدة النووية"، هو "إشارة يجب اعتبارها واضحة" للغرب، وهو ما أكد صحة المخاوف العالمية، بشأن احتمال تصعيد الموقف النووي.
وقال نيكولاس فيورنيزا، الخبير في شؤون الدفاع والمحرر في وكالة "جينز"، التي تصنّف كمزود للمعلومات الاستخباراتية والدفاعية، ومقرها لندن "إن قرار تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى قرار فردي تتخذه كل دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، وليس قرارا جماعيا للحلف".
وأوضح فيورنزا أن بريطانيا، والولايات المتحدة لم تمنحا الإذن علناً، لأوكرانيا، استخدام صواريخ "ستورم شادو"، فيما يستمر تردد واشنطن، في تزويدها بصواريخ ATACMS (أرض- أرض)، نظراً إلى تكلفتها المرتفعة.
ويشير فيورنزا، إلى اعتقاد الروس بأن "أوكرانيا استخدمت بالفعل صواريخ ATACMS وStorm Shadow لاستهداف جسر كيرتش الذي يربط الأراضي الروسية بشبه جزيرة القرم"، في حين نقلت وسائل الإعلام الروسية عن حاكم مقاطعة خيرسون، فلاديمير سالدو، في ديسمبر 2023، قوله إن نظام الدفاع الجوي الروسي أسقط صاروخًا أطلقته القوات الأوكرانية باتجاه جسر القرم فوق بحر آزوف".
تجميد توسع الناتو
ويرى فيورنزا أن موضوع الصواريخ الغربية البعيدة المدى، قد يستخدم كأداة ضغط في أي مفاوضات مستقبلية لإنهاء الصراع. لكنه يحذر، من أن هذا الملف الشائك قد يشهد تطورات جديدة في حال فوز المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية، الرئيس السابق دونالد ترمب بالانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل، حيث من المتوقع أن يشهد الدعم الأميركي لأوكرانيا تراجعاً كبيراً.
وينوّه فيورنزا، إلى أن "أحد شروط توسع حلف شمال الأطلسي، بعد الحرب الباردة، يقضي بعدم وجود خلافات بين الأعضاء الجدد وجيرانهم، وهو ما لا ينطبق حاليًا على أوكرانيا"، مرجحاً أن لا ينطبق عليها أيضاً، حتى بعد انتهاء الحرب، لأنه "سيكون صراعًا مجمدًا"، واصفاً روسيا بأنها "دولة انتقامية".
علاوة على ذلك، فإن التهديدات النووية الروسية تزيد من تعقيد الوضع، وتحد من خيارات الناتو في دعم أوكرانيا. هذا الوضع قد يؤدي إلى تجميد الصراع على المدى الطويل، مما يترك المنطقة في حالة من عدم الاستقرار، ويؤثر سلباً على الأمن الأوروبي.
معارضة في الناتو
لطالما رفضت ألمانيا إرسال صواريخها بعيدة المدى من طراز "توروس" إلى كييف، معربةً عن مخاوف بشأن التصعيد الدولي.
وبالمثل، أعربت المجر عن رفضها تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى، حيث حذر وزير الخارجية المجري بيتر سيارتو في وقت سابق من أن أي ضربات أوكرانية بعيدة المدى على روسيا قد تؤدي إلى تصعيد الصراع بشكل أكبر.
ودعا سيارتو إلى وضع حد لـ"هذا الجنون" وعدم إرسال إمدادات جديدة من الأسلحة إلى أوكرانيا. وفي هذا السياق، لم تعلق وزارة الدفاع المجرية على هذه الجزئية بعدما طالبتها "الشرق" بالتعليق.
وأشار خبير عسكري أوروبي، طلب عدم كشف هويته، في تصريحات لـ"الشرق"، إلى أن هذا التكتم "يعكس الطبيعة الحساسة للموضوع والتداعيات المحتملة لأي قرار بهذا الشأن".
تغيير ميزان القوى وتداعياته العسكرية
يُعتقد على نطاق واسع، أن تسليح أوكرانيا يُعيد تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة بشكل جذري، ما يزيد من حدة التوترات، ويُهدد بتصعيد الصراع في المنطقة. هذا التغيير في ميزان القوى يدفع روسيا إلى اتخاذ إجراءات مضادة، ما قد يؤدي إلى توسع نطاق الصراع وانتقاله إلى مناطق أخرى. كما يستدعي هذا الوضع زيادة الإنفاق العسكري للدول المعنية، وتشكل تحالفات عسكرية جديدة، الأمر الذي يزيد من المخاطر العالمية.
وفي هذا السياق، يشهد حلف الناتو، نتيجة لذلك، تجديداً لحيويته، مع زيادة الإنفاق العسكري وتعزيز التعاون بين أعضائه، رغم وجود انقسامات داخلية. وقد أدت هذه الأحداث إلى ظهور أساليب حرب جديدة، مثل استخدام الطائرات المسيرة والحرب الإلكترونية، ما يؤكد على أهمية الاستخبارات والعمليات الخاصة في الحروب الحديثة.
من جانبه، يرى موريزيو جيري، ضابط الاحتياط في البحرية الإيطالية والخبير في التعاون الاستراتيجي بين الناتو والاتحاد الأوروبي والحرب الهجينة الروسية، أن الحرب في أوكرانيا ليست حرباً تقليدية بقدر ما هي حرب هجينة معقدة.
وشدد موريزيو، في تصريحات لـ"الشرق"، على ضرورة أن يفوز الغرب في هذه الحرب على المستويات السياسية والدبلوماسية والنفسية والإلكترونية.
ويقترح جيري أن العقوبات الاقتصادية، خاصة تلك التي تستهدف قطاع الطاقة، يمكن أن تكون أداة فعالة للحد من الهجمات الروسية. كما يحذر من استخدام التهديد النووي كأداة في الحرب النفسية، مؤكداً أن حلف الناتو سيرد بحزم في حال حدوث أي هجوم نووي على أوكرانيا، نظراً لأهمية أوكرانيا الاستراتيجية لأوروبا.
لا شك، أن الصراع الدائر في أوكرانيا يمثل تهديداً وجودياً للأمن والاستقرار الأوروبيين، والتلويح الروسي بالورقة النووية، يزيد الخشية من استخدامها من قبل موسكو، في حال تعرضت لضربات موجِعة، على يد أوكرانيا، بأسلحة غربية.